المهدي هندي
أفريقيا برس – ليبيا. تخوض ليبيا اليوم سباقًا مع الزمن لإعادة رسم ملامح اقتصادها الوطني عبر مسارين متوازيين يتقاطعان عند هدفٍ واحد: إصلاح المنظومة المالية وتحقيق التحول الرقمي الشامل.
وفي خضم هذا الحراك المتسارع، تبرز جهود حكومية ومصرفية حثيثة لبناء اقتصاد أكثر كفاءة وشفافية، مدعومًا بشراكات دولية تسعى إلى ترسيخ أسس التنمية المستدامة. شهدت العاصمة طرابلس اليوم الثلاثاء يومًا حافلًا بالاجتماعات والفعاليات التي جسّدت بوضوح روح التنسيق بين مختلف مؤسسات الدولة.
فعلى منصة مؤتمر الاستثمار المصرفي ودوره في تعزيز التنمية الاقتصادية، الذي نظمه مصرف ليبيا المركزي، اجتمع مسؤولون رفيعو المستوى، من بينهم محافظ المصرف المركزي ناجي عيسى، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، إلى جانب عددٍ من الخبراء والمصرفيين المحليين والدوليين.
وفي كلمته، قال المحافظ:
“أنا كمحافظ أعمل مع حكومتين، ليس من باب التعامل، بل من واقعٍ على الأرض. وزارة الاقتصاد منقسمة، ووزارة المالية منقسمة، وكل قطاعات ومؤسسات الدولة منقسمة. فكيف نرسم اليوم شركة قابضة ونبدأ العمل بها من الشهر القادم في ظل هذا الانقسام؟ حتى الانقسام السياسي فرض علينا واقعًا معقدًا نحن كمصرف مركزي نتعامل معه. واليوم يُوجَّه اللوم إلى القطاع المصرفي والمصرف المركزي، لكن الأخير لا يملك حلولًا سحرية دون وجود رؤية ودولة متكاملة تحقق أهدافها.”
أما رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، فقد وضع في كلمته ثلاثة شروط اعتبرها أساس أي إصلاح اقتصادي ناجح:
* خلق فرص عمل حقيقية للمواطنين.
* تثبيت استقرار العملة الوطنية.
* إشراك جميع القطاعات في مسيرة التنمية.
ناقشت الجلسات أبرز التحديات أمام القطاع المصرفي، مؤكدةً ضرورة تفعيل دوره في دعم الإنتاجية وتمويل المشاريع التنموية، بما يسهم في تخفيف الضغط على المالية العامة للدولة.
وفي السياق ذاته، استقبل محافظ المصرف المركزي ناجي محمد عيسى وفدًا رفيع المستوى من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، برئاسة الدكتور عبد الله الدردري، المدير الإقليمي للدول العربية.
وركّز اللقاء على تعزيز التعاون في مجالات تطوير المالية العامة وبناء القدرات المؤسسية، مع التأكيد على أهمية مكافحة الفساد وغسل الأموال، وتسريع التحول الرقمي من خلال توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن الخطة الوطنية للشمول المالي.
وقد اختُتم الاجتماع باتفاقٍ مبدئي على إعداد مذكرة تفاهم رسمية لتنظيم هذا التعاون المشترك.
ورغم هذا الزخم الإيجابي، لم تخلُ الساحة من أصواتٍ ناقدة تدعو إلى الحذر والواقعية في التعاطي مع ملف الإصلاح المصرفي.
فقد حذّر الخبير الاقتصادي الدكتور محمد أبوسنينة من التسرّع في تبنّي مقترح إنشاء شركة مصرفية قابضة تضم المصارف التجارية العامة وتشارك فيها الدولة، معتبرًا أن الخطوة تتجاهل خصوصية البيئة المصرفية الليبية وتاريخها في تمويل المشاريع قبل عام 2011.
وأكد أبوسنينة أن الإصلاح الحقيقي يجب أن ينبع من داخل القطاع نفسه، عبر تحديث التشريعات وتفعيل الرقابة والحوكمة، مشيرًا إلى أن إنشاء كيانات جديدة قد يعمّق المشهد تعقيدًا بدل أن يبسّطه.
ورأى أن مقاربة محافظ المصرف المركزي بدت أكثر اتزانًا، إذ عبّر عن قلقٍ واقعي من جدوى المشروع المقترح، معتبرًا أنه لن يعالج المشكلات الهيكلية من جذورها.
ودعا أبوسنينة إلى الاستفادة من التجارب الدولية دون استنساخها حرفيًّا، مقترحًا إنشاء مصرفٍ استثماري خاص بالكامل لتفادي تضارب المصالح، ومؤكدًا أن تنويع مصادر الدخل والانفتاح على الاستثمار الأجنبي يمثلان الركيزة الحقيقية للتنمية الاقتصادية المستدامة.
إن التباين بين طموح القيادة وحذر الخبراء يعكس حيوية النقاش الاقتصادي في ليبيا اليوم.
فبينما تسعى الحكومة والمصرف المركزي إلى تحقيق قفزة نوعية نحو التحول الرقمي والشمول المالي، يرى الاقتصاديون أن النجاح لا يُقاس بالسرعة بل بالثبات، وأن ترسيخ الثقة داخل المنظومة المصرفية هو الشرط الأول لأي انطلاقة حقيقية.
إن ليبيا وهي تقف على أعتاب مرحلة جديدة، تحتاج إلى مزيج من الجرأة والحكمة:
جرأةٍ في الإصلاح والتجديد، وحكمةٍ في مراعاة الواقع ومحدّداته.
ورغم وضوح الإرادة السياسية وتنامي الدعم الدولي، يبقى ميزان التوازن بين الطموح والواقعية هو حجر الزاوية في رسم مستقبلٍ اقتصاديٍّ متنوعٍ ومستدام.
ومع ذلك، فإن تحقيق هذا المستقبل المنشود لن يكتمل دون وجود حكومة واحدة موحدة قادرة على تنفيذ الإصلاحات ورسم السياسات الاقتصادية بوضوح.
إن الوصول إلى اتفاقٍ سياسي شامل يُنهي حالة الانقسام ويؤسس لمؤسسات دولة فاعلة هو الشرط الجوهري لنجاح أي إصلاح اقتصادي حقيقي يطمح إليه الليبيون.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس





