يتزامن حلول الذكرى الثامنة لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر هذا العام، مع مرور 5 سنوات على تفعيل الدستور المصري في شكله الحالي، والمعروف بدستور 2014، الذي وضعته لجنة من 50 عضواً بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي وحل البرلمان وعزل جماعة الإخوان المسلمين، والتي أجرت تعديلاً واسعاً على دستور 2012 الذي وضعته الجمعية التأسيسية المكونة من أول مجلسي شعب وشورى بعد خلع الرئيس الأسبق حسني مبارك.
وفي ظل صمت إعلامي طاغٍ في مصر بانتظار ما ستؤول إليه المناقشات الدائرة بين دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي وأجهزة النظام الاستخباراتية والأمنية والرقابية حول مصير التعديلات المرتقبة على الدستور البالغ من العمر 5 سنوات، والذي وصفه السيسي غير مرة بأنه “دستور النوايا الحسنة”، فقد تجاوز الجميع في مصر حقيقة أن مواد عديدة في هذا الدستور لم تنفذ، ولن تنفذ على ما يبدو، بشكل يجعل الدستور صورياً أكثر من أي وقت مضى.
فقد انقضت 5 سنوات على العمل بهذا الدستور، دون أن يصدر مجلس النواب قانوناً بتنظيم قواعد ندب القضاة وأعضاء الجهات والهيئات القضائية، بما يضمن الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية أو ذات الاختصاص القضائي، أو لإدارة شؤون العدالة أو الإشراف على الانتخابات، كما تنص المادة 239 من هذا الدستور، لتصبح هذه المادة عديمة القيمة، وفاقدة لتأثيرها، شأن غيرها من المواد. ويمثل هذا التجاوز ضربة جديدة لشرعية نظام الحكم القائم، ولكفاءته السياسية والدستورية. كما يعكس استمرار الارتباك والصراع بين دوائر عديدة في النظام، خصوصاً بين القضاة ووزارة العدل. فبينما كان الوزير المقرب من دائرة السيسي المستشار حسام عبد الرحيم يدفع بقوة باتجاه إصدار قانون حظر الندب بصيغة يراها تحقق الفائدة المرجوة من استمرار ندب القضاة في الأماكن الحساسة، كرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة العدل ومجلس النواب وبعض الهيئات الاستثمارية والرقابية، تحت تعريف واسع ومرن في مشروع القانون لعبارة “إدارة شؤون العدالة” في النص الدستوري، كاستثناء يسمح بندب بعض القضاة فقط، كان مجلس الدولة، الذي يمثل أعضاؤه أكثر من 80 في المائة من إجمالي القضاة المنتدبين كمستشارين بالجهات الحكومية، يحاول الالتفاف على النص الدستوري، بحيث يكتفي البرلمان بإصدار القانون قبل منتصف الشهر المقبل، تأسيساً على قراءة “نصية” وتفسير جديد للمادة الدستورية، فيصدر القانون متضمناً منح الحكومة أجلاً طويلاً للاستعداد لتنفيذه، ما يعني تأجيل تطبيق الحظر عدة سنوات.
ويبدو أن السيسي قد اقتنع خلال اجتماعه الشهر الماضي برؤساء الهيئات القضائية وتشكيل مجلس جامع لهم، بعدم قابلية هذا النص الدستوري للتطبيق، على الأقل في الوقت الحالي، بسبب حاجة الجهات الحكومية لخدمات القضاة المنتدبين لترتيب أوضاعها القانونية، بما في ذلك لأماكن حساسة يصعب الاستغناء فيها عن القضاة المنتدبين، كرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ومجلس النواب ووزارات العدل والداخلية والخارجية والأوقاف، فلا يقتصر عمل القضاة كمستشارين منتدبين فيها على تقديم المشورة القانونية، لكن عدداً منهم يلعبون أيضاً دور الوسيط مع الهيئات القضائية لتسوية المنازعات والتفاوض بشأنها، والمشاركة في إعداد مشاريع القوانين المختلفة. وكان السيسي، في بداية دراسة هذه القضية، متحمساً لإلغاء الندب في إطار مشروعه لخفض الإنفاق على الجهاز الإداري للدولة وتوفير مئات الملايين من الجنيهات التي يحصلون عليها كل عام، لكن مجلس الدولة أثار، في إطار مراجعته الإلزامية لمشروع القانون، مخاوف السيسي والحكومة من وجود العديد من أوجه العوار، بحيث لا يجوز لوزير العدل استثناء الوزارة من الجهات التنفيذية واستمرار ندب القضاة بها، كما لا يجوز استمرار ندب القضاة بحسب التفسير الحرفي للنص الدستوري إلاّ للجان الانتخابات وغيرها من الأعمال المؤقتة، وبالتالي ستخسر الحكومة خدمات القضاة في الأماكن الحساسة المذكورة سلفاً.
ومما تم إهماله أيضاً نصوص كاملة من المواد الخاصة بشروط انتخاب وتعيين رئيس الجمهورية والوزراء. فالمادة 145 تُلزم رئيس الجمهورية بأن يقدم إقرار الذمة المالية عند توليه المنصب وعند تركه، وفي نهاية كل عام، وأن يُنشر الإقرار في الجريدة الرسمية. والأمر ذاته بالنسبة للمادة 166 الخاصة برئيس الوزراء وأعضاء الحكومة، لكن لم يتم تنفيذ موضوع النشر حتى الآن، كما لم تعلن أي جهة تفاصيل تلك الإقرارات. أما المادة 238 التي تلزم الدولة بتنفيذ التزاماتها بتخصيص حد أدنى لمعدلات الإنفاق الحكومي على التعليم والتعليم العالي والصحة والبحث العلمي، المقررة في الدستور، بشكل كامل في موازنة السنة المالية 2016-2017، فقد تم إهمالها بالكامل أيضاً، رغم معارضة عدد من أعضاء مجلس النواب كل عام للموازنة التي لا تخصص 4 في المائة من الناتج الإجمالي القومي للتعليم، و3 في المائة للصحة، و2 في المائة للتعليم العالي، و1 في المائة للبحث العلمي. وفي موازنة الدولة للعام المالي الحالي يبلغ نصيب التعليم 89 مليار جنيه (نحو 5 مليارات دولار) بدلاً من 140 مليار جنيه تمثل النسبة المنصوص عليها دستورياً. ويبلغ نصيب الصحة 61 مليار جنيه بدلاً من 100 مليار تقريباً، وفقاً للمناقشات التي دارت في لجنتي التعليم والصحة بمجلس النواب في إبريل/نيسان الماضي خلال مناقشة مشروع الموازنة العامة، لكن في النهاية تم إقرار الموازنة دون تعديلات.
وكان الترويج الإعلامي لضرورة تعديل الدستور قد بدأ في مصر منذ عامين، لكنه تصاعد في الشهور الثلاثة الأخيرة. وأكدت مصادر حكومية، لـ”العربي الجديد”، في سبتمبر/أيلول الماضي، أن السيسي تلقى تقارير مخابراتية توصي بضرورة الإسراع في إجراء استفتاء تعديل الدستور استغلالاً لوجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السلطة، ثم إتباعه بإجراءات لتقليل القيود على المجال العام، قد تصل إلى حد تخصيص نسبة من مقاعد البرلمان لمعارضة صورية. ومن المتوقع ألّا يقتصر أي تعديل دستوري على مد فترة الرئاسة، بل سيمتد أيضاً لإزالة أي عوائق تحول دون ممارسته سلطة مباشرة على جميع سلطات ومرافق الدولة، وأبرزها السلطة القضائية، فضلاً عن حذف بعض الضمانات التي يمنحها الدستور الحالي لوسائل الإعلام والصحافيين، وإعادة صياغة المواد المنظمة لميزانية الدولة، بما يزيل شروط زيادة نصيب التعليم والصحة منها، وحذف التنظيم الخاص بالعدالة الانتقالية.