إبراهيم نوار
أفريقيا برس – مصر. تواجه سياسة إدارة الدين العام لأجهزة الموازنة العامة للدولة في مصر خمسة تحديات رئيسية تضع الحكومة في ركن ضيق جدا يقلل قدرتها على الحركة والمناورة. هذه التحديات تتمثل أولا في ارتفاع سعر الفائدة على الدولار، الذي يعتبر سعر القياس للعائد على الاستثمارات في الأوراق المالية الحكومية على مستوى العالم.
وثانيا، زيادة لجوء دول الاتحاد الأوروبي وغيرها إلى الاقتراض من الأسواق لتمويل احتياجات تخفيف أزمة الطاقة وأزمة غلاء المعيشة، وهي تحصل على أولوية التمويل في السوق مقارنة بالدول النامية.
وثالثا، انصراف المستثمرين الأجانب عن أوراق التمويل الحكومية المصرية، بسبب تحول العائد على الاستثمار في الجنيه إلى معدل سلبي نتيجة ارتفاع التضخم.
ورابعا، عدم اليقين بشأن السياسات النقدية والمالية عموما، خصوصا سياسة سعر الصرف، وزيادة توقعات المستثمرين بأن تضطر الحكومة إلى تخفيض قيمة الجنيه تدريجيا، تمهيدا لتعويمه بعد ذلك. التعويم لا يعني حسبما يعتقد البعض عدم تدخل البنك المركزي مطلقا؛ لأن البنك من سلطته التدخل في السوق بائعا ومشتريا أو باستخدام سلاح أسعار الفائدة. خامسا، فوق كل ذلك فإن تفاقم عجز الحساب الجاري، على الرغم من القيود المفروضة على الواردات، يضع موارد البلاد من العملات الأجنبية تحت ضغط شديد، وهو ما يجعل الجنيه في حالة هبوط حر بلا مصدات تحميه.
هذه التحديات الخمسة قلبت استراتيجية إدارة الدين العام المصري رأسا على عقب، فتوقفت الحكومة عن إصدار أذون وسندات في الأسواق الدولية، كما اضطرت إلى تخفيض إصدارات سندات الخزانة المحلية إلى مستوى ضئيل جدا، وزيادة الاعتماد بشكل كثيف على التمويل بأذون الخزانة، مع تحريك العائد إلى أعلى بما يسمح لها بشراء السيولة المالية من البنوك.
كذلك فإن استمرار هذه التحديات يفرض قيودا على مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على قرض جديد، تعتبره الحكومة تأشيرة مرور جديدة للاقتراض من أسواق المال العالمية. ومع أن رئيس الوزراء أعرب عن تفاؤله بقرب التوصل إلى اتفاق مع الصندوق، فليست هناك حتى الآن إشارات واضحة تفيد بأن الصندوق قرر تقديم قرض جديد لمصر.
كما أن قيمة القرض الذي تسعى مصر للحصول عليه من الصندوق ما تزال تحيطها علامات استفهام كبيرة، خصوصا وأن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين يتطلب من مصر أن تقدم للصندوق ما يمكن وصفه بـ «عربون كبير ومضمون» يتعلق بالسياسة النقدية والمالية وإنهاء دور احتكارات الدولة في السوق.
الملاذ الأخير
ملامح الورطة التي وقعت فيها سياسة إدارة الدين العام ظهرت بوضوح منذ الربع الأخير من السنة المالية الأخيرة، ثم امتدت إلى السنة المالية الحالية، بسبب عجز الحكومة عن اتخاذ قرارات حاسمة للخروج من الورطة، واستمرار اعتمادها على سياسية «الإستدانة من أجل تسديد الديون».
وخلال أول شهرين من السنة المالية الحالية اقترضت الحكومة ما يعادل 25.7 مليار دولار من السوق، عن طريق طرح أذون خزانة وسندات وصلت قيمتها إلى 515.4 مليار جنيه، بما يعادل 25.7 مليار دولار تقريبا. وتضمن التمويل الذي حصلت عليه الحكومة: 460 مليار جنيه أذون خزانة، لآجال تتراوح بين 91 إلى 364 يوما، و 42.3 مليار جنيه سندات لآجال 3 و 5 و 7 سنوات.
كما باعت أذون خزانة باليورو لأجل 364 يوما في الشهر الماضي بقيمة 627 مليون يورو، أي ما يعادل حوالي 12.1 مليار جنيه مصري. هذا معناه ارتفاع نسبة التمويل عن طريق أذون الخزانة، وهي قروض قصيرة الأجل، إلى 91.5 في المئة، مقابل ما تستهدفه وزارة المالية من تخفيض نسبة التمويل القصير الأجل إلى 70 في المئة على الأكثر.
كما تقلصت قيمة السندات المحلية المصدرة خلال أول شهرين من السنة المالية إلى 43.8 مليار جنيه فقط، لتستحوذ فقط على 8.5 في المئة من تمويل الدين العام.
وفي الوقت نفسه فإن الحكومة توقفت عن إصدار سندات أجنبية لعدم الإقبال على الاكتتاب فيها عالميا. وكان آخر إصدار لسندات بعملات دولية هو سندات «ساموراي» اليابانية بقيمة 60 مليار ين ياباني تعادل 500 مليون دولار في نهاية اذار/مارس الماضي، يحل أجل استحقاقها في نهاية اذار/مارس عام 2027.
وهي تسعى حاليا إلى إصدار سندات «باندا» باليوان الصيني بقيمة دولارية مماثلة لسندات الساموراي اليابانية. كما تسعى إلى طرح صكوك إسلامية سيادية في السوق الدولية بقيمة تصل إلى ملياري دولار عندما تسمح ظروف السوق. وتواجه الحكومة مشكلة أخرى بخصوص إدارة الدين العام، تتعلق بسداد مستحقات المستثمرين الأجانب الحائزين لسندات مصرية، يحل أجل استحقاقها خلال السنة المالية الحالية.
وتقدر قيمة الديون المصرية القائمة الممولة بسندات أجنبية حتى نهاية السنة المالية الأخيرة حوالي 34.2 مليار دولار، تمتد آجال استحقاقها إلى شهر شباط/فبراير عام 2061 تبلغ تكلفتها السنوية 7.126 في المئة.
كما توجد سندات مستحقة مقومة باليورو تبلغ قيمتها حوالي 4 مليارات يورو، يبلغ متوسط تكلفتها 5.477 في المئة. وتعتبر وزارة المالية أن الدين العام المصري ما يزال في الحدود الآمنة، وذلك نظرا لأن متوسط الدين الحكومي عالميا يبلغ حوالي 99 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن النسبة في مصر ما تزال أقل من ذلك بكثير، حيث بلغت في نهاية السنة المالية الأخيرة حوالي 87.2 في المئة. وعلى ذلك فإن الحكومة تعتبر أنها ما تزال تتمتع بهامش واسع للاقتراض.
تكلفة الاقتراض المحلي
ترافقت القفزة في التمويل بواسطة أذون الخزانة مع ارتفاع في تكلفة التمويل المحلي للدين العام بنسبة 21 في المئة تقريبا منذ بداية السنة المالية الجديدة حتى الآن، حيث ارتفع العائد الذي تدفعه الحكومة لحائزي الأذون والسندات المحلية من 14 في المئة إلى 17 في المئة. وعلى الرغم من ذلك فإن البنك المركزي المصري ما يزال يحافظ على أسعار الفائدة الأساسية عند مستوى 11.25 في المئة.
وكانت الحكومة قد افترضت أن العائد على أذون الخزانة خلال السنة المالية سيكون في حدود 14 في المئة. وطبقا للنموذج المالي للميزانية فإن كل زيادة في تكلفة أذون الخزانة بنسبة واحد في المئة فقط ترفع تكلفة تمويل الدين العام الحكومي بمقدار 30 مليار جنيه مصري سنويا.
وليس من المتوقع أن تنخفض تكلفة الاقتراض قبل التوصل إلى اتفاق تمويلي مع صندوق النقد الدولي. ومن ثم فليس أمام الحكومة غير اللجوء لسوق التمويل المحلي، والمساعدات الحكومية العربية من أجل الحصول على قروض جديدة أو إعادة تدوير القروض القائمة.
وحيث أن البنوك تعتبر أن العائد الذي تحصل عليه هو «ثمن السيولة» فإن القيمة الفعلية للعائد ترتبط بمعدل التضخم. ونظرا لأن معدل التضخم الأساسي وصل في شهر تموز/يوليو إلى 15.6 في المئة، فإن العائد الحقيقي على أموال البنوك المستثمرة في أذون الخزانة يبلغ 0.4 في المئة فقط إذا حسبنا متوسط العائد على الأذون بمعدل 16في المئة.
ولكي تحصل البنوك على عائد يوازي مثيله على أوراق الخزانة الأمريكية لأجل عام، الذي يبلغ حاليا حوالي 3.501 في المئة، فإن ذلك يتطلب رفع أسعار الفائدة بهذه النسبة فوق معدل التضخم، أي إلى 19.1 في المئة، وهو ما يرفع تكلفة الدين العام بنحو 150 مليار جنيه على الأقل.
وليس من المتوقع أن يتقدم مستثمرون أجانب لشراء أوراق مالية مصرية، طالما أن العائد عليها سلبي، وهو ما يعمق أزمة الحكومة في سوق التمويل المحلي. كما أن المستثمرين الأجانب ينظرون بكثير من الريبة إلى سعر الجنيه، الذي يرى بعضهم أنه يجب أن ينخفض إلى ما يتراوح بين 22 إلى 23 جنيها للدولار، على أن يتم تعويمه بمرونة كافية بالاتفاق مع صندوق النقد بعد ذلك.
وتقوم الحكومة فعليا منذ استقالة طارق عامر محافظ البنك المركزي السابق بتخفيض الجنيه يوميا تقريبا، بما يتراوح بين قرش واحد إلى ثلاثة قروش، وهو ما يفتح الباب لتخفيض قيمة الجنيه ببطء. فإذا أرادت الحكومة الإسراع في مفاوضاتها مع صندوق النقد فإنها ستحتاج إلى تخفيضه يوميا بمقدار أكبر، كما أنها ستحتاج أيضا إلى صياغة سياسة نقدية ومالية واقتصادية واضحة وشفافة تستجيب لمطالب الصندوق.
أعباء الدين الخارجي
بلغت قيمة الدين الخارجي لمصر 158 مليار دولار في نهاية اذار/مارس الماضي، منها 83 مليارا مستحقة على الحكومة المركزية و42 مليارا مستحقة على البنك المركزي، و 17 مليارا مستحقة على البنوك، و 15 مليارا مستحقة على قطاعات أخرى، مثل الهيئة العامة للبترول وهيئة التنمية العمرانية. أما قيمة الديون الخارجية المستحقة على القطاع الخاص، غير المضمونة بواسطة الحكومة، فتبلغ 764.5 مليون دولار فقط.
ومن الخطأ محاولة قصر الدين الخارجي على الدين الخارجي للحكومة المركزية فقط. وقد ذكر وزير المالية أن الدين الخارجي للحكومة المقدر بـ 83 مليار دولار لم يتغير في حزيران/يونيو 2022 عما كان عليه قبل عام، وذلك على الرغم من التطورات السلبية على صعيد الاقتصاد العالمي.
لكن الوزير في حقيقة الأمر يتجاهل حقيقة أن قيمة الدين الخارجي المستحق على الحكومة المركزية كان يقدر بحوالي 23.7 مليار دولار في نهاية حزيران/يونيو 2020 حسب البيانات الرسمية للبنك المركزي المصري. هذا يعني أنه زاد بمقدار 3 مرات ونصف خلال عامين فقط، ليصل إلى 83 مليار دولار. الوزير تجاهل ذلك، ومن ثم فإنه لم يقدم تفسيرات له.
المشكلة الأخرى التي يتجاهلها وزير المالية هي أن الدين الخارجي الكلي البالغ 158 مليار دولار تقريبا، إذا حسبناه بالجنيه المصري فإن قيمته ترتفع بنسبة 20 في المئة على الأقل أي إلى 188 مليار دولار.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر اليوم عبر موقع أفريقيا برس