أفريقيا برس – مصر. في سابقة غير معهودة تهدّد استقرار منظومة العدالة في مصر، شهد العام القضائي المنقضي (2024- 2025) موجة استقالات شملت ما بين 400 إلى 500 من القضاة وأعضاء النيابة العامة، وكشفت مصادر قضائية، أن الاستقالات لم تأتِ نتيجة خلافات أو انتهاكات مهنية، بل تعود جذورها إلى أسباب اقتصادية على رأسها “تدني الرواتب” على نحوٍ لا يليق بالمسؤوليات الملقاة على عاتق القضاة في ظلّ ارتفاع تكاليف المعيشة.
واحدة من أبرز الحالات التي كشفتها المصادر، هي استقالة محامٍ عام لنيابات شرق القاهرة، والذي يعمل حالياً مستشاراً قانونياً لإحدى شركات التطوير العقاري في الإمارات، وهي حالة باتت نموذجاً متكرراً، إذ يتوجّه المستقيلون إلى شركات قانونية دولية، أو مؤسّسات استثمارية خليجية.
كانت الأزمة تتفاعل في الخفاء، لكنها تفجّرت على مجموعات القضاة على موقع “فيسبوك”، التي تحوّلت إلى منصات للشكوى، وأحياناً للسخرية من الوضع الاقتصادي المتدهور. وقبل أشهر عدّة، قامت إدارة التفتيش بوزارة العدل المصرية بإحالة نحو 50 قاضياً للتحقيق بعد حديثهم عن أزماتهم المالية.
وكتب أحد القضاة منشوراً بعنوان “مذبحة القضاة الثانية”، جاء فيه: “تلوكنا الألسُنُ همزاً ولمزاً باعتبارنا من أصحاب أعلى الرواتب في الدولة المصرية، ويشاع تقاضينا مئات آلاف الجنيهات مقابل الإشراف على عمليات الاقتراع المختلفة، ولم نسعَ للتكذيب أو بيان الحقيقة ترفّعاً، واستمراء لأن تكون نظرة الناس للقاضي أنه من الأثرياء، ولو على غير الحقيقة. صارت السيرة بين مَن يعلمون ومن لا يعلمون أنّ القضاة صاروا من ذوي الفاقة، وأن رواتبهم تدنّت حتى جاوزها دخل بعض العاملين من الفئات المتوسطة في بعض جهات الدولة، ولم يتورّع أناس عن أن ينادوا بتحسين أحوال القضاة المادية، منهم من حسنت نيته، ومنهم من تقوده شماتته”.
وتابع: “يُذبح القضاء بيد كل من تخاذل عن نصرته رغم استطاعته، ومن نظر إلى القضاء تكأةً لتحقيق طموح في منصب زائل أو كرسي. يذبح القضاء بتكبد القضاة شظف العيش، وزرع الشك في صدورهم في مدى تحقق الاستقلال من دون تدخل ولا تغول من سلطة أخرى. يذبح القضاء بهجران صفوة القضاة وأعضاء النيابة العامة لصفوف السلطة القضائية بحثاً عن البقاء بين أقرانهم مادياً واجتماعياً، وهذا حقّهم لا ريب فيه”.
وكتب رئيس نيابة منشوراً لا يخلو من سخرية سوداء، يقول فيه: “احترس السيارة ترجع إلى الخلف. استقالات كثيرة كل يوم بحثاً عن حياة سوية لتأمين معيشة الأسرة. التوقيع: قاضٍ محدود الدخل”، وكتب رئيس نيابة آخر: “أعمل قاضياً إلى أن تحين فرصة مناسبة لدى رب عمل يعرف قدري. ماذا ينتظر ولاة الأمر بعد أن أصبح دخل القاضي لا يكفيه بضعة أيام؟ كأنّ القضاة وأسرهم يأكلون زهداً ويشربون ترفعاً. يا مَن كنتم مسئولين ونفضتم أيديكم عنّا، أفيقوا وافزعوا”.
وكتب عضو في مجلس إدارة نادي القضاة: “عندما يترك القضاة منصّتهم، ويهجرون دارهم، فالحدث جلل، فمن يتركوننا هم قامات وكفاءات وأعلام يشهد لها الجميع، في ظاهرة بات انتشارها كبيراً. عندما يترك القضاة وشاح العدالة للبحث عن بديل، فهذا حدث يستوجب وقفة، والكل سيدفع ثمنه. إنها رسالة لأولي الأمر، فليس هكذا يصان القضاء. احفظوا للقضاة هيبتهم وأنزلوهم منازلهم”.
وكتب قاضٍ آخر: “الاستقالات المتكرّرة للقضاة تعد إنذاراً خطيراً يستدعي إعادة النظر في الأوضاع الحالية، ومعالجة الأسباب التي تدفعهم إلى الاستقالة، لضمان استقرار العدالة وحماية حقوق المواطنين”.
ووجّه بعض القضاة رسائل مفتوحة إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى، عاصم الغايش، ناشدوه فيها دراسة ظاهرة الاستقالات المتزايدة، وكتب أحد القضاة: “إلى المستشار عاصم الغايش رئيس المجلس الأعلى للقضاء: أرجو أن تتفضلوا بدراسة الأسباب الحقيقية وراء ظاهرة الاستقالات المتزايدة في صفوف رجال القضاء، خاصّة أن مَن يغادرون غالباً ما يكونون من أصحاب الكفاءة والتميّز، ما يستدعي وقفة جادة حفاظاً على ثروة الوطن الحقيقية من القضاة الأكفاء”.
ووسط الغضب، لجأ بعض القضاة إلى السخرية من واقعهم بنشر تعليقات ساخرة على مجموعة “شباب قضاة مصر” على فيسبوك، أحدهم كتب: “أمسكت مصروف البيت لوقف التبذير، والحمد لله استدنت 5 آلاف جنيه في نص شهر. الشغلانة بتأكل عيش فقط”.
ولم تصدر أيّ بيانات رسمية من المجلس الأعلى للقضاء أو وزارة العدل بشأن موجة الاستقالات، التي يرى القضاة أنها تنذر باهتزاز المنظومة القضائية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى مؤسّسة عدالة قوية وفاعلة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن مصر عبر موقع أفريقيا برس