عبدالرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. تشهد ليبيا منذ مطلع أغسطس 2024 تصاعدًا في التوتر داخل المجلس الأعلى للدولة، مع احتدام الخلاف حول رئاسته بين خالد المشري ومحمد تكالة. هذا الانقسام الذي يعكس التحديات السياسية والقانونية في البلاد، ألقى بظلاله على المشهد السياسي الليبي، مع تداعيات خطيرة على مسار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة.
ظهر النزاع على السطح بعد انتخابات رئاسة المجلس الأعلى للدولة التي جرت في 6 أغسطس 2024، حيث فاز خالد المشري في الجولة الأخيرة بفارق ورقة انتخابية في انتخابات المجلس الداخلية.
إلا أن منافسه محمد تكالة، الذي نافسه في الجولة الأخيرة وهو يشغل رئيس المجلس حينها، طعن في النتائج بحجة صحة الورقة الملغية التي كانت لصالحه مما جعله يلجأ إلى الطعن أمام القضاء في قانونية بعض الأعضاء الجدد في المجلس وفي قانونية الجلسة.
وطعن في شرعية المشري كرئيس جديد منتخب، هذا الطعن الأخير أدى إلى صدور حكم من محكمة استئناف جنوب طرابلس في 25 سبتمبر 2024، يقضي بوقف قرار انتخاب المشري مؤقتًا.
وفي كلمة مسجلة، تحدث خالد المشري عن “مغالطات” أطلقها محمد تكالة في كلمته التي ألقاها في الاجتماع الأخير بأعضاء المجلس الأعلى للدولة، وكانت الجلسة برئاسة تكالة، مشيرًا إلى أن تكالة “يدلس على زملائه ويكذب على القضاء”، وقال إن الحكم الذي يستند إليه تكالة صدر من محكمة غير مختصة، وإن الاختصاص يعود للدائرة الدستورية، وليس للمحاكم الإدارية.
وأكد المشري ولو سلمنا جدلا ـ على حد تعبيره- بهذا الحكم واختصاص المحكمة أنه مستعد لخوض “المعركة القانونية” وأنه يعتبر نفسه الرئيس الشرعي للمجلس إلى حين فصل القضاء في هذا الأمر، وأن الإجراءات التي يعمل بها تكالة تبين أنه ليس لديه من يفسر له نصوص الأحكام وأنه يبحث عن أي حكم يستند عليه.
إن هذه التصريحات لم تكن مجرد رد فعل شخصي، بل كانت إشارة إلى عمق الخلاف داخل المجلس منذ فترة بعيدة،
المشري في كلمته أكد أيضا أنه لن يتراجع عن الرئاسة، محذرًا من محاولات تشويه الحقائق أمام الشعب الليبي، ومطالبًا زملاءه في المجلس والشعب الليبي بعدم الانجرار وراء “تدليس” محمد تكالة.
التداعيات السياسية: تعطل العملية الانتخابية
في حوار مع الخبير في العلاقات الدولية بشير الجويني لـ”أفريقيا برس”، أشار إلى أن الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة ليس جديدًا، بل هو امتداد لتباينات سياسية قديمة.
إلا أن الوضع الحالي، بحسب الجويني، يمثل “أزمة غير مسبوقة” تؤثر بشكل مباشر على العملية السياسية في ليبيا.
أوضح الجويني أيضا أن المجلس الأعلى للدولة هو شريك أساسي في صياغة القوانين والتشريعات المتعلقة بالانتخابات، وهو مكلف بالتعاون مع مجلس النواب لإعداد هذه القوانين وفقًا للاتفاق السياسي الليبي المبرم في جنيف عام 2021. وأضاف أن استمرار الانقسام سيعوق إصدار التشريعات اللازمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، مما يؤدي إلى تأخير إضافي للعملية الانتخابية، التي تعتبر الحل الأساسي للأزمة السياسية في البلاد.
الإطار القانوني للأزمة.. تأثير الانقسام على الشرعية
من الناحية القانونية، أوضح القانوني أحميد الزيداني في تصريح لـ”أفريقيا برس”، أن الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة يشكل تحديًا كبيرًا للشرعية القانونية لقرارات المجلس. وقال الزيداني: “وجود رئاستين مختلفتين داخل المجلس سيؤدي حتمًا إلى إصدار قرارات متناقضة، مما يعني أن إحدى الرئاستين ستكون غير قانونية، وستكون قراراتها باطلة”.
وأضاف الزيداني أن النزاع حول الرئاسة يعقد بشكل كبير إمكانية اتخاذ قرارات شرعية داخل المجلس، خاصة فيما يتعلق بالمسائل الهامة مثل تنظيم الانتخابات والتشريعات المرتبطة بها.
وتابع؛ إن الخلاف الحالي تجاوز المسألة القانونية المتعلقة بورقة الاقتراع التي أثارت الأزمة، ليصبح صراعًا حول السيطرة والشرعية داخل المجلس، وهو ما يعقد المشهد أكثر.
وأشار الزيداني إلى أن المسار القضائي الذي تبعه الطرفان حتى الآن لم ينجح في حل الأزمة، رغم صدور عدة أحكام قضائية.
ومع ذلك، لا يزال كل طرف متمسكًا بموقفه، ما يفاقم من تعقيد الوضع، ورغم لجوء الطرفين إلى القضاء، إلا أن الحل النهائي لا يبدو قريبًا.
البعد الدولي للأزمة… تدخل المجتمع الدولي
من جانب آخر، أشار الجويني، إلى أن الأزمة الداخلية للمجلس الأعلى للدولة لها أبعاد دولية، حيث يتدخل العديد من الفاعلين الدوليين في الشأن الليبي، سواء من خلال دعم بعض الأطراف أو محاولة استغلال النزاع لمصالحهم الخاصة.
وأوضح أن المجتمع الدولي، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، قد يجد نفسه مضطرًا للتدخل كما فعل في أزمات سابقة، مثل أزمة المصرف المركزي الليبي.
وشرح أن التدخل الدولي يمكن أن يكون له أثر إيجابي في تهدئة الوضع، إلا أنه حذر من أن استمرار التدخلات السلبية الخارجية التي قد تؤدي إلى مزيد من التعقيد في المشهد السياسي، وتزيد من تعميق الانقسام داخل المجلس. وأضاف أن الدول الإقليمية والدولية لديها مصالح متباينة في ليبيا، وهو ما يزيد من صعوبة الوصول إلى حل ليبي-ليبي للأزمة.
السيناريوهات المستقبلية؛ جمود سياسي أم حسم قانوني؟
في ظل استمرار الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة، تبقى عدة سيناريوهات محتملة للمستقبل.
أحد هذه السيناريوهات أوضحها الزيداني لـ”أفريقيا برس”، هو استمرار الجمود السياسي، حيث يعجز المجلس عن أداء دوره، مما يؤدي إلى تأخير الانتخابات والتشريعات المتعلقة بها.
وفي هذا السياق، قال الزيداني إن المجلس قد يفقد قدرته على اقتراح مشاريع قوانين للانتخابات، مما سيؤدي إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لأجل غير مسمى.
وفي سؤال “أفريقيا برس” حول السيناريوهات المحتملة في قادم الأيام، قال الزيداني “إن من السيناريوهات المحتملة أن يتخذ مجلس النواب خطوات منفردة، بعيدًا عن التشاور مع المجلس الأعلى للدولة، لتمرير تشريعات انتخابية. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تصعيد سياسي داخلي، ويزيد من حالة الاستقطاب بين الأطراف الليبية”.
في المقابل، “هناك احتمال آخر يتمثل في تدخل بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أو المجتمع الدولي للضغط على الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حل توافقي. هذا التدخل قد يساعد في استعادة بعض الاستقرار السياسي، لكن بشرط أن تكون الأطراف الليبية مستعدة لتقديم تنازلات”.
هل من مخرج للأزمة؟
يبقى السؤال المطروح، هل يمكن للمجلس الأعلى للدولة تجاوز هذا الانقسام واستعادة دوره المحوري في تنظيم الانتخابات واستكمال المسار السياسي؟ الجواب يعتمد إلى حد كبير على إرادة الأطراف الليبية للتوصل إلى حلول مشتركة، وعلى قدرة المجتمع الدولي على تسهيل هذا الحوار.
في النهاية، يبدو أن الأزمة التي يعيشها المجلس الأعلى للدولة ليست مجرد نزاع حول ورقة اقتراع أو منصب رئاسي، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالتوازنات السياسية في ليبيا.
الحل لن يكون بسيطًا، بل يحتاج إلى جهد مشترك من الطبقة السياسية الليبية والمجتمع الدولي لإعادة بناء الثقة واستعادة المسار الديمقراطي.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس