أفريقيا برس – مصر. قبل سنوات، لم يكن البيت الريفي المصري يخلو من حمار، ولم يكن مجرد دابة تنقل أو تحرث، بل عضو في العائلة، ويشاركها التفاصيل اليومية. كان مشهد الحمار المربوط إلى جذع شجرة، أو الواقف أمام باب المنزل، ثابتاً في حياة القرويين، تماماً مثل “طابونة” الخبز و”الطلمبة”، لكن هذا المشهد آخذ في الاندثار.
وتظهر جدارية عثر عليها علماء آثار بمقبرة فرعونية في جنوبي مصر رجلاً برأس حمار، ما يربطه كثيرون بقدرة هذا الحيوان الأليف على التحلّي بالصبر مع تمتعه بالذكاء. واليوم، يتخلّى مصريون عن حميرهم التي ظلت تحملهم مع أثقالهم لقرون طويلة.
في إحدى قرى “أبيس” في مدينة الإسكندرية شمالي مصر، يجلس عيد عبد الموجود أمام منزله المقام إلى جوار أرضه الزراعية، يتأمل فناء البيت الخالي إلّا من “جُرن” مهمل، وعربة خشبية صدئة. يسترجع ذكرياته قائلاً: “كان عندي ثلاثة حمير، واحد يحرث الأرض، وآخر يحمل المحاصيل، وثالث نُطلق عليه اسم حمار البيت، وكان وسيلة النقل التي تربطنا بالقرى المحيطة. اليوم ليس عندي سوى ماكينة (دراجة نارية). وهي لا تفهمني، ولا أكلّمها في وقت الضيق”، يقولها بضحكة باهتة ثم يطلق تنهيدة طويلة كمن يستعيد ماضياً لم يعد له وجود.
ويُواجه الفلاحون زيادةً كبيرةً في تكلفة إطعام الحمار وغيره من الماشية، نتيجة غلاء الأعلاف وتكاليف الرعاية البيطرية. يقول أحد فلّاحي أبيس: “كلفة أكل الحمار أكبر من قيمة شغله، ولو مرض فإن علاجه قد يكلّف نحو نصف ثمنه، وكثير من الفلاحين، خاصة الشباب، يرونه عبئاً أو بلا فائدة، الأمر الذي دفع كثيرين إلى التخلص من عبء تربيته، وبيعه للتجار الذين يستغلون الحمير في تجارة الجلود”.
لكن العامل الأكثر إثارةً للجدل هو اتجاه بعض الشركات المصرية إلى تصدير الحمير، خصوصاً إلى الدول الآسيوية، والتي تستخدم جلود الحمير في إنتاج عقار “إيجياو” التقليدي المستخدم مقوياً جنسياً للرجال، ما فجّر ظاهرة ذبح الحمير لتهريب جلودها إلى الخارج، في استغلال لضعف الرقابة وعدم نجاعة العقوبات.
ويؤكد نقيب الفلاحين في مصر، حسين أبو صدام، أن أعداد الحمير تراجعت من نحو ثلاثة ملايين حمار إلى أقل من مليون حالياً، في أعقاب تزايد عمليات ذبح الحمير لتصدير جلودها إلى الخارج، موضحاً أن “التراجع الحاد لا يُفسره عامل واحد، بل منظومة كاملة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أعادت صياغة الريف المصري. تناقص عدد الحمير يعود إلى تزايد الاعتماد على الميكنة الزراعية، واختفاء المحراث الذي كان يجرّه الحمار مع تزايد الحاجة إلى السرعة، ليختفي الحمار من الحقول تدريجياً”.
يضيف أبو صدام: “الريف المصري يتغيّر بسرعة. في صغري، لم يكن هناك بيت ريفي من غير حمار. والآن يتكلمون عن تصديره. لا توجد استراتيجية تحمي الحمار، وكأن انقراضه لا يعني أحداً. رخص ثمن الحمار، والذي يتراوح بين 5 آلاف إلى 15 ألف جنيه، يغري ضعاف النفوس لذبحه بطرق غير قانونية، وهذا لبيع جلده، والذي يصل سعره إلى نحو 300 دولار، ما يعني أكثر من سعر بيع الحمار نفسه. كذلك يفترض أن يتم التخلص من بقية أجزاء الحمار بطريقة صحية، أو تسليمها إلى حدائق الحيوان، لكن هناك حالات تتسرب فيها هذه اللحوم إلى المطاعم، وقد ضُبط عدد من الوقائع بالفعل”.
وأثارت تصريحات نقيب الفلاحين مخاوف كثير من المصريين، والذين يتابعون تعدّد حالات ضبط لحوم حمير كانت معدة للبيع في الأسواق خلال الفترة الماضية، وآخرها ضبط مزرعة تذبح الحمير، وتقوم بفرم لحومها في محافظة الإسماعيلية (شرق).
وسبق أن أعلنت مديرية الطب البيطري بمحافظة سوهاج (جنوب) ضبط الأجهزة الأمنية نحو 400 كيلو من لحوم الحمير، والتي كانت في طريقها إلى مطعم، وتكرّر نفس المشهد داخل إحدى قرى المحافظة، حيث جرى العثور على حمير مذبوحة استعداداً لبيع لحومها على أنها لحوم أبقار.
ويؤكد مسؤول في الهيئة العامة للخدمات البيطرية بمحافظة الإسكندرية، طلب عدم ذكر اسمه، أن الحكومة لا تصدر تراخيص تتيح تصدير الحمير الحية، لكن بعض الجهات تُصرّح بتصدير الجلود بعد الذبح في مجازر محددة، وتحت إشراف بيطري. وهو يقرّ بوجود حالات ذبح لحمير لبيع لحومها بأسعار رخيصة، مشيراً إلى صعوبة إحكام الرقابة في بعض المحافظات.
وبينما تحوّلت الحمير من حيوانات منزلية مهمة إلى مجرد مادة للتصدير، يتصاعد الغضب في أوساط نشطاء حقوق الحيوان بسبب التداعيات السلبية لقرار وزارة التجارة والصناعة السماح بتصدير جلود الحمير إلى الصين. تقول دينا المحلاوي، وهي عضو جمعية مهتمة بحقوق الحيوان: “ما يحصل مع الحمير هو جريمة مزدوجة مكونة من إهمال محلي وتصدير خارجي مبني على استغلال المخلوق المسالم. هناك دول تستخدمه في صناعة الأدوية، أو حتى في أكل لحمه، لكن البعض في مصر يقتلونه سراً للمتاجرة بجلده، ما يهدد بانقراض الحمار المصري خلال فترة وجيزة”.
تضيف المحلاوي: “رغم أنه لا توجد في قانون العقوبات المصري مادة صريحة تعاقب على الاتجار في لحوم الحمير، لكن الجريمة تقع تحت طائلة جرائم الغش التجاري، وبيع سلع غير صالحة للاستهلاك الآدمي بقصد التربح، كما أن ذبح الحمير بغرض الاستهلاك الآدمي يمثل مخالفة للقانون، ويعرض فاعله للمساءلة، وينبغي إقرار قوانين تغلّظ عقوبة مثل هذه الانتهاكات”.
بدوره، يقول أستاذ التراث المصري، طارق سعيد، إن “ما يجعل انقراض الحمار مؤلماً أكثر من غيره من الحيوانات المنزلية، هو مكانته في الذاكرة المصرية، فعلى مدار قرون، ظل الحمار رمزاً للمثابرة والتواضع، وقد ورد في عشرات الأمثال الشعبية والنُكات، وفي الكتب المدرسية القديمة، كان الحمار رفيقاً للطفل الريفي، وكان في الأغاني الشعبية زينة المولد، أما اليوم، فقد أصبح مادة للسخرية والتهكم، وتحوّل من بطل للكدح إلى شتيمة”.
يتابع سعيد: “ربما لم يعد الحمار حيوياً في الاقتصاد الزراعي الحديث، لكن فقدانه يعني أكثر من مجرد غياب كائن، بل يمتد إلى فقد جزء من ذاكرة المشهد، ومن العلاقة بين الإنسان وغيره من الكائنات التي تعيش إلى جواره، خصوصاً لو كانت تشاركه أفراحه وأعباءه”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس