بين المحيط الأحمر والأزرق:هل تستطيع ليبيا تغيير اتجاه الريح؟

بين المحيط الأحمر والأزرق:هل تستطيع ليبيا تغيير اتجاه الريح؟
بين المحيط الأحمر والأزرق:هل تستطيع ليبيا تغيير اتجاه الريح؟

المهدي هندي

أفريقيا برس – ليبيا. تجري الرياح بما شاء الإله لها: كيف تغادر ليبيا صراع «المحيط الأحمر»؟

في الأدبيات الحديثة للإدارة الاستراتيجية، تُقسَّم البيئة المحيطة إلى «محيط أحمر» تتركّز فيه المخاطر والصراعات على الموارد، و«محيط أزرق» تتسع فيه الفرص وتُخلق فيه مجالات جديدة للنجاح. وعلى هذا الأساس تسعى الدول إلى تجنّب مخاطر المحيط الأحمر والبحث عن فضاءات أوسع في المحيط الأزرق.

وفي هذا السياق تقف ليبيا في مركز فاعل وموقع استراتيجي حسّاس يمثّل—وفق توصيف كثير من الخبراء— بطن التمساح لأوروبا وبوابة إفريقيا؛ موقع قادر على دفع البلاد نحو فضاء الفرص، لكنه في الوقت نفسه قد يبتلعها في دوامة الصراع إذا بقيت رهينة التنافس التقليدي.

المحيط الأحمر… واقع سياسي يستهلك الفرص

تعيش بلادنا اليوم مشهدًا متشابكًا يزداد تعقيدًا مع تعدد الهياكل الحكومية، وتضارب الصلاحيات، والصراع على المؤسسات المالية والعسكرية. هذا الواقع يضع البلاد في قلب «المحيط الأحمر» حيث الأنشطة السياسية تتجه نحو التنافس الصفري بدل الإنتاج، وحيث الصراع لا يخلق قيمة بل يستهلك ما تبقى منها.

وقد ازدادت حدّة هذا المشهد خلال الأشهر الماضية بفعل عدة تطورات:
* تصاعد الاغتيالات وعودة الاحتجاجات الشعبية المتقطعة، وهو ما يعكس فجوة متزايدة بين الشارع والنخب السياسية.

* تراجع السردية الوطنية مع اتساع الدعوات للحكم المنفرد ونماذج الحكم الذاتي، خصوصًا في المنطقة الشرقية.

* تأثيرات اقتصادية مباشرة لكل موجة توتر، تظهر في سعر الصرف، وحركة النفط، وقدرة الدولة على تقديم الخدمات.
بهذا تصبح ليبيا نموذجًا صارخًا للمحيط الأحمر: فضاء مكتظ بالمتنافسين، بلا قواعد حاكمة، وبلا مشروع قادر على تحويل الصراع إلى إنتاج.

الحوار الأممي… جسر هش ولكنه ضروري

يأتي الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة باعتباره إحدى الأدوات القليلة المتاحة لإعادة تشكيل المشهد. ومع ذلك، تتوقف قيمته على وظيفته: هل يعيد توزيع النفوذ بين الأطراف؟ أم يعيد صياغة قواعد اللعبة؟

فالحوار الذي يتحول إلى منصة لتقاسم السلطة لن يكون إلا نسخة جديدة من صراع قديم. أما الحوار الذي يُبنى على مسار اقتصادي واضح يفتح فضاءات جديدة ويخفف دوافع التنافس، فبوسعه أن يشكّل جسرًا فعليًا نحو الاستقرار.

لكن هذا الجسر يواجه عقبات حقيقية، منها:
* استمرار منطق تقاسم السلطة بدل خلق فرص جديدة.

* غياب توافق حول نموذج اقتصادي متجدد يتجاوز اقتصاد الريع.

* تمسّك بعض الأطراف برفع مكاسب آنية على حساب المسار الطويل المدى.

المحيط الأزرق… أين يمكن أن تبدأ ليبيا في خلق القيمة

التحول نحو «المحيط الأزرق» يتطلب تغييرًا في طريقة إدارة الدولة، بحيث يتحول التنافس نحو خلق فرص جديدة بدل إعادة تدوير الموارد القائمة. وبالرغم من التحديات، تمتلك ليبيا مسارات قادرة على فتح بوابات جديدة:

* تحويل ليبيا إلى محور لوجستي يربط إفريقيا بأوروبا: إعادة تأهيل الموانئ والمطارات والطرق، وربطها بالمبادرات الإقليمية، يمكن أن يجعل ليبيا نقطة وصل اقتصادية كبرى في المنطقة، بما يخلق وظائف ويخفض التوترات.

* إطلاق الاقتصاد الرقمي: دعم الشركات الناشئة والبنية الرقمية يتيح مسارًا اقتصاديًا حديثًا لا يعتمد على البيروقراطية ولا على الوظائف الحكومية.

* تمكين القطاع الخاص: تحرير القوانين، وتسهيل الاستثمار، وبناء بيئة اقتصادية مرنة يمكن أن يحوّل القطاع الخاص إلى محرك حقيقي للنمو.

هذه المسارات ليست مجرد خطط اقتصادية، بل أدوات سياسية لإزاحة البلاد من منطق الصراع والاحتكام للسلاح إلى منطق خلق القيمة.

خاتمة: العودة إلى سؤال المحيطين

عندما ننظر إلى ليبيا اليوم بين محيط أحمر يبتلع الفرص، ومحيط أزرق ينتظر من يبحر فيه، ندرك أن السؤال لم يعد سياسيًا فقط، بل استراتيجيًا بامتياز.

فالبلاد التي تقف في قلب المتوسط، في موقع يشكّل «بطن التمساح لأوروبا وبوابة إفريقيا»، لا ينقصها الموقع ولا الإمكانات، بل ينقصها قرار واحد: الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة الفرص.

وعند تحقق هذا الانتقال تصبح ليبيا قادرة على مغادرة المحيط الأحمر الذي يستهلكها، والعبور إلى محيط أزرق تصنع فيه مستقبلها بدل أن يُصنع لها.

لقد لخص شاعرنا الكبير المتنبي واقعنا السياسي المتوتر حين قال:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه…
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

إلا أننا نرجو ونتيقن أن المسار الصحيح نحو الاستقرار ليس مرهوناً بأطماع الطامعين ولا بتقلبات الأيام ؛ بل هو مسار يُبنى على الإرادة الوطنية الخالصة، وعظيم الرجاء في الخالق، فنسأل الله أن تكون نهاية قصتنا على لسان المتيقن:
تجري الرياحُ بِما شاء الإله لها…
لِلّهِ نحنُ وموجُ البَحرِ والسفُن.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here