عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. أثار قرار مصرف ليبيا المركزي بإغلاق عدد من مكاتب الصرافة موجة من الجدل في الشارع الليبي وبين الأوساط الاقتصادية، بعدما رأى فيه البعض محاولةً لضبط السوق والحد من المضاربات، بينما اعتبره آخرون خطوةً ارتجالية عمّقت معاناة المواطنين وزادت من اعتمادهم على السوق الموازية التي تبتلع ما تبقّى من استقرار مالي في البلاد.
الخبير المصرفي فوزي ددش أوضح في تصريح خاص إلى «أفريقيا برس» أن جوهر المشكلة لا يكمن في وجود مكاتب الصرافة أو إغلاقها، بل في غياب القنوات الرسمية الموثوقة لتوفير الدولار للمواطنين والتجار على حد سواء. وأكد ددش أن مصرف ليبيا المركزي، في غياب رؤية مصرفية متكاملة، يواجه الأزمة بسياسات جزئية لا تمسّ أساس المشكلة، موضحاً أن المواطن العادي لم يعد يبحث عن تفسير لارتفاع الأسعار أو شح العملة الأجنبية، بل عن طريقة بسيطة ومضمونة للحصول على الدولار لتغطية احتياجاته اليومية.
وأشار ددش إلى أن السوق الموازية لم تكن لتنتعش لولا فقدان الثقة في النظام المصرفي الرسمي، إذ بات المواطنون ينظرون إلى البنوك باعتبارها كيانات بطيئة ومعقدة الإجراءات، لا تتيح الوصول إلى النقد بسهولة، ولا تقدم خدمات إلكترونية تواكب متطلبات السوق الحديثة. وأضاف أن قرار الإغلاق جاء في وقت كان الناس ينتظرون فيه تسهيلات، فوجدوا أنفسهم أمام قيود جديدة تزيد من تعقيد المشهد المالي.
في طرابلس، يلمس المواطنون والتجار آثار القرار بشكل مباشر. يقول رياض لـ«أفريقيا برس»، وهو موظف في قطاع خاص، إن “إغلاق المكاتب حرمنا من الوسيلة الوحيدة السريعة للحصول على الدولار. كنت أرسل لشقيقي نقداً أجنبياً للعلاج في تونس عبر مكتب صرافة قريب من منزلي، وبعد الإغلاق لم أجد أي بنك يوفر الخدمة، فاضطررت إلى اللجوء والبحث في السوق السوداء، حيث أصبح الدولار يُباع في أماكن غير رسمية”.
أما سالم رميح، تاجر مواد كهربائية في طرابلس منذ أكثر من عشرة أعوام، فأوضح لـ«أفريقيا برس» أن “القرار أربك حركة الاستيراد والتوريد لأن أغلب التجار القطاعيين، الذين لا يجرون اعتمادات مستندية، يعتمدون على مكاتب الصرافة في تمويل صفقاتهم. الآن العديد من الموردين في الخارج يطلبون الدفع الفوري بالدولار، بينما البنوك لا توفره”.
هذه الشهادات، بحسب ددش، تعبّر عن فجوة عميقة بين المواطن والمؤسسات المالية. فالمصارف كما يقول، لم تنجح في أن تقدم نفسها كبديل حقيقي للسوق الموازية، ما جعل الإجراءات العقابية مثل الإغلاق تبدو في نظر الناس كعقاب جماعي لا كإصلاح ضروري. وأوضح أن العمالة الوافدة التي يُقدّر عددها بثلاثة ملايين شخص تمثل عنصراً نشطاً في تغذية السوق غير الرسمية، نظراً لغياب الضوابط على تحويلاتها، وهو ما يضاعف من حجم التداول خارج الإطار القانوني ويصعّب السيطرة عليه.
في المقابل، يرى المستشار والخبير في التنمية الاقتصادية الليبي خالد الكاديكي، في مداخلة على قناة الوسط الليبية، أن الأزمة المصرفية في ليبيا هي انعكاس مباشر للوضع الاقتصادي العام، مشيراً إلى أن المصرف المركزي “انفرد في مواجهة أزمة متفاقمة من دون دعم حكومي فعلي”، وأنه لم يعد يؤدي دوره كجهاز توازن اقتصادي للدولة.
وأوضح الكاديكي أن المصرف، في محاولته دعم الدينار الليبي، وقع في مصيدة التضخم، إذ لجأ إلى سياسات تقييد السوق من دون أن يوفر بدائل واقعية للتجار والمستهلكين، معتبراً أن “إغلاق مكاتب الصرافة من دون بدائل خلق ارتباكاً في السوق، في ظل اعتماد البلاد شبه الكامل على الواردات”.
ويحذّر الكاديكي من “الانزلاق إلى الحالة اللبنانية”، كما قال في المداخلة ذاتها، موضحاً أن استمرار غياب الحكومة الموحدة والخزانة المركزية سيجعل أي قرار نقدي بلا أثر حقيقي، لأن السوق خارج سيطرة الدولة ستتحول إلى مرجع اقتصادي موازٍ.
الإعلامي الاقتصادي إبراهيم السنوسي، رئيس تحرير منصة «مال وأعمال»، ذهب في الاتجاه نفسه، إذ رأى في مداخلة على قناة الوسط أن مصرف ليبيا المركزي تأخر أكثر من عشر سنوات في معالجة الخلل في سوق الصرف. وقال إن المصرف أعلن في عام 2012 عن قبول طلبات ترخيص مكاتب الصرافة لكنه لم ينفذ القرار إلا مؤخراً، منتقداً التوسع في منح الاعتمادات المستندية في ظل شح الإيرادات. وأضاف أن بيع العملات الأجنبية خارج الإطار الرسمي “جريمة اقتصادية”، لكنها باتت واقعاً بفعل ضعف الرقابة واتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية.
من جهة أخرى، يرى مراقبون في الشأن الاقتصادي أن إجراءات المصرف المركزي، بما فيها إغلاق المكاتب، لا تعالج جذور المشكلة، لأن الأزمة في جوهرها هي أزمة عملة وشح في السيولة. وأشاروا إلى أن المتاجرين بالعملة باتوا يعتمدون على قنوات إلكترونية ومنصات رقمية بديلة لتداول الدولار، ما يجعل السيطرة على دورة النقد شبه مستحيلة.
وأضافوا أن إعلان المصرف مؤخراً عن توفير ثلاثة مليارات دينار للتوزيع لا يكفي لمعالجة الخلل الهيكلي في النظام المالي.
في الأحياء التجارية بطرابلس، يعبّر عدد من التجار عن خشيتهم من استمرار هذا النهج. يقول عبدالله الساحلي لـ«أفريقيا برس»، وهو صاحب شركة استيراد صغيرة، إن “إغلاق المكاتب يجب أن يرافقه فتح قنوات مصرفية حقيقية لتوفير الدولار بأسعار قريبة من السعر الرسمي، وإلا فإننا سنضطر مجدداً إلى السوق السوداء”. ويضيف أن الأسعار في سوق الجملة ارتفعت بشكل واضح في الأسبوع التالي للقرار، وأن “الضرر الأكبر يقع على المستهلك النهائي الذي يدفع ثمن الارتباك”.
هذه الانعكاسات اليومية، كما يعلّق ددش في حديثه لـ«أفريقيا برس»، تكشف أن القرارات المصرفية في ليبيا تفتقر إلى التواصل مع الواقع الاقتصادي للمواطن. ويضيف أن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق عبر المنع والإغلاق، بل عبر إعادة بناء الثقة وتبسيط الإجراءات وتحسين الخدمات المصرفية، مؤكداً أن “أي سياسة نقدية لن تنجح ما لم يشعر المواطن أن البنك هو المكان الذي تُحل فيه مشكلته لا منبعها”.
ويرى محللون أن مصرف ليبيا المركزي يقف أمام مفترق طرق صعب؛ فإما أن يواصل سياسة الرقابة الصارمة لحماية الدينار مع ما يرافقها من ركود وضغط على التجار والمستهلكين، أو أن يتجه إلى تحرير تدريجي لسعر الصرف وتوسيع دائرة القنوات الرسمية، وهو خيار يتطلب استقراراً سياسياً ومالياً غير متاح حالياً.
في النهاية، يبدو أن قرار إغلاق مكاتب الصرافة، وإن كان يستند إلى مبررات تنظيمية، كشف هشاشة النظام المالي الليبي وأعاد طرح سؤال الثقة بين المواطن ومؤسساته النقدية. فبينما يسعى المصرف إلى ضبط السوق وكبح المضاربات، يرى المواطن أن القرارات تُتخذ بمعزل عن واقعه المعيشي، وأن الحل الحقيقي لا يكمن في إغلاق الأبواب، بل في فتح قنوات واضحة وشفافة تسمح بتداول العملة ضمن نظام مصرفي موثوق يخدم الناس بدلاً من أن يعاقبهم.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس





