أفريقيا برس – مصر. في ظل ما تشكله الحرب الدائرة في السودان من تأثير على الأمن القومي المصري، قال مصدر مصري مطّلع، إن أجهزة مصرية عدة دخلت وضع استنفار استخباري وعملياتي، بعد مرور ساعات على حسم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، معركة السيطرة على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، غربي السودان، وذلك تحسباً لتداعيات مباشرة على الحدود الجنوبية-الغربية ومعابر التهريب، فضلاً عن التداعيات الاقتصادية. يجعل ذلك من الحرب في السودان والمستمرة منذ 15 إبريل/ نيسان 2023، أزمة تتخطى الخرطوم إلى القاهرة.
وأعلنت وزارة الخارجية المصرية، في بيان أمس الثلاثاء، أن اتصالاً أجري مساء أول من أمس الاثنين، بين الوزير بدر عبد العاطي، ومسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والشرق الأوسط والمستشار الرفيع للشؤون الأفريقية، تناول تطورات الأوضاع في السودان وليبيا. وأضاف أن الجانبين أكدا على ضرورة التوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في السودان، وعلى أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية ومؤسساتها الوطنية، بما يصون مقدرات الشعب السوداني ويحقق تطلعاته في الأمن والاستقرار.
وتُعدّ الفاشر التي كانت آخر المعاقل الرئيسة للجيش السوداني في إقليم دارفور قبل سقوطها أول من أمس، بوابة استراتيجية لأي تحوُّل محتمل في موازين القوى في السودان، لا سيما أن تراجع سيطرة الجيش وامتداد نفوذ “الدعم السريع” قد يفتح خطوطاً إضافية لتهريب السلاح والمقاتلين والذهب شمال-غرب السودان نحو ليبيا. وقد يؤدي ذلك بالتالي إلى ضغط مباشر على منطقة المثلث الحدودي بين مصر وليبيا والسودان، ومن ثم يؤثر على الأمن القومي المصري. وفي هذا السياق يرى محللون أن النزاع السوداني يشكّل تهديداً متعدد الأبعاد لاستقرار مصر من حيث تدفق المهاجرين، وتهريب السلاح، وتهديد أمن المياه.
وضع كارثي في الفاشر
وقال السفير حسام عيسى، مدير إدارة السودان وجنوب السودان بوزارة الخارجية المصرية، إن الأوضاع في الفاشر وصلت إلى مرحلة خطيرة للغاية، تستدعي قرارات واضحة وحاسمة من جانب المجتمع الدولي، خصوصاً في إطار الآلية الرباعية (الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات) والأمم المتحدة. وأشار إلى أن مصر تبذل جهوداً مكثفة لدفع هذه الأطراف نحو تحرك عاجل يضع حداً للتدهور الإنساني غير المسبوق هناك.
وأوضح عيسى أن الوضع الإنساني في الفاشر كارثي بكل المقاييس، لافتاً على أن الأيام الماضية شهدت قصفاً وحشياً من جانب المليشيات المتمردة استهدف “دار الأرقم” التي لجأ إليها عشرات النازحين في الفاشر. أدى ذلك إلى مقتل نحو 60 شخصاً على الأقل، إلى جانب عشرات المصابين والمفقودين. وأضاف أن القصف الجوي بالطائرات المسيّرة استمر الأسبوع الماضي، وأسفر عن مقتل نحو 50 مدنياً آخرين في المدينة، بينما امتدت الاعتداءات إلى مدن أخرى مثل الدب شمال دارفور وأم درمان في ولاية الخرطوم، حيث تم استهداف منشآت طبية وصحية وأطقم طبية في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
وذكر عيسى أن المدنيين في الفاشر يعيشون أوضاعاً بالغة القسوة بعد حصار (الدعم السريع) مستمر منذ أكثر من عام ونصف العام، ما أدى إلى نفاد المواد الغذائية الأساسية، موضحاً أن كثيرين منهم اضطروا إلى تناول “الدنباز” -وهو علف للحيوانات- مصدرا وحيدا للطعام نتيجة انقطاع الإمدادات بالكامل. وقال إن هذه الظروف “تتطلب تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي لتطبيق ما تم الاتفاق عليه في اجتماعات جنيف في أغسطس/آب 2024، والتي نصت على السماح بدخول المساعدات الإنسانية فور الإبلاغ، دون اشتراط الموافقة المسبقة”، مؤكداً أن المليشيات المتمردة خرقت هذا الاتفاق بالكامل رغم مشاركتها بوفد رسمي في تلك الاجتماعات، التي شارك فيها أيضاً وفد مصري.
وتواصل مصر، وفق عيسى، دعمها الكامل للمؤسسات الشرعية في السودان، وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية، معتبراً أن هناك فرقاً واضحاً بين الأداء الاحترافي للقوات المسلحة في تعاملها مع المدنيين، والسلوك الوحشي للمليشيات المتمردة التي ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق. ولفت إلى أن الحرب تسببت حتى الآن في نزوح ما يقرب من 15 مليون سوداني من المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيات، فضلا عن مئات الآلاف من اللاجئين الذين فروا إلى الدول المجاورة، من بينها مصر وتشاد وجنوب السودان. واختتم السفير المصري تصريحاته بالتأكيد على أن المرحلة الحالية تتطلب تكثيف الجهود الدبلوماسية المشتركة وفرض عقوبات صارمة على المليشيات المتمردة، إلى جانب اتخاذ إجراءات واضحة لمنع وصول الأسلحة إليها من أي جهة أو عبر أي حدود. وقال إن مصر ستواصل تنسيقها مع شركائها الإقليميين والدوليين من أجل إنهاء هذه المأساة الإنسانية التي يدفع ثمنها المواطن السوداني.
استغلال الحدود الهشة
ويبلغ طول الحدود المصرية-السودانية نحو ألف كيلومتر، وهي ذات خصائص جغرافية تجعلها ضعيفة الرقابة في كثير من الأماكن. ومع كل تصعيد داخل السودان ترتفع احتمالات استغلال شبكات التهريب لهذه الهشاشة، سواء في حدود وادي حلفا (أقصى شمال السودان، وتحدها مصر) أو عبر المسارات الصحراوية نحو مصر.
من جهة أخرى، تتعرّض مصر لضغوط إنسانية كبيرة بفعل استضافة عدد متزايد من اللاجئين السودانيين حيث يواجهون صعوبات في الحصول على الوثائق والعمل والخدمة الصحية، وسط مخاوف من إعادتهم إلى السودان رغم استمرار الحرب هناك. هذا الأمر لا يعني مجرد عبء إنساني، بل يشكّل عنصر ضغط على البنية الاجتماعية والاقتصادية في جنوب مصر والقاهرة، بما يزيد من هشاشة الوضع الأمني والاجتماعي المحيط. ومن الناحية الاقتصادية، بات تهريب الذهب من غربي السودان يشكل مصدر تمويل رئيسياً لقوى الحرب هناك، وتعدّ شبكات التهريب التي تمرّ عبر السودان إلى مصر وليبيا من بين الروابط التي تغذّي ما يحدث على الأرض. وتؤكد تحذيرات بحثية أن استمرار هذا التمويل قد يُطيل أمد القتال، ويجعل مصر طرفاً غير مباشر في لعبة التمويل والتهريب، وهو أمر لا تريد القاهرة أن تكون شريكاً غير طوعي فيه.
وفي ضوء هذه المعطيات، تبرز سياسة مصرية مزدوجة، فمن جانب دبلوماسي، شاركت القاهرة في بيانات وخطط دولية تدعو إلى هدنة وانتقال سياسي في السودان، مع التأكيد على وحدة السودان وسلامة أراضيه في مبدأ ثابت. ومن جانب آخر، طوّرت مصر قدراتها الميدانية على الحدود -سواء من خلال التوسّع في المراقبة أو تشديد إجراءات الدخول، استعداداً لأيّ تصعيد محتمل. لكن خبراء يرون أن نجاح هذه السياسة مرهون بمدى التزام الأطراف السودانية والإقليمية بوقف فعلي للنار، إلى جانب قدرة الوساطة في احتواء التمويل الخارجي للنزاع.
ويعتقد هؤلاء الخبراء أن خطر الموقف ليس في المدى المتوسط فقط، بل على المدى الطويل أيضاً. فإن فشل وقف إطلاق النار في دارفور أو اتساع المعارك نحو مناطق نفوذ إضافية، سيفتح باباً لأسوأ سيناريوهات، مثل موجات نزوح أكبر، تفجّر في جنوب مصر؛ تهريب سلاح وذهب وأشخاص يُغذّي الحرب ويضعف الدولة، وضغط أكبر على موارد مصر المائية إذا ما أعاد النزاع تشكيل القوى في السودان تجاه ملف نهر النيل. ولذلك، فإن الاستنفار المصري يعكس -بحسب المصدر- إدراكاً باكراً لحجم التهديد، وآمالاً بأن تحوّلاً مبكّراً في الخطة (الاستنفار) يمكن أن يقلّص الكلفة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس





