الاتفاق المصري الإسرائيلي لا ينهي الصراع على غاز المتوسط

الاتفاق المصري الإسرائيلي لا ينهي الصراع على غاز المتوسط
الاتفاق المصري الإسرائيلي لا ينهي الصراع على غاز المتوسط

أفريقيا برس – مصر. رغم موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إتمام أكبر صفقة تصدير غاز في تاريخ دولة الاحتلال، بقيمة 35 مليار دولار الأسبوع الماضي، لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر حتى عام 2040، فإن الصفقة لم تُنهِ الصراع الأوسع بين القاهرة وتل أبيب حول من يملك حق إدارة “المركز الإقليمي” لصناعة الغاز في شرق المتوسط.

فخلف توقيع الاتفاق يجري سباق استراتيجي تحت السطح، يراه خبراء اقتصاد وطاقة متصاعداً حيث انتقل الصراع من غرف التفاوض إلى ساحة النفوذ السياسي والاقتصادي والبنية التحتية والتحالفات الإقليمية، في سوق بات الغاز فيه أداة سياسة أكثر منه سلعة للطاقة وإنتاج الأسمدة والكيماويات.

وبينما تبحث القاهرة عن إنقاذ عاجل يخرجها من أزمة طاقة خانقة لسنوات مقبلة، تسعى تل أبيب إلى استغلال لحظة الضعف المصرية لفرض إرادتها بأن تكون مركزاً إقليمياً بديلاً لإدارة غاز “شرق المتوسط”، لا مجرد مورّد عبر الأنابيب لدول أخرى وإن ادعت بأنها “صديقة” لها في المنطقة.

نهاية أزمة مؤقتة

وفقاً لرؤية نائب رئيس هيئة البترول السابق مدحت يوسف، تبدو صفقة الغاز الأخيرة نهاية أزمة مؤقتة، لكنها بداية مواجهة استراتيجية طويلة، سيكون الغاز فيها واجهة النفوذ لا مجرد مصدر طاقة، مؤكداً لـ”العربي الجديد” أن تكلفة العدوان الإسرائيلي على غزة أحدثت تراجعاً كبيراً في ميزانية الاحتلال، في وقت تراجعت فيه أسعار الغاز بالسوق الدولية، مع حاجة المستثمرين الأميركيين والإسرائيليين إلى استرداد أموالهم التي وُجهت لإنتاج الغاز في حقل ليفياثان (المكتشف عام 2010)، وحتى الوصول إلى مرحلة الإنتاج التجاري عام 2019، ولا يوجد لديهم مخرج للبيع إما لاستخدامه داخل إسرائيل، أو تصديره عبر الشبكة المصرية القادرة على ربطهم بالعالم الخارجي.

يؤكد خبير البترول أنه رغم توقيع صفقة الـ35 مليار دولار، تشير كل المعطيات إلى أن العلاقة بين القاهرة وتل أبيب في ملف الغاز ستظل علاقة تنافس استراتيجي لا شراكة كاملة؛ فمصر تريد الصفقة لتجاوز أزمة حادة، بينما تريدها إسرائيل جسرا نحو إعادة هندسة السوق لمصلحتها، منوهاً إلى أن ما يجري في شرق المتوسط ليس مجرد خلاف حول أسعار غاز أو كمياته، بل صراع على من يدير مفاتيح الطاقة في الإقليم خلال العقدين المقبلين؛ لذلك تدافع القاهرة عن موقعها مركز عبور وإسالة، لأن تسعير الغاز الإسرائيلي وتصديره لا يخضعان لمنطق العرض والطلب وحده، حيث ما زال تسويقه يرتبط بموافقة مصر على تمريره عبر شبكاتها الوطنية، وتل أبيب تسعى للانتقال إلى مركز إدارة وتسعير، وبينهما تقف الولايات المتحدة، لا لتحسم الصراع، بل لتضمن ألا يخرج عن السيطرة، وأن يخدم مصالحها أولاً.

صفقة إنقاذ لمصر

يؤكد يوسف أن الهدف الإسرائيلي هو تقليص الاعتماد على البنية التحتية المصرية وحدها، ومنع تحول القاهرة إلى بوابة إجبارية لعبور الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، وهو أمر يصعب تحقيقه لسنوات قادمة.

جاءت “صفقة الغاز الكبرى” في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة لمصر، اعتبرها مسؤولون مصريون “صفقة إنقاذ” حيث تراجع إنتاج الغاز المحلي إلى مستويات متدنية، مع وجود ضغط متصاعد على شبكات الكهرباء ومن مصانع الأسمدة والبتروكيماويات والحديد ومواد البناء، مع فجوة تمويلية متزايدة نتيجة استيراد الغاز المسال والمنتجات البترولية بأسعار عالمية مرتفعة.

ينص الاتفاق الموقع بين شركاء حقل “ليفياثان”، بقيادة شركة “شيفرون” الأميركية و”نيوميد إنرجي” الإسرائيلية وشركة مصرية، على تصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز حتى عام 2040، عبر خطوط أنابيب متصلة بين شبكتي نقل الغاز الطبيعي في الطرفين، بما يوفر لمصر إمدادات أقل تكلفة مقارنة بالغاز المسال المستورد، يراها يوسف غير كافية لتدبير احتياجات مصر بالكامل، بما يعني استمرار حاجتها لاستيراد الغاز المسال لسنوات قادمة قد تمتد لأكثر من 5 سنوات، لعدم وجود اكتشافات جديدة كبرى وتراجع حجم الإنتاج السنوي للآبار الحالية.

وفق بيانات وزارة البترول المصرية، تعاني مصر منذ أكثر من عامين من تراجع في إنتاج الغاز الطبيعي، بعد بلوغ حقل ظهر ذروته، وسط تحديات تقنية أدت إلى تراجع إنتاجه بنسبة كبيرة. ويراوح الإنتاج المحلي حالياً حول 4 مليارات قدم مكعبة يومياً، بينما يتجاوز الاستهلاك في أوقات الذروة 6.5 مليارات قدم مكعبة، مع توقعات بارتفاع الطلب خاصة في قطاع الكهرباء. وتشير تقديرات منظمة الطاقة الدولية إلى أن احتياجات مصر من الغاز ستظل مرتفعة حتى نهاية العقد الحالي. هذه الفجوة الإنتاجية دفعت القاهرة إلى استيراد شحنات غاز مسال بكلفة ضخمة تضغط على ميزان المدفوعات وتزيد من الأعباء المالية.

صراع غاز شرق المتوسط

رغم تراجع الإنتاج المصري، يؤكد خبير النفط الدولي والمسؤول السابق في وزارة البترول المصرية عبد الحميد الجويلي، أن إسرائيل لن تكون قادرة على إزاحة مصر من أن تكون الدولة المركزية لإدارة ملفات الغاز في البحر المتوسط، مشيراً إلى أن التخطيط المسبق بإنشاء 3 معامل لإسالة الغاز في دمياط وإدكو جعل من مصر مركزاً إقليمياً للطاقة “بواقع الأمر”، لأن إسرائيل لا تملك هذه النوعية من المعامل التي تحتاج إلى استثمارات هائلة، ولا تستطيع تصدير إنتاجها بسهولة عبر قبرص أو تركيا.

ويشير الجويلي إلى أنه رغم وجود مباحثات غير معلنة مع أطراف إقليمية، فإن التكلفة الهائلة والمخاطر الفنية تقف حائلاً أمام قدرة إسرائيل على تصدير الغاز إلا عبر الشبكات المصرية، التي توزعه محلياً أو تعيد تصديره مسالاً إلى أوروبا. في تصريحات لـ”العربي الجديد”، يشدد الجويلي على أن المخاوف على ضياع دور مصر الإقليمي ليست في محلها، مبيناً أن دخول قبرص على شبكات الغاز المصرية سيمنح القاهرة مزيداً من القوة بوصفها مركزا للغاز المسال، حيث لا يوجد أمام تل أبيب ونيقوسيا مخرج تقني واقتصادي متاح حالياً سوى الشبكة المصرية.

سلاح ناعم للاحتلال

أما في إسرائيل، فلم تُقدَّم الصفقة باعتبارها دعماً لمصر، بل “سلاحاً ناعماً” وتتويجاً لتحول إسرائيل إلى لاعب طاقة إقليمي، وفقاً لتصريحات نتنياهو ووزرائه، التي تعكس أن الغاز بات ورقة سياسية لتعظيم النفوذ. في تل أبيب، يُنظر إلى الصفقة بوصفها مرحلة انتقالية تسعى خلالها إسرائيل إلى إعادة رسم خريطة الغاز بحيث تصبح هي “البوابة المركزية للتصدير”، بدلاً من مجرد مورد خام لمصانع الإسالة المصرية.

وحولت الصفقة الجديدة رغبة إسرائيل إلى الانتقال لدور “مدير سوق الغاز”، حيث تسعى وفق تحليلات دورية “ميس” (MEES) ووكالة “بلومبيرغ”، إلى لعب دور يشمل التسعير وتحديد مسارات التصدير، وربما إنشاء مرافق إسالة مستقبلية خاصة بها أو بالشراكة مع قبرص.

كما يشير الخبراء إلى أن الصراع على إدارة ملف الغاز والطاقة في “شرق المتوسط” لا يتوقف عند مصر وإسرائيل فقط، منوهين إلى أن قبرص تسعى لربط حقولها بالبنية التحتية الأقرب والأسرع، حيث بدأت بالتفاوض مع إسرائيل، وأتبعته باتفاقيات معلنة لربط حقل “افروديت” بالشبكة المصرية البحرية للغاز، في البحر المتوسط.

وتحاول تركيا العودة إلى المشهد بما هو ممر طاقة لا غنى عنه، عبر اتفاقات لم توقع بعد مع اليونان وتناور للحفاظ على دورها ضمن أي ترتيبات لتوريد الغاز من حقول شرق المتوسط وآسيا الوسطى إلى أوروبا. تراقب روسيا وإيران المشهد عن كثب وبحذر، مع إدراكهما أن أي نجاح لمحور “شرق المتوسط- أميركا” يأتي على حساب نفوذهما في سوق الغاز بالمنطقة وحول العالم.

في المقابل، ترى مصر أن موقعها الجغرافي والبنية التحتية القائمة، يمنحانها أفضلية لا يمكن تجاوزها بسهولة. فالقاهرة تمتلك محطتي إسالة تعملان فعليا، لخدمة تصدير الغاز المسال للخارج، وشبكة أنابيب قائمة، ممتدة لآلاف الكيلو مترات، تصل بين مصر والأردن ولبنان وسورية وتقف عند الحدود الليبية غربا، وخبرة تشغيلية تمتد لعقود، إضافة إلى علاقات سياسية قوية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وفقاً للخبراء، تلعب الولايات المتحدة دوراً حاسماً، ليس فقط عبر الضغوط السياسية، ولكن من خلال حماية استثمارات شركة “شيفرون” الأميركية وضمان استقرار تدفقات الغاز إلى أوروبا لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. واشنطن ترى في مصر “نقطة ارتكاز محورية” للاستقرار الإقليمي، لكنها في الوقت نفسه لا تعارض طموحات إسرائيل ما دامت تخدم أمن الطاقة وتوسع نفوذ الشركات الأميركية، مما يجعل الولايات المتحدة “المدير من وراء الستار” الذي يحدد سقف الحركة لكل طرف دون حسم نهائي للصراع.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here