عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. لم يعد ملف المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا مجرد أوراق قانونية صامتة، بل تحول إلى ساحة سجال سياسي وقانوني ساخن، تتقاطع فيها قضايا الدم والحقوق مع حسابات السلطة والسيادة. من مذكرات توقيف تلاحق أسماء بارزة في الشرق والغرب، إلى بيانات رسمية تُنشر ثم تُحذف في ساعات، يجد الليبيون أنفسهم أمام أسئلة مصيرية: هل تمهد هذه التحركات لمسار عدالة حقيقي ينصف الضحايا، أم تفتح بابًا جديدًا للتدخلات الخارجية وتصفية الحسابات تحت عباءة القانون الدولي؟
أعادت المحكمة الجنائية الدولية ملف الانتهاكات في ليبيا إلى الواجهة، معلنة في الثامن من أغسطس الجاري رفع السرية عن مذكرة التوقيف الصادرة في 10 نوفمبر 2020 بحق سيف سليمان سنيدل، أحد عناصر “المجموعة 50” التابعة للواء الصاعقة بقيادة محمود مصطفى بوسيف الورفلي، بتهم القتل والتعذيب والاعتداء على الكرامة الإنسانية في بنغازي ومحيطها بين يونيو 2016 ويوليو 2017.
وجاء هذا التطور بعد سلسلة تحركات مشابهة، أبرزها القبض على خالد محمد علي الهيشري في ألمانيا منتصف يوليو الماضي، وهو قيادي في قوات الردع الخاصة والمشرف على سجن النساء في معيتيقة، بتهم تتعلق بالتعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بناءً على مذكرة مختومة من المحكمة. كما شهدت إيطاليا في وقت سابق احتجاز أسامة أنجيم، المتهم بارتكاب انتهاكات مماثلة في سجون قوة الردع، قبل الإفراج عنه بتدخل من جهات ليبية.
هذه التحركات فجرت جدلًا واسعًا بين الحقوقيين والمحللين السياسيين حول توقيتها وأبعادها، وتأثيرها على المشهدين السياسي والقضائي في البلاد.
خلفيات وتوقيت التحرك
يرى الحقوقي طارق لملوم في تصريح خاص لـ”أفريقيا برس”، أن تحريك هذه الملفات جاء نتيجة تراكم مزاعم الانتهاكات وتزامنه مع تعثر المسارات السياسية وفشل جولات الحوار، خصوصًا المسار الدستوري. ويعتبر أن المحكمة استثمرت حالة الجمود والتعقيد الأمني ربما للتأثير على مسارات أممية حساسة أو لدفع الأطراف نحو تفاهمات جديدة قبل تغييرات مرتقبة في موازين القوى.
أما المحلل السياسي عدنان النجار في تصريحه لـ”أفريقيا برس”، يربط التوقيت بإرث طويل من التراكمات القانونية منذ إحالة مجلس الأمن الملف الليبي للمحكمة عام 2011، مشيرًا إلى أن رفع السرية جاء بعد توفر أدلة كافية، وأن الرسالة الأهم هي أن العدالة لا تسقط بالتقادم، وعلى الليبيين التحرك لمعالجة القضايا وطنيًا قبل أن تتحول لأدوات تدخل خارجي.
البعد السياسي والضغوط الدولية
يلفت لملوم إلى أن هذه المذكرات قد تُستخدم كورقة ضغط في ملفات سيادية حساسة مثل النفط والترتيبات الأمنية، وربما لدفع ليبيا نحو الانضمام إلى ميثاق روما، بينما يرى النجار أن المحكمة ليست مجرد أداة سياسية، بل قد تشكل فرصة لبناء مسار وطني لتعزيز سيادة القانون إذا أحسن التخطيط له، مع تجنب الانزلاق نحو الاستهداف الانتقائي.
تداعيات الانضمام إلى ميثاق روما
يشير لملوم إلى أن انضمام ليبيا قد يفتح ملفات واسعة تشمل انتهاكات ما قبل 2011 وما تلاها، مما سيضاعف الضغوط الداخلية، فيما يرى النجار أن الانضمام سينقل اختصاص المحكمة لكل الانتهاكات اللاحقة، مع إمكانية تعزيز ثقافة احترام القانون الدولي الإنساني، شريطة تهيئة بيئة قانونية وسياسية تمنع استغلال الملاحقات لتعميق الانقسام.
التأثير على المشهد الداخلي والتحالفات
يتفق المحللان على أن هذه القضايا قد تربك التحالفات السياسية والمسلحة، وتفتح باب الصفقات لحماية أو تسليم المطلوبين، مع احتمال استخدام ملفات مثل قضية سيف الإسلام القذافي كورقة مساومة أو كخط أحمر، إلا أن النجار يدعو لتحويلها إلى دافع نحو مسار عدالة انتقالية شامل يحد من التدخلات الخارجية.
العدالة الانتقالية والبدائل الوطنية
يشدد النجار على ضرورة إنشاء لجان تحقيق مستقلة وبرامج عدالة انتقالية تحظى بثقة الضحايا والمجتمع الدولي، فيما يحذر لملوم من خطر العدالة الانتقائية، داعيًا لتفعيل مبدأ “التكاملية” عبر القضاء الليبي لإثبات قدرته على المحاسبة وتوثيق الانتهاكات.
تخبط رسمي في التعاطي مع المحكمة
وسط هذه التطورات، برزت إشارة لافتة إلى بيان صادر عن وزارة العدل بحكومة الوحدة الوطنية في 13 يوليو، أكدت فيه التزامها بسيادة القضاء الوطني ورفضها القاطع لتسليم أي مواطن ليبي لجهات أجنبية، مشددة على أن “القضاء الوطني قادر ووكيل على نظر مثل هذه القضايا”.
البيان أشار أيضًا إلى أن ليبيا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ما يعزز موقفها القانوني الرافض لتسليم المواطنين. إلا أن اللافت أن الوزارة حذفت البيان بعد ساعات من نشره على صفحتها الرسمية، في خطوة فسّرها مراقبون على أنها تعكس حالة ارتباك وتخبط في إدارة هذا الملف الحساس.
تكشف هذه المستجدات أن الانتهاكات، من الإعدامات الميدانية إلى التعذيب والتهجير القسري، ارتكبتها أطراف متصارعة شرقًا وغربًا دون استثناء. وبينما تتأرجح ليبيا بين مسار العدالة الدولية ومتطلبات السيادة الوطنية، يبقى الرهان على بناء منظومة قضائية وطنية قادرة على إنصاف الضحايا، ومحاسبة الجناة، وإغلاق الباب أمام أي استغلال سياسي أو تدخل خارجي تحت شعار العدالة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس