حفتر بين رهانات الخارج ومعادلة الداخل

4
حفتر بين رهانات الخارج ومعادلة الداخل
حفتر بين رهانات الخارج ومعادلة الداخل

عبد الرحمن البكوش

أفريقيا برس – ليبيا. منذ أن برز اسمه على الساحة الليبية عقب عام 2014، وخصوصاً مع إطلاق ما سمّاه “عملية الكرامة” في الشرق، يواصل المشير خليفة حفتر محاولاته لتكريس نفسه لاعباً أساسياً لا غنى عنه في المشهد السياسي والعسكري الليبي. ورغم الانتكاسة الكبيرة التي مُني بها في هجومه على طرابلس عام 2019، لم يتراجع حفتر عن رهانه المركزي: انتزاع اعتراف دولي بشرعيته، سواء عبر السيطرة على قطاع النفط، أو استخدام ورقة الهجرة غير النظامية التي تؤرق أوروبا، أو تقديم نفسه كقوة حاسمة في مواجهة الإرهاب. وبين هذه الأوراق، يسعى حفتر إلى إعادة صياغة موقعه أمام الداخل الليبي الذي لا يزال منقسماً بشدة حول دوره ومستقبله.

ورقة النفط شريان الدولة ومعركة الشرعية يمثّل النفط الورقة الأقوى في يد حفتر. فمنذ سيطرته على الهلال النفطي وحقول رئيسية في الشرق والجنوب، استطاع أن يفرض نفسه رقماً صعباً في معادلة الاقتصاد الليبي (مجموعة الأزمات الدولية، 2023). وقد أظهرت تقارير دولية، مثل تقرير “رويترز” حول شركة أركنو الناشئة في الشرق، أن قواته وفّرت غطاءً لشركات نفطية خاصة تمكّنت من تصدير شحنات كبيرة خارج سيطرة المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس (رويترز، يوليو 2023).

في حديثه لـ “أفريقيا برس”، أوضح الخبير الليبي محمود إسماعيل أن “النفط يمثل الورقة الأكثر حساسية في يد حفتر، فهو لا يملك الشرعية الانتخابية ولا الاعتراف الأممي، لكنه يدرك أن تحكمه في الشريان الاقتصادي للدولة يجعله لاعباً لا يمكن تجاوزه”. وفي المقابل، خلال حديثه لـ “أفريقيا برس”، يوضح المحلل السياسي إبراهيم بلقاسم أن السيطرة على النفط تحولت إلى وسيلة ضغط متبادلة، حيث تستثمر بعض الدول في الأزمة وتسمح بتحويل العوائد أحياناً إلى مصادر دخل غير شرعية، وهو ما يفاقم تعقيدات الصراع.

ورقة الهجرة ضغط على أوروبا الهجرة غير النظامية تمثل بدورها ورقة ضغط فعّالة. ليبيا تُعتبر أحد أهم المعابر إلى أوروبا عبر المتوسط، ومع تفاقم موجات النزوح، تجد العواصم الأوروبية نفسها مضطرة للتعامل مع كل طرف يملك السيطرة على السواحل ومسارات التهريب (فرونتكس، تقرير 2023). حفتر، عبر قواته المتمركزة في الشرق وعلى تخوم الجنوب، يقدّم نفسه شريكاً لا يمكن تجاوزه في ضبط الحدود واحتواء موجات الهجرة.

ويشير محمود إسماعيل إلى أن “ورقة الهجرة بالنسبة لحفتر ليست سوى أداة ضغط على أوروبا، فهو يلوّح بها كلما احتاج دعماً أو غضّ الطرف عن تحركاته العسكرية، مدركاً حساسية هذا الملف في العواصم الأوروبية”. في المقابل، ينوه إبراهيم بلقاسم إلى أن هذا الملف لم يعد إنسانياً بقدر ما أصبح أداة ابتزاز سياسي بين أطراف الصراع الليبي، حيث يسعى كل طرف لتوظيفه للحصول على اعتراف دولي أو دعم مالي. وأضاف أن الأوروبيين يتعاملون مع ليبيا على أنها مجرد “حارس حدود بحرية”، دون أن يقدموا حلولاً جذرية للأزمة، الأمر الذي ساهم في تحويل الهجرة إلى مقاربة أمنية بحتة.

ورقة الإرهاب خطاب الأمن والاستقرار منذ بداية ظهوره، بنى حفتر سرديته السياسية على خطاب “محاربة الإرهاب”. عملية الكرامة قُدّمت عام 2014 على أنها حملة ضد الجماعات الإسلامية والمتشددة التي انتشرت في بنغازي ودرنة. ومع أن هذه العمليات أسهمت في تقليص نفوذ تنظيمات متطرفة بالفعل، إلا أن خصومه يعتبرون أن هذا الشعار استُخدم كغطاء لتصفية خصوم سياسيين وتوسيع دائرة نفوذه العسكري.

وفي هذا الجانب، يشير محمود إسماعيل إلى أن “خطاب مكافحة الإرهاب مكّن حفتر من تسويق نفسه لدى الخارج، لكن داخلياً لم ينجح في بناء مؤسسات. لقد استخدم ورقة الإرهاب لتقديم نفسه كالمحارب الأول للتطرف، فيما دفع كل الليبيين ضريبة مواجهة الإرهاب، وما قام به الليبيون في سرت ضد تنظيم داعش خير شاهد؛ حيث سقط أكثر من ستمئة قتيل وأصيب أكثر من ألفي جريح. ما يُسوّق له على أنه إنجاز عسكري أراه معزولاً عن أي مشروع سياسي متكامل”. من جانبه، يحذّر إبراهيم بلقاسم من أن ورقة الإرهاب باتت جزءاً من معادلة الأمن القومي التي يوظفها كثيرون لتثبيت نفوذهم، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب أمام استخدام الملف للتصعيد السياسي والعسكري كلما تعثرت المسارات السلمية.

التحركات الخارجية رهانات على القوى الكبرى

التحركات الخارجية رهانات على القوى الكبرى على المستوى الخارجي، يدرك حفتر أن انتزاع الشرعية الدولية يمر عبر كسب ثقة القوى الكبرى. لذلك نسج علاقات متشابكة مع فرنسا وروسيا ومصر والإمارات، مقدّماً نفسه حاجز صد أمام الإرهاب والهجرة (معهد واشنطن، 2022). وتشير تقارير دولية إلى أن علاقته بروسيا، عبر وجود مجموعة “فاغنر”، وفّرت له دعماً لوجستياً وعسكرياً حاسماً خلال السنوات الماضية. في الوقت نفسه، ظلّ يطرق أبواب الأوروبيين عبر بوابة النفط والهجرة.

ويرى محمود إسماعيل أن “رهان حفتر على الخارج أكبر من رهانه على الداخل، فهو يدرك أن غياب التوافق الوطني يمنعه من الحصول على الشرعية داخلياً، لذلك يحاول تعويضها عبر دعم دولي يمنحه مكانة في أي تسوية سياسية”. بينما أضاف إبراهيم بلقاسم أن الأوروبيين أنفسهم يعانون انقساماً داخلياً بشأن الملف الليبي، الأمر الذي يجعل تعاملهم مع حفتر وبقية الأطراف انتقائياً ومتناقضاً، وهو ما يضاعف هشاشة المسار السياسي.

البعد الداخلي معركة الشرعية الوطنية إذا كان الخارج يشكّل رهانه الأكبر، فإن الداخل يبقى العقدة الأصعب. فحفتر، رغم نفوذه العسكري في الشرق وسيطرته على معظم المنشآت النفطية، يفتقر إلى توافق وطني يمنحه غطاءً سياسياً جامعاً. أنصاره في الشرق يرونه المنقذ من فوضى الميليشيات وتغوّل الإسلام السياسي والإرهاب، لكن في الغرب الليبي يُنظر إليه كخصم يريد فرض سلطته بقوة السلاح دون المرور عبر صناديق الاقتراع.

ويقول محمود إسماعيل إن “معضلة حفتر أنه قد يملك القوة، ولكنه لا يملك الشرعية. فحتى لو سيطر عسكرياً على مزيد من الأراضي، فإنه سيظل عاجزاً عن فرض نفسه كقائد وطني جامع من دون توافق سياسي شامل”. بينما يرى إبراهيم بلقاسم أن الانقسام الداخلي وازدواجية المؤسسات التنفيذية جعلا من ليبيا أرضاً خصبة لاستمرار التوظيف السياسي للموارد والأزمات، وهو ما أضاع فرص بناء مشروع وطني جامع.

السيناريوهات المحتملة بين التثبيت والتصعيد والتسوية

في ضوء هذه المعطيات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

الاستمرار في الوضع القائم: إدارة النفط بشكل مزدوج بين الشرق والغرب، مع تفاوضات محدودة تُبقي على الانقسام السياسي وتسمح لكل طرف بتمويل نفسه.

– محاولة عسكرية جديدة: في حال حصول حفتر على غطاء دولي أوسع ودعم عسكري أكبر، قد يسعى إلى إعادة تجربة طرابلس. غير أن الكلفة السياسية والعسكرية لهذه المغامرة، إلى جانب التجربة المريرة لعام 2019، تجعلها رهاناً محفوفاً بالمخاطر.

– تسوية سياسية شاملة: عبر تفاهمات دولية وإقليمية تفرض على جميع الأطراف مشاركة العوائد النفطية وتوحيد المؤسسات في خارطة طريق وضعتها البعثة الأممية للدعم في ليبيا. هذا السيناريو يُعتبر الأقل احتمالاً حالياً، لكنه يظل الخيار الوحيد القادر على إنهاء الانقسام بشكل مستدام، وهو ما أكده المحلل السياسي إبراهيم بلقاسم.

ويؤكد محمود إسماعيل أن “مستقبل حفتر سيظل رهناً بمدى قدرته على الجمع بين اعتراف الخارج وقبول الداخل، وهي معادلة معقدة لم ينجح حتى الآن في تحقيقها”. أما إبراهيم بلقاسم فقد وسّع نطاق السيناريوهات، مشيراً إلى إمكانية نجاح مبادرة الأمم المتحدة والذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية يشارك فيها حفتر، أو بقاء حكومة موحدة بتوافقات تقاسم سلطة، أو اللجوء مجدداً إلى ورقة العنف والتصعيد العسكري. كما حذّر من سيناريو آخر يتمثل في تجميد الملف الليبي دولياً ووضعه في “ثلاجة سياسية”، أو حتى انسحاب تدريجي للمجتمع الدولي بما يفتح الباب أمام تفكك داخلي وصعود وجوه جديدة مثل صدام حفتر وآخرين من الطرف الآخر لإدارة المشهد.

بين أوراق النفط والهجرة والإرهاب، وبين تحركات الخارج ومعادلات الداخل، يظل حفتر لاعباً مركزياً لا يمكن تجاوزه في ليبيا. حجج مؤيديه تنطلق من واقع الانهيار والفوضى، حيث يقدّم نفسه كقوة منظمة تملك الموارد والسلاح وتستطيع فرض الاستقرار. أما منتقدوه فيرون أن رهانه على القوة والموارد قد يعمّق الانقسام بدل أن ينهيه، وأن غياب التوافق الوطني يجعله جزءاً من المشكلة لا طريقاً إلى الحل.

وإذا كان فشل هجوم 2019 قد قيّد خياراته، فإن استمرار امتلاكه للموارد النفطية وقوة عسكرية معتبرة، إلى جانب قدرته على مخاطبة أوروبا عبر ورقتي الهجرة والإرهاب والاعتراف به كسلطة واقعة على الأرض من قبل المجتمع الدولي، يجعله رقماً صعباً في أي تسوية قادمة. وفي النهاية، يظل مستقبل حفتر مرتبطاً بقدرته على الجمع بين الشرعية الدولية والقبول الداخلي، وهي معادلة تبدو حتى الآن أعقد من أن تُحسم بالسلاح وحده.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here