أفريقيا برس – ليبيا. قالت المخرجة الليبية، جيهان الكيخيا، إن قرارها توثيق حياة والدها بتقديم فيلمها «بابا والقذافي» جاء في لحظة حاسمة عاشت فيها شعوراً بالخوف على الذاكرة الليبية، مؤكدة أن الصراعات التي عاشتها ليبيا بعد سقوط نظام القذافي جعلتها تشعر بأن ذاكرة وسيرة والدها مهددة بالضياع مرة أخرى.
وأضافت الكيخيا، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الخطف الأول لوالدي حدث وأنا طفلة لا أقوى على فعل شيء، لكنّ الخطف الثاني كما وصفته كان معنوياً، يتمثل في احتمال اختفاء ذكراه إلى الأبد، وفي تلك اللحظة أدركت أنني لم أعد طفلة، بل أصبحت قادرة على اتخاذ قرار، فاخترت البحث بنفسي عن الحقيقة».
ولفتت إلى أنها شعرت بأن حياتها وهويتها ومعرفتها بوالدها كلها مهددة بالاختفاء، وأن المعركة الثانية – معركة الذاكرة – هي معركتها الشخصية التي لم تستطع الهرب منها، فاتخذت قرارها: «سأروي القصة، سأحاول أن أفهم حياتي، سأُكرّم أبي، وسأضمن على الأقل أن تبقى ذكراه حيّة».
جزء آخر من دافعها كان مرتبطاً بوالدتها التي بلغت الثمانين من العمر، فجاء تحركها مدفوعاً بالخوف من أن ترحل الأم فتأخذ معها كل التفاصيل والقصص التي عرفتها العائلة عبر السنين، فهي وحدها لا تستطيع أن تحفظها كما تحفظها الأم. لذلك، رأت أن «التوثيق ضرورة إنسانية قبل أن يكون ضرورة فنية»، وفق حديثها.
ويدور فيلم «بابا والقذافي» الذي بدأ رحلته الدولية بالعرض في مهرجان «فينسيا» ويشارك في مهرجان «الدوحة السينمائي» المقام خلال الفترة من 20 إلى 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، حول رحلة استعادة حكاية منصور رشيد الكيخيا، السياسي الليبي البارز ووزير الخارجية الليبي الأسبق، وأحد أهم رموز المعارضة السلمية لنظام معمر القذافي، والذي اختُطف في ظروف غامضة بينما لم تكن ابنته جيهان الكيخيا قد تجاوزت السادسة من عمرها.
وتنطلق جيهان من هذا الجرح القديم لتعيد تفكيك لغز اختفاء والدها الذي كان يُنظر إليه باعتباره القائد القادم لليبيا، مستعينة بروايات أمها الفنانة السورية – الأميركية بهاء العمري الكيخيا التي قضت تسعة عشر عاماً في رحلة بحث مضنية، لينسج الفيلم خيطه السردي عبر شهادات العائلة والأصدقاء وشخصيات محورية ارتبطت بالقضية، كاشفاً معلومات كثيرة وروايات متضاربة.
وتقول جيهان إن «العمل على المشروع استمر عدة سنوات، فقد أجريت أكثر من ستين مقابلة فتحت لي الأبواب بمحبة وتقدير لذكرى منصور الكيخيا، فالناس كانوا يمنحونني وقتهم احتراماً له ورغبةً في مساعدتي»، لافتة إلى أن العلاقات التي نشأت بينها وبين الضيوف امتدت لسنوات، وأن معظم جلساتها كانت تستغرق ثلاث أو أربع ساعات، وشعرت باحترام واضح لفكر والدها وشخصه لدى كل من التقتهم.
وأكدت أنها لم تدخل المشروع بنية صناعة شخصية بطولية من سيرة والدها، بل برغبة في التعرف إلى «الإنسان» قبل السياسي والمحامي مما جعلها تسعى لمعرفة تفاصيل صغيرة عنه: «لونه المفضل، طباعه، الأشياء التي أحبّها، منفتحة على سماع الانتقادات أو أي جانب سلبي في شخصيته»، وتستدرك: «إلا أنني لم أجد أحداً يذكر شيئاً سلبياً»، معتبرة أن المثالية التي حولته إليها بالفيلم ليست مسؤوليتها بل مسؤولية المجتمع الذي يحمي صورته.
وأشارت المخرجة الليبية إلى أنها موّلت الفيلم بالكامل عبر منح ومنظمات غير ربحية حول العالم، وتعمّدت أن يكون المشروع مستقلاً تماماً ليبقى بعيداً عن أي تأثير سياسي أو سردية مبسّطة تختزل القصة في «شر مطلق وخير مطلق»، وهو مما جعلها تحافظ على استقلال الفيلم طوال تسع سنوات كي لا يتدخل أحد في قراراته أو يوجّه رسالته، مشيرة إلى أنها ما تزال حتى اليوم تجمع المال لاستكمال حقوق الموسيقى والأرشيف، مؤكدة أن «العمل في جوهره مشروع شخصي شديد الحساسية؛ لأنه يروي قصة بلد لا توجد عنه مواد تاريخية مصوّرة كافية».
أما عن الصعوبات في جمع المواد الأرشيفية، فأكدت أنها اعتمدت بشكل شبه كامل على مصادر أوروبية وبريطانية؛ لأنها لم تحصل على أي نفاذ إلى الأرشيف الليبي الرسمي، وأن الوصول إلى مواد من الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا أمر شبه مستحيل لغياب القنوات الواضحة لمعرفة من يملك هذه المواد وكيفية الوصول إليه.
وأكدت أنها تحصلت على نحو 400 ساعة من المواد المصوّرة، واستعادت حتى أشرطة طفولتها التي سجّلتها والدتها بحثاً عن أي دليل على علاقتها بوالدها، لكنها لم تجد الكثير، واستمرت في البحث، لافتة إلى أن الفيلم لا يحتوي إلا على جزء صغير جداً من هذا الكم الهائل من التسجيلات، وأنها استبعدت معظم المقابلات؛ إذ لم يبقَ من الستين شخصاً الذين قابلتهم سوى خمسة أو ستة ظهرت شهاداتهم في الفيلم لثوانٍ معدودة، بينما استمرت حواراتها معهم لساعات طويلة، مؤكدة أن عملية الاختيار كانت صعبة ومؤلمة.
وعن إمكانية صنع فيلم آخر من المواد التي امتلكتها، قالت إنها قادرة بسهولة على صنع فيلم جديد، سواء عن ليبيا في السنوات الأخيرة أو عن حياة الليبيين قبل وصول القذافي، خصوصاً أن بعض من قابلتهم وُلدوا في العشرينيات ولديهم ذاكرة تمتد إلى أربعين سنة قبل حكم القذافي، وهذه المواد كنز يمكن أن يُبنى عليه عمل آخر.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس





