المهدي هندي
أفريقيا برس – ليبيا. في مشهد يُعَدّ الأبرز منذ سنوات على صعيد الإدارة المالية في ليبيا، أعلن مصرف ليبيا المركزي توقيع اتفاق “البرنامج التنموي الموحّد” بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. يأتي هذا الاتفاق كمحاولة جادة لتوحيد الإنفاق العام وإنهاء حالة الازدواج المالي التي أرهقت الاقتصاد وأضعفت قدرة الدولة على إدارة مواردها.
ورغم أن الاتفاق يبدو – نظريًّا – نقطة تحول ضرورية، فإن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل نحن أمام خطوة حاسمة نحو الاستقرار، أم رهان صعب قد يتعثر في أول اختبار عملي؟
منذ تولّي المحافظ “ناجي عيسى” ومجلس الإدارة الجديد لمهامهم قبل عام، تبنى المصرف المركزي سياسة تقوم على كشف الحقائق وتعرية حجم الإنفاق الموازي أمام الرأي العام، بعدما بلغ نحو 270 مليار دينار مع توقعات بتجاوزه 330 مليارًا بنهاية العام.
تركزت جهود المصرف على ثلاثة مسارات رئيسية:
-تعزيز الشفافية:
نشر بيانات شاملة لأول مرة لكشف الإنفاق الموازي، خصوصًا في الشرق.
-فرض منطق التوحيد:
دفع السلطتين التشريعيتين إلى الاجتماع على طاولة واحدة بعد سنوات من القطيعة.
-حماية الدينار:
وقف النزيف الذي كان يغذي السوق الموازي ويضغط على الاحتياطي النقدي.
فور الإعلان عن الاتفاق سجل سعر الدولار انخفاضًا متواصلًا في السوق الموازي، ما يعكس استعادة أولية للثقة. كما تشير التوقعات إلى إمكانية إعادة النظر في رسوم بيع النقد الأجنبي خلال الفترة المقبلة، وهي خطوة قد تُضيّق الفجوة بين السعر الرسمي والموازي، وتُوجّه ضربة مباشرة لوسطاء المضاربة الذين ازدهر نشاطهم خلال سنوات الانقسام.
في بيانه الأخير، قدّم المصرف دعمه الكامل للاتفاق، ووصفه بـ”الوطني والهام”. لكنه في الوقت نفسه لوّح – بشكل غير مباشر – بتحديات قد تعصف بالمسار إذا لم تُعالَج مبكرًا، أبرزها:
-استمرار الإنفاق الموازي.
-غياب الحكومة التنفيذية الموحدة.
-ضعف الأجهزة الرقابية في الشرق والغرب.
هذه الإشارات تكشف بوضوح أن الاتفاق خطوة مهمة، لكنها غير كافية وحدها لضمان الاستقرار.
تؤكد مصادر سياسية واقتصادية أن الاتفاق يدل على نية لتجاوز انقسام 2022، لكنه في المقابل يبقى مفتوحًا على احتمالات الالتفاف أو التعطيل، خاصة في ظل تضارب المصالح وتعدد مراكز النفوذ. فالتجارب السابقة تُذكّر الجميع بأن ليبيا شهدت عشرات الاتفاقات التي بقيت حبرًا على ورق، بسبب غياب الإرادة التنفيذية أو محاولات القفز على بنود التفاهمات المالية. شرطان لا يقبلان التهاون لنجاح التوحيد المالي.
رغم أهمية الميزانية الموحدة، إلا أن نجاح الاتفاق يتوقف على شرطين أساسيين:
* التنفيذ الفعلي (الشرط الضروري): أن يُترجم الاتفاق إلى خطوات عملية، لا أن يتحول إلى بيان سياسي جميل الصياغة لا أثر له على الأرض.
* اعتماد ميزانية متوازنة (الشرط الكافي): بحيث لا يتجاوز الإنفاق العام الإيرادات. فإقرار ميزانية موحدة بعجز كبير يعني ببساطة إعادة تدوير الأزمة والحرث في نفس المكان.
إخلال أي من هذين الشرطين يعني أن التوحيد المالي لن يحدث، ولن يلمس المواطن أي تحسن في قوته الشرائية أو في سعر الصرف.
إذا جرى تنفيذ الاتفاق فعليًّا فقد يكون نقطة تحول في القطاعات الحيوية التي عانت من سوء التخطيط والانقسام، مثل البنية التحتية، الصحة، والتعليم. كما قد يساعد على تقليص الهدر الناتج عن تعدد قنوات الصرف، ويدعم توجّه الدولة نحو إدارة مواردها برؤية واحدة بدلًا من مسارين متوازيين ، ويعزز التنمية المستدامة والتي أكد عليها محافظ المركزي مرارًا وتكرارًا.
ورغم المؤشرات الإيجابية التي ظهرت في السوق، ما تزال تحديات كبيرة تقف في الطريق: غياب حكومة تنفيذية موحدة، تضارب أولويات الصرف، ضعف الرقابة، ووجود أطراف تستفيد من الوضع القائم. هذه العوامل تجعل الاتفاق خطوة مهمة… لكنها لا تزال رهينة التطبيق.
يظل اتفاق “البرنامج التنموي الموحّد” يمثل نافذة أمل حقيقية لاستعادة التوازن المالي وضبط المالية العامة، وقد بدأت انعكاساته تظهر في السوق النقدية. لكن نجاحه يعتمد على: 1) تنفيذ واقعي لا إعلامي، و2) اعتماد ميزانية متوازنة ومسؤولة.
من دون ذلك سيبقى الاتفاق خطوة رمزية جميلة… لكن قصيرة العمر، ولن يشعر المواطن بأي تغيير في مستوى معيشته أو في قيمة ديناره.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس





