أفريقيا برس – مصر. أقر البرلمان المصري، قانون العمل رقم 14 لسنة 2025، بعد ثماني سنوات من جولات نقاش متقطعة غيب عنها تمثيل حقيقي للعمال والتيارات السياسية، في مقابل حضور غالب لممثلي الغرف الصناعية، والوزارات، وعدد من المجالس القومية، وانتهى المطاف بإصدار التشريع، ونشره في الجريدة الرسمية يوم 3 مايو/أيار الجاري، بالتزامن مع احتفالات عيد العمال، التي جرت في مصنع للقطاع الخاص، يملكه مستثمر عربي.
وخلال الحفل، قدم الرئيس عبد الفتاح السيسي القانون بوصفه ضامناً للحقوق العمالية والأمن الوظيفي، ويرسخ مفاهيم الحماية والإنصاف. ويبدو أن توقيت إعلان التشريع ومكانه كان مقصوداً، حاملاً إشارة حول “بيئة عمل مستقرة” تجذب رأس المال، وتحل مشكلات كان يراها المستثمرون عوائق أمام زيادة أنشطتهم، وسبق أن طرحوا مطالب حول بيئة وعلاقات العمل المحفزة، ومنها مرونة أكبر في التعاقد، وقواعد قانونية تضبط حركة العمال، ما يسمح بتقليل تكاليف التشغيل، بالتركيز على خفض الأجور وزيادة ساعات العمل.
وليس مصادفة أن تكون معظم المواد التي عُدِّلَت من نصوص قانون 2003، واستحدثت بالقانون الحالي، تختص بهذه المطالب، بما يعيد ترتيب موازين القوة لمصلحة أصحاب العمل بدرجة أكبر، ويزيد مظالم للعمال، هذا رغم شعارات دعائية تناولها تقريرا مجلسي الشيوخ والنواب حول التوازن بين طرفي الإنتاج، والتحديث والإصلاح القانوني، بما يتوافق مع الدستور والتزامات مصر الدولية وتطورات أنماط العمل.
وجاء قانون العمل الجديد في سياق منح حوافز أكبر للاستثمار، بعدما منحت الحكومة تسهيلات في الإجراءات الإدارية والضريبية، واليوم تقوم بتطويع البنية القانونية بما يسهم في تخفيض التكاليف وزيادة الأرباح، وهي امتيازات تعيد ترتيب موازين القوة لأرباب العمل، كذلك يعكس الخلل في علاقة الدولة بالمواطنين، وتركيزها على استخدام آليات الضبط ضمن مسار استبدادي يطاول الطبقة العاملة بكل فئاتها ويخضعها لشروط عمل قاسية، حيث يخاطب القانون الجديد عمال القطاع الخاص، وهم غالبية قوة العمل البالغة حوالى 31 مليوناً، ويتكامل مع قانون الخدمة المدنية للعاملين بأجهزة الدولة، البالغ عددهم حوالى 5 ملايين، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء.
إعادة صياغة لعلاقات العمل
تسمح الاستثناءات الواردة في مواد قانون العمل، بامتداد ساعات التشغيل وزيادتها، وتخفيض العلاوة والتهرب من صرفها، مع عدم التزام الحد الأدنى للأجر، بغطاء الطوارئ والظرف الاستثنائي، مع عقود عمل مؤقتة أو دون عقود، وأجور لا تكفي الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة، ما يزيد قسوة ظروف العمل مع قيود صارمة لأنشطة نقابية.
وبهذا الوضع المستجد، رسخت قواعد جديدة، تكرس في ظل الحاجة للشغل، للقبول بشروط عمل مجحفة، وبما يعيد صياغة العلاقة لصالح الطرف الأقوى.
وجاءت الصياغات مدفوعة بأجندة الدولة في جذب الاستثمار، ودالةً على موقفها الطبقي المنحاز الذى يتبين في نصوص القانون، خصوصاً المواد الحاكمة لعلاقات العمل الفردية (الباب الأول من الكتاب الأول) وبينها مواد الأجر، وساعات التشغيل، والتعاقد والفصل والتصفية، وكذلك علاقات العمل الجماعية (الباب الثالث من الكتاب الأول) التي تتضمن عمليات التفاوض وتسوية المنازعات، والإضراب، والإغلاق والتصفية، التي أضعفت ساحة العمال.
كرّس القانون الجديد نمط العمل الهش، الذى يسمى تجميلاً “مرونة العمل”، وبين ذلك جعلت المادة الـ87 صيغة العقود الموقتة القاعدة وليست استثناءً، وسمحت المادة الـ91 لصاحب العمل بالخروج على شروط العقد الفردي أو الاتفاقية الجماعية بحجة “الضرورة”، وكذلك التوظيف بلا عقود في أعمال غير موسمية.
واتصالاً بعلاقات التعاقد، تسمح المادة الـ173 بفصل العامل حال التغيب، بعد استنفاد إجازاته السنوية، وبذلك يُفتَح باب واسع لإنهاء الخدمة، خصوصاً في السنة الأولى من العمل، إذا تجاوز العامل مدة إجازته (15 يوماً)، وكان ممكناً وضع قواعد أقل تعسفاً، مثل الاقتطاع من الراتب حتى العودة إلى العمل بعد التعافي.
لكن المشرع لا يعتمد الظرف الطارئ إلا إن كان في مصلحة أصحاب العمل، لذا سهل الفصل والتهرب من الالتزامات في العلاوة والأجر باعتبارهما مثالين، وفي حالة التصفية، لم تضع المادة الـ9 قيوداً تغلّ يد صاحب العمل من التهرب من سداد مستحقات العمال، وجُعل الأمر متروكاً للجهة الإدارية في مهمة “المتابعة”.
وضمن سياقات إضعاف العمال ونزع أدواتهم الدفاعية، خُصِّصَت محاكم عمالية للنزاعات، ظاهرها تسريع الفصل في القضايا، لكنها تقصر حق التقاضي، كما سيتحمل العمال المصاريف حال عدم ثبوت الدعوة، وهو نص يمثل ضغطاً، ويسهل انتهاك الحقوق الاقتصادية، خصوصاً في حالة الفصل، كذلك قيد الطعن بالنقض في بعض القضايا (المادة الـ182).
تمديد ساعات العمل وتقليص الأجور
لم يخفض قانون العمل الجديد دخول العمال فحسب، عبر تقليص بعض المستحقات المالية أو التهرب من دفعها، لكنه سمح أيضاً بتشغيل العمال ساعات أطول، ما يعنى ضمنياً، تخفيض الأجور.
وفى هذا السياق، زادت ساعات العمل لتصل إلى 48 ساعة أسبوعياً، وبمعدل يومي 8 ساعات دون ساعة الراحة، وسمحت المادة الـ121 بعدم التقيد بساعات العمل إذا كان التشغيل بقصد مواجهة ضرورات، وأجاز القانون إلزام العامل بالحضور في المنشأة 12 ساعة يومياً، وهو ما يُعَدّ تهرباً من احتساب الأجر الإضافي. كذلك مارس المشرع تمييزاً فئوياً ضد بعض شرائح العمالة، عندما سمحت المادة الـ123 بتشغيل عمال النظافة والأمن 12 ساعة، ويتضح أن مجمل مواد التشغيل (المادة 121-124) تعد تراجعاً عن قانون العمل السابق (2003) الذي كان يضع سقفاً أقصى للعمل 10 ساعات يومياً.
وضمن مواد أهدرت الحقوق الاقتصادية، قُلِّصَت العلاوة من 7% من الأجر الأساسي إلى 3% من الأجر التأميني (المادة الـ12) مع التهرب من صرفها بمبرر الظروف الطارئة، مع تجاهل تطبيق الحد الأدنى للأجور. كذلك فرضت المادة الـ95 على العامل تحمل تكلفة التدريب وتعويض صاحب العمل، قبل انتهاء المدة المتفق عليها، رغم أن التدريب في أغلب الحالات يتضمن أداء مهام تفيد المنشأة.
تقييد الحق في الإضراب والنشاط النقابي
وضع القانون عراقيل تحجز الحق في الإضراب، رغم كفالته بالدستور، والنص عليه في معاهدات دولية وقعت عليها مصر، وتضمنت المواد 231–239 شروطاً لتقيد الأداة الدفاعية الأكثر تأثيراً وقوة في التفاوض، حيث لا يعد قانونياً إلا بعد تعذر الطرق الودية، وهذا النص الذي جاء في باب التعريفات، يتجاهل أن العمال لا يتخذون خطوة احتجاجية كما التجمع والاعتصام إلا بعد رفض الإدارة الاستجابة لمطالبهم عبر طرق ودية، وأن الأضراب هو الخطوة التصعيدية الأخيرة، بعد استنفاد جميع السبل.
ثانياً: اشترط القانون المرور بمراحل الوساطة والتحكيم، التي قد تستغرق فترة طويلة، ويأتي ذلك ضمن استراتيجية كسب الوقت، ومحاولات تفتيت وحدة العمال وخلق انقسامات بينهم، ما يفشل وحدتهم حول قرار الإضراب. أما الحاجز الثالث، فاشتراط إعلان بداية الإضراب ومطالبه وموعد انتهائه قبل الشروع في تنفيذه بـ10 أيام، على أن تعلنه اللجنة النقابية، وحال غيابها (كما أغلب مصانع القطاع الخاص) يختار العمال مفوضاً عنهم بتوثيق رسمي، وهذا قد لا يتحقق لتعقيدات عدة، غير أن تحديد موعد انتهاء الإضراب غير ممكن، لأنه يخضع لنتيجة التفاوض، والتوصل إلى اتفاق يلبي مطالب للعمال، ولو جزئياً.
وحال عدم التزام الشروط، يصبح الإضراب فعلاً مجرَّماً، يُعرّض أصحابه للعقاب عملياً مرتين: أولاً، من خلال إنهاء خدمتهم من جانب إدارة المنشأة بدعوى الإخلال بمتطلبات العمل، وقد سهلت مواد الفصل والتسريح ذلك، وثانياً: عبر التهديد الأمني، واحتمال احتجاز المحتجين باتهامات التظاهر والتجمهر والنشر، وهي طرق عقابية سبق واستخدمتها إدارة المصانع، وكرس القانون إمكانية التوسع فيها، حين حظر تداول أوراق أو منشورات، فضلاً عن إغلاق المنشأة، ومنح العاملين إجازة غير مدفوعة، أو استخدام المواد التي تسمح بالتصفية الجزئية، وتخفيض أعداد العاملين، وهذا جرى في حالات عدة من الاحتجاج بمصانع القطاع الخاص.
وضمن إهدار الحقوق الاقتصادية، وتقييد الاحتجاج، تعتبر أيام الإضراب دون أجر، وبهذه النصوص فُرغ الحق في الإضراب من مضمونه بكونه أداةً فاعلة، وكُبِّل بشروط تعجيزية تمنع ممارسته، فضلاً عن حظره كلياً في بعض المؤسسات بدعوى الحفاظ على الأمن القومي، وتقديم الخدمات، رغم أن مقدمي الخدمة غالباً يقومون بالإضراب الجزئي بديلاً، لتجنب خسارة الرأي العام، وهم في الأساس يستهدفون من احتجاجهم لفت نظر إدارة المنشأة والحكومة إلى مطالبهم المتعلقة بظروف التشغيل، بجانب أن القانون يخاطب القطاع الخاص، وليس بين منشآته مؤسسات حكومية يمسّ توقفها الأمن القومي.
وإجمالاً يمكن القول إن قانون العمل المصري الجديد شرعن أنماطاً من الاستغلال والعسف بالحقوق الاقتصادية للعمال، ما يزيد شروط العمل وظروفه قسوة، مع شلّ الحركة النقابية لكي لا يستطيع العاملون مقاومة هذه المظالم، وأن يخضعوا لعلاقات عمل هشة، تزيد الشعور بالتهديد، ما يرسخ ثقافة الخوف، ويكشف التشريع عن الانحيازات الطبقية للسلطة وبرنامجها الاقتصادي، ولصالح من تشرع، وتدخل لإدارة سوق العمل، وكيف تنظر للعمالة أداة جاذبة للمستثمر، تزيد أرباحه، خاضعة للضبط. ومستقبلاً، هذا التطويع والقبول بشروط عمل ظالمة وقاسية مع إعاقة الأساليب النقابية والحلول الجماعية لتحسينها، سيراكم المظالم، وقد يدفع ذلك إلى ظاهرة الحل الفردي، ما يجعل ساحة العمل قابلة للعنف ضد الذات أو الآخرين.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس