أفريقيا برس – مصر. أثار إقرار البرلمان المصري تعديلات شاملة على قانون الإجراءات الجنائية، في جلسة أول من أمس الثلاثاء، جدلاً سياسياً واسعاً وتوجّهات حقوقية غاضبة. وبينما تدافع الأغلبية البرلمانية عن التعديلات باعتبارها ضرورية لتسريع منظومة التقاضي وتحقيق العدالة الناجزة، ترى منظمات حقوقية بارزة أن هذه الخطوة تمثل انحداراً جديداً في مسار تقليص الحقوق والحريات الأساسية، وتفتح باباً لأزمة سياسية قانونية ذات امتدادات دولية.
وكانت الملاحظات الحقوقية على مشروع القانون، من بينها لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، قد سجلت عيوباً عدة فيه، من بينها العصف بمبدأ الفصل بين السلطات، ومنح حصانة خاصة للموظفين العموميين ورجال الضبط ومسؤولي السجون، إلى جانب التوسع في سلطات النيابة العامة والتعدي على حقوق الدفاع وضمانات سلامة الإجراءات، فضلاً عن عدم لحظ المشروع أي ضمانات للحد من ممارسة التدوير، بل رسخ استخدام الحبس الاحتياطي كإجراء عقابي. يضاف إلى ذلك توسيع سلطات المحاكم لمعاقبة منتقديها وتقنين المحاكمات والتجديدات عن بعد، فضلاً عن التعدي على مبدأ علانية الجلسات وضوابط الحكم الغيابي.
قانون الإجراءات الجنائية والشارع المصري
ورغم الجدل الحقوقي الواسع الذي أثاره إقرار البرلمان تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، والتي طاولت أبوابه الأساسية بمعظمها، فإن مراقبين لا يتوقّعون أن تتحوّل هذه الخطوة إلى أزمة سياسية أو جماهيرية ملحوظة، سواء داخل مصر أو في علاقاتها مع الخارج، فالشارع المصري، المنهك بأزماته الاقتصادية والاجتماعية اليومية، لا يبدو معنيّاً بقانون إجرائي تراه شريحة كبيرة من المواطنين “بعيداً عن أولوياتهم المباشرة”، في ظل معاناة معيشية متفاقمة.
وحذّرت منظمات حقوقية كبرى، وفي مقدمها المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، من أن التعديلات المقرّة تمثل انتهاكاً صريحاً لضمانات المحاكمة العادلة، وخرقاً لالتزامات مصر الدولية بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وتشمل هذه التعديلات تغييرات تمسّ حقوق المتهم في الاستعانة بمحامٍ من لحظة القبض عليه، وضوابط تفتيش المنازل والتنصت على الاتصالات، ما اعتبره المركز “تهديداً لبنية العدالة الجنائية برمتها”.
من جهة أخرى، تكرّس طريقة تمرير التعديلات، رغم الاعتراضات القانونية الواسعة، طبيعة الدور الذي بات يمارسه البرلمان المصري، ما يعكس هيمنة سياسية على المشهد التشريعي وغياب الحوار المجتمعي الحقيقي في قضايا تمسّ صميم العدالة وسيادة القانون.
وتضع التعديلات الحكومة المصرية في مواجهة مباشرة مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ومبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء ودور المحامين، وهي نصوص تُعد مصر طرفاً فيها، وبالتالي ملزمة بتطبيقها. وحذّر المركز العربي لاستقلال القضاء من أن استمرار العمل بهذه التعديلات يعني أن الأحكام الصادرة استناداً إليها قد تفتقر إلى الشرعية الدولية، وقد لا يُعترف بها خارج مصر، خصوصاً في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان، وهو ما قد ينعكس على العلاقات القضائية مع دول أخرى، ويُستخدم في الطعون أمام المحاكم والهيئات الدولية. وقد تستغل الملف منظمات دولية، مثل “هيومن رايتس ووتش” أو “العفو الدولية”، في التقارير السنوية التي تُعرض على مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، كما يُتوقع أن يُثار أمام البرلمان الأوروبي أو في المراجعة الدورية الشاملة لملف مصر الحقوقي.
خيارات ضيقة لمواجهة التعديلات
في ظل الجدل المتصاعد، تزايدت الدعوات الموجهة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعدم التصديق على القانون ووقف نشره في الجريدة الرسمية.
وقال المستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو هاشم ربيع، إن قانون الإجراءات الجنائية بطبيعته قانون سياسي، لأنه يمسّ الجانب الحقوقي في مصر، وليس فقط مسألة قانونية أو تنظيمية. وأوضح أن “البرلمان أصرّ على تمريره رغم الاعتراضات، لأنه يدرك أن ردود الفعل ستبقى محصورة في أوساط المجتمع الحقوقي فقط، من دون أن تمتد إلى الشارع العام الذي لا يشعر بأن القانون يمسّ حياته الاقتصادية أو الاجتماعية مباشرة”. ورأى ربيع أن تمرير القانون يعكس نمطاً متصلاً من التشريعات التي يجرى إصدارها لتضييق المجال العام، قائلاً: “نحن مقبلون على حزمة أخرى من القوانين المهمة، مثل قوانين الانتخابات، وقانون مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، وقوانين الهيئة الوطنية للانتخابات، إلى جانب قانون الأحزاب السياسية، في ظل بقاء قوانين مثل قانون التظاهر وقانون المجتمع المدني دون تغيير، وهو ما يؤكد أن هناك توجهاً تشريعياً عاماً لتقييد الحريات”. وأوضح ربيع أن الخيارات المتاحة أمام القوى السياسية والمدنية لمواجهة هذه التعديلات تكاد تكون منعدمة، مرجعاً ذلك إلى أن المهتمين الحقيقيين بهذه المسألة “قلة من المتخصصين والحقوقيين، وبعض المحامين، وعدد محدود من القضاة الذين يرون في عملهم بعداً حقوقياً”.
من جهته، قال عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، محمد أنور السادات، إن “البرلمان المصري دأب خلال السنوات الماضية على إصدار تشريعات وقوانين أثارت تحفظات من شرائح واسعة في المجتمع، وليس قانون الإجراءات الجنائية وحده، بل سبقه قانون العمل وقانون اللجوء وغيرهما”. وأفاد بأن “الخصوصية في حالة قانون الإجراءات الجنائية تعود إلى أنه يمسّ مباشرة حقوق المواطن وحرياته وكرامته، ما يجعله قانوناً ذا طبيعة حساسة”. وأعرب السادات عن اعتقاده بأنه “لن تكون هناك ردود فعل دولية تُذكر، ولن يؤدي هذا القانون إلى تغييرات ملموسة على المستوى الخارجي”.
أما أستاذ علم الاجتماع السياسي، عمار علي حسن، فأشار إلى أن طريقة تمرير تعديلات قانون الإجراءات الجنائية كانت متوقعة، شأن قوانين أخرى عديدة صدرت في السنوات الماضية، قال إنها “باتت تشكّل غابة من التشريعات التي تكبّل المصريين، وتُضيّق المجال العام، وتُقيّد الحريات السياسية، وتُسهم في تعميق معاناة الناس وتحويل حياتهم إلى بؤس تام”. وأضاف عمار أنّ كل الاعتراضات التي طُرحت على القانون، من حقوقيين أو سياسيين أو خبراء قانون، كانت وجيهة ومُنصفة، وتهدف إلى الصالح العام، إلا أن الاستجابة التي قُدمت لها من البرلمان أو من السلطة التنفيذية لم تتجاوز الشكل والديكور، وكانت أقرب إلى التجميل والتدليس منها إلى الإصغاء الحقيقي أو الرغبة في التعديل.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس