أفريقيا برس – ليبيا. العنبر الكبير والليل.. والقمر أحياناً في بعض الليالي باردة أو حارة. لحظات خلالها تسمح بالانطلاق.. بكسر القيود.. ليس ثمة ما يخشى بين الصحاب. البعض يحكي. البعض يجهز نفسه لليوم التالي.. حلاقة الوجه وتلميع الحذاء وكي الملابس. الرتابة الصارمة تحتم على الطالب أن يكون متيقظاً لكل المفاجآت. البعض يركن للنوم.. وهكذا. في العنبر حياة أخرى لكنها في كل الأحوال تلتزم الانضباط بين أولئك الزملاء في الحظيرتين اللتين تضمان الدفعة السابعة ذلك العام والعام الذي يليه.
وتقبل إحدى الليالي من بعيد. كان الاحتكاك سيقع.. سيحدث تلك الليلة. العنبر يشهد ما صار بالضبط. بالتفصيل. بالدقة المتناهية. بين تناقضين.. بين طرفين يتباعدان ولا يلتقيان. واحد منهما في جانب.. والآخر في جانب آخر. لا فرصة للتقارب الإنساني على الصعيد الشخصي. جمعتهما العسكرية القاسية وحسب. لم يعرف الطرفان بعضهما من قبل. لم يكن ثمة لقاء أو تواصل.
العنبر والساحة وأيام الكلية حتمت اللقاء. كان اللقاء والتعارف فرضاً ولم يكن طوعاً أو اختياراً. التكبالي وراءه أعوام في طرابلس المدينة ودروبها وشوارعها ومقاهيها ومكتباتها وحلمها الذي ينمو في صدور شبابها. ثم أعوام ثلاثة في ألمانيا البعيدة.
ظروفها ولحظاتها وغربتها. لكن الغربة في الوطن بعد العودة وحتى بين جدران الكلية كانت ربما أقسى من أيام ألمانيا. والقذافي خلفه ذكريات قاحلة في بادية سرت ثم في داخل مدارس سبها ثم في مصراتة. حوادث مختزنة في الأعماق.
شعور بالغبن والاضطهاد. مراحل تتلاحق ويحاول أن يفك أسره منها بتأثيرات وتشكيل خلايا. كان يرى ذلك حلاً لما يدور في نفسه. لكنهما التقيا وكانا نقيضين على وجه التمام. طرفان تعامدا في خط الكلية ولم يلتقيا. طبيعة النفس البشرية. وعدم تفاعل الكيمياء في الصحبة والعلاقة الدافئة. ذلك ما وقع تماماً.
وفي تلك الليلة أيام الدراسة اشتعل شرر النقيضين. كان حاداً إلى أبعد حد. خرج ما في الجوف. تصدرت لغة النزاع إلى درجة الكراهية وطافت بالعنبر.. بين جدرانه وأسرته ودواليبه وطلبته. شيء عجيب يحدث تلك الليلة وفي قلب بيئة عسكرية خالصة. شيء يعتبر من المحظورات أو من الخطوط الحمر.
والذي حدث روته ورددته قصص في (تاريخ ثورة القذافي) التي كانت تعقد وتذاع وتعرض في مطلع سبتمبر- أيلول كل عام خاصة في السنوات الأولى.
يحضرها القذافي نفسه وأحياناً كثيرة يوجه النقاش بشأنها. يشارك أيضاً الأعضاء أو ضباط التنظيم ومرات أخرى يأتي نشطاء التنظيم المدني من أيام فزان ومصراتة على وجه الخصوص.
عبدالسلام اجلود بعد أعوام طويلة أكد ما وقع تلك الليلة بين التكبالي والقذافي النقيضين في ملحمته بالصفحة (39).. يقول: (كان ترتيبي بين الطلبة هو الخامس ولذلك حملت رتبة أقدم – نائب عريف – وكنت مسؤولاً عما يدعى بالمصطلح العسكري.. حظيرة طلبة. وبما أننا كنا نعيش في عنبر كبير يضم حظيرتين فقد أصبحت عملياً مسؤولاً عنهما واكتشفت أننا في الحظيرتين نمثل في الواقع مجموعتين مختلفتين في الطباع والاهتمامات).
ثم يردف القول: (كانت لوائح الكلية وقوانينها تمنع على الطلبة اقتناء مذياع. ولأنني أنا والأخ معمر لم نكن نستطيع العيش بلا مذياع فقد كان لدينا مذياع خاص بنا وكنا مدمنين سماع إذاعة صوت العرب وخاصة أحمد سعيد وجلال معوض وخطابات عبدالناصر).
وهنا نلاحظ نقاط الصدام. ونقاط الاختلاف. التكبالي يمثل ثقافة خاصة بجيله وبشخصيته دون أن يقلد أو يقع أسيراً لظل يسيطر عليه حتى في الظلام. ثقافة منطلقة ومتحررة وتتسع لكل الأشياء. والقذافي لديه مكون خاص ومحدد يخضع لتأثيرات قادمة من جو وأفق آخر.
يمثل بهذا الشكل ظلاً لإطار وطيف بعيد.. بعيد. وهنا أيضاً تكمن الفجوة بين الشخصيتين وتزيدها الاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية. وبالطبع لا بد أن يشتد التنافر والتقاطع إضافة الى عناصر أخرى.
وهنا كذلك تبرز حكاية تطلع من ثنايا التاريخ.. فالحظيرة في النظام العسكري هي ما دون السرية. مجموعة صغيرة من الأفراد. كان كثيراً ما يستغلها التكبالي في السخرية من نقيضه بالقول المباشر.. لو كنت مسؤولاً فإنني لا أقبلك في الأساس في الكلية وربما لا تصلح في المستقبل مسؤولاً عن حظيرة دجاج!
ويواصل اجلود روايته: (لقد وجدتني أمام مفارقة محرجة. فالمجموعة الثانية كانت تمتلك مذياعاً أيضاً وكانت تستخدمه طوال الوقت للاستماع إلى الأغاني الغربية الراقصة وكان بينهم خليفة التكبالي وهو مثقف يساري سبق له أن عاش في ألمانيا وكان يكتب القصص القصيرة ومعه شخص آخر يدعى محمد بن طاهر. فإذا سمحت لنفسي والأخ معمر بامتلاك مذياع ففي هذه الحالة يجب أن أسمح لبقية الطلبة بالحق نفسه).
فماذا فعل القذافي.. يقول اجلود (احتج معمر لأن المجموعة الثانية كانت تستمع إلى موسيقى غربية صاخبة وترقص على أنغامها فقال لي: يجب أن تصادر المذياع منهم وتعاقب هذين الطالبين). لكن اجلود رفض وأشار للقذافي بأنه يعرف عمله جيداً، مؤكداً أن الطالبين بن طاهر والتكبالي لديهما مشكلات إدارية ولا أريد أن أتسبب في طردهما، معتبراً أن تحريم مذياع على الجميع يرتب عدم وجود مذياع لدينا، بمعنى أن يطبق القانون على حد سواء بين المجموعتين.
فماذا فعل القذافي هنا على وجه التحديد.. كيف قابل رفض اجلود لاقتراحه بحرمان التكبالي وبن طاهر من استعمال المذياع. يجيب اجلود بالقول.. (نهض القذافي من مكانه وذهب مسرعاً للقاء ضابط الخفر وهو في رتبة نقيب واسمه إسماعيل الصديق قائلا له نائب العريف عبدالسلام لا يسيطر على الطلبة وهناك مجموعة من الطلبة لديها مذياع تسمع منه أغاني غربية راقصة).
ويقول اجلود أيضاً إن هذه الشكوى التي تقدم بها القذافي ضده كانت سبباً في عقوبة تمثلت في حرمانه من مغادرة الكلية أربعة أسابيع متتالية مع ست ساعات عقوبة وخصم 28 درجة من علامات السلوك. وتسبب ذلك أيضا في تدهور العلاقة بين القذافي واجلود والتكبالي ولكن بعد وقت قصير سعى التكبالي إلى إصلاح العلاقة معنا.
قام معمر صراحة بالوشاية المباشرة في زميليه ولحقت العقوبة القاسية برفيق دربه من أيام فزان.. عبدالسلام اجلود. ليلة أحداثها تداعت وأضحت تروى بين رفاق الدفعة ولم ينسها الطرفان المتناقضان. لو كان التكبالي صديقاً قريباً للقذافي أو ثمة ود بينهما لما تصرف بمثل ما قام به. ظل يعتبر التكبالي له اعتزازه وإعجابه بثقافة وافدة وذكريات ألمانيا وحضارة أوروبا. وهو أمر لا يقبل به القذافي كان يجيد (التصنيف) بحس عجيب.. ويلامس أقرب من يعرفه أو يتواصل معه.
.. والليل يخفي الأسرار.. لكنه لم يفعلها في تلك اللحظة في العنبر الكبير. الطرفان مزق الليل ما تخفيه صدورهما. انكشفت الأستار. التكبالي والقذافي لم تعد حكايتهما سراً. وقع التخرج في التاسع من أغسطس 1965. مضى التكبالي إلى سلاح المدفعية في حامية الزاوية والقذافي إلى سلاح المخابرة في حامية المرج.. لكنه اتجه إلى معسكر قاريونس بإرادته!
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس