عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. منذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، لم تعرف العاصمة الليبية طرابلس استقراراً أمنياً حقيقياً، فقد نشأت عشرات التشكيلات المسلحة، تنوعت في انتماءاتها السياسية والجهوية والأيديولوجية، وتحولت مع الوقت إلى قوى أمر واقع تتقاسم السيطرة والنفوذ على العاصمة والمناطق المحيطة بها. ورغم بعض محاولات إعادة الهيكلة والتفكيك والدمج، فإن أبرز هذه التشكيلات ما تزال فاعلة ومسيطرة على الأرض، حيث تملك سجوناً ومقار سيادية، وتمسك بزمام مناطق حيوية داخل العاصمة، وتتصارع فيما بينها على خلفية تحولات سياسية وأمنية متسارعة، كان أحدثها الاشتباكات العنيفة التي اندلعت في مايو 2025.
يأتي على رأس هذه التشكيلات جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، بقيادة عبد الرؤوف كارة، والذي تأسس عام 2012 كسَرية تابعة للمجلس العسكري في سوق الجمعة، قبل أن يُعاد هيكلته في العام 2018 بقرار من المجلس الرئاسي الذي منحه صلاحيات موسعة، وأصبح مقره الرئيسي مجمع معيتيقة الذي يضم مطاراً وقاعدة جوية ومستشفى عسكري وسجناً يُعرف بسجن معيتيقة. يمتد نفوذ هذا الجهاز إلى مناطق سوق الجمعة وطرابلس المركز والفرناج وعين زارة، كما كان يسيطر على مؤسسات حساسة بينها مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ووزارة الخارجية، وجامعة طرابلس، قبل أن يتراجع عن بعضها مؤخراً نتيجة تدخل طرف ثالث لفض الاشتباك بين قواته وقوات تابعة للحكومة.
من التشكيلات البارزة كذلك اللواء 444 قتال بقيادة اللواء محمود حمزة، والذي تطور عن فرقة 20-20 التي كانت جزءاً من جهاز الردع قبل أن تنفصل عنه. يتمركز هذا اللواء في معسكر التكبالي جنوب طرابلس، وينتشر في مناطق صلاح الدين، طريق الشوك، قصر بن غشير، السبيعة، سوق الخميس، ترهونة، وبني وليد، ويتولى مهام مكافحة الجريمة وتهريب الوقود والاتجار بالبشر، بالإضافة إلى المهام القتالية. أما جهاز دعم الاستقرار، الذي كان يقوده عبد الغني الككلي المعروف باسم “غنيوة”، فقد تأسس عام 2021 على أنقاض كتيبة الأمن المركزي أبو سليم، وكان يتخذ من منطقة الفلاح مقراً له، ويسيطر على أحياء مثل بوسليم والهضبة الشرقية وطريق المطار وأجزاء من طرابلس المركز، حيث اضطلع بحماية المقار الرسمية وشارك في عدة عمليات قتالية، إلى أن تم اغتيال قائده داخل مقر اللواء 444، ما أحدث ارتباكاً كبيراً في البنية الأمنية وأدى إلى قرار من رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بحله، قبل أن يتدخل المجلس الرئاسي ويعين أبو زريبة قائداً بديلاً، ما فجر أزمة قانونية حول تبعية الجهاز ومستقبله.
أما جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية، فقد أنشئ بقرار من حكومة الوفاق عام 2018، وكان يقوده عماد الطرابلسي إلى أن تم تعيينه وزيراً للداخلية، فتولى شقيقه عبد الله الطرابلسي قيادة الجهاز. مقره الرئيسي مصنع التبغ في منطقة غوط الشعال، ويمتد انتشاره إلى أحياء حي الأندلس وقرقارش والسياحية والكريمية والسواني والعزيزية والطريق الرابط مع جبل نفوسة. وتبرز كتيبة فرسان جنزور بقيادة محمد الباروني كأحد أبرز الفصائل غرب طرابلس، وقد تأسست عام 2012 وتتخذ من مصنع صابون الغسول مقراً لها، وتفرض سيطرتها من جزيرة الغيران شرقاً إلى جسر الـ17 غرباً، ومن الساحل شمالاً إلى منطقة إنجيلة جنوباً، وتسيطر على مواقع حساسة مثل الأكاديمية الليبية، والهيئة العامة للمياه، وبعثة الأمم المتحدة، ومنتجع البالم سيتي.
من جهة أخرى، تتوزع القوة الوطنية المتحركة بقيادة العقيد جابر اصداع، وهي تحالف لكتائب أمازيغية تأسس سنة 2012، وتندرج ضمن رئاسة الأركان التابعة لحكومة الوحدة الوطنية. تتخذ هذه القوة من معسكر البحوث العسكرية في بوابة الجبس مقراً لها، وتنتشر في منطقة السراج وبعض أحياء جنزور، ومحيط جمعية الدعوة الإسلامية، وقد شاركت في عملية “فجر ليبيا” عام 2014 وفي صد الهجوم على العاصمة خلال حرب 2019.
أما في شرق طرابلس
يتمركز اللواء 51 مشاة بقيادة بشير خلف الله، وقد تطور عن كتيبة رحبة الدروع التي نشأت عام 2020، ويقع مقره في معسكر الرحبة بمنطقة غوط الرمان في تاجوراء، ويمتد انتشاره إلى جزيرة اسبان ووادي الربيع والقره بوللي، وقد خاض اشتباكات بارزة مع الردع في 2018 وشارك في معركة طرابلس عام 2019.
وتبرز كذلك كتيبة أسود تاجوراء بقيادة عبد الرحيم بن سالم، التابعة لرئاسة الأركان، والتي تأسست عام 2011 في مدينة مصراتة. تتخذ هذه الكتيبة من معسكر الدفاع الجوي في بئر الأسطى ميلاد مقراً لها، وتتمركز في البيفي وبئر الأسطى ميلاد والجلدية، وتتميز بعددها المحدود ومستوى التدريب العالي والمهارة في استخدام المدفعية.
أما اللواء 111 مجحفل، الذي كان يعرف سابقاً بالكتيبة 301 مشاة أو لواء الحلبوص، فغالبيته من مدينة مصراتة، وقد أسسه الدبيبة في 2022 ويتبع رئاسة الأركان، ويتخذ من معسكر حمزة بطريق المطار مقراً له، وينتشر في مناطق جنوب طرابلس في الهضبة، ومشروع الهضبة، طريق المطار، السواني، ومطار طرابلس الدولي، وقد أصبح يحل محل جهاز دعم الاستقرار بعد انهياره في عديد المقرات.
ولا يمكن تجاهل جهاز الشرطة القضائية بقيادة أسامة انجيم، والذي يتبع وزارة العدل ويتمركز في منطقة السبعة شرق طرابلس، حيث يتولى مهام تأمين السجون مثل الجديدة، وعين زارة، ومعيتيقة، ونقل السجناء، وهو متحالف مع جهاز الردع وشارك في الاشتباكات الأخيرة ضد اللواء 444.
وفي خضم هذا الصراع السياسي والأمني، لا تزال طرابلس مسرحاً لنزاع طويل الأمد بين حكومتين، إحداهما في طرابلس بقيادة عبد الحميد الدبيبة وتحظى باعتراف الأمم المتحدة رغم إقالتها من قبل البرلمان، والأخرى في بنغازي برئاسة أسامة حمّاد بدعم من البرلمان وقائد الجيش المشير خليفة حفتر المكلف من البرلمان.
وتُعد المنطقة الغربية، وخصوصاً طرابلس، ساحة الصراع الأكثر تعقيداً، نظراً لاحتوائها على المؤسسات السيادية، ما يجعل السيطرة عليها مؤشراً جوهرياً في موازين القوى. وقد أدى هذا الانقسام إلى خريطة تحالفات معقدة وقابلة للتغير، ما تسبب في تفتيت ليبيا إلى مناطق نفوذ منفصلة لا يجمعها سوى الجغرافيا والمصالح الضيقة والخضوع لسيطرة مجموعات مسلحة تفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وتعيد تشكيل خارطة السيطرة في كل موجة اشتباك جديدة.
فالإشتباكات الأخيرة التي اندلعت في 12 مايو 2025 بعد اغتيال الككلي، سلطت الضوء مجدداً على هشاشة الوضع الأمني، بعد هدوء نسبي في ربوع البلاد منذ تولي حكومة الدبيبة السلطة في مطلع فبراير 2021 وذلك بعد حوار سياسي شامل برعاية أممية عقب الحرب الدامية في 2019 حيث أعلن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة وقتها في كلمة متلفزة ووضع خط حرمة الدم الليبي ورفع شعار لاحروب بعد اليوم.
ولكن بعد أربعة سنوات من السلطة تبدلت المواقف والولاءات والمصالح فجاء خطاب رئيس الحكومة بعد اغتيال رئيس جهاز دعم الإستقرار أن العملية كانت “ناجحة وسريعة” ولم تتسبب بأضرار مادية للمدنيين في منطقة بوسليم أحد أكبر أحياء العاصمة.
ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن فسقط في هذه الاشتباكات أكثر مما توقعه مستشاري الحكومة وأدت العملية لإنهيار الخط الذي رسمته الحكومة وجاءت من أجله ووصل بها أن اختلفت مع دراعها وشريكها في السلطة وهو المجلس الرئاسي الذي رفض القرار بحل جهاز دعم الإستقرار وجعل طرابلس ساحة معركة لاتعرف نتائجها والوصول بالعاصمة لحالة اصطفاف أهلي وعسكري مما أدى في النهاية إلى تصاعد العنف بين الموالين والمعارضين للحكومة، وسقوط عشرات الضحايا، بينما خرجت مظاهرات شعبية تطالب بإسقاط الحكومة ووقف القتال ورفض الإنتقائية في شعار سيادة الدولة على مجموعات دون أخرى.
وبالرغم من إعلان وزارة الدفاع التابعة لحكومة الدبيبة وقف إطلاق النار والهدنة وبمراقبة بعثة الامم المتحدة والمجلس الرئاسي في 19 من مايو 2025 لا يزال الوضع قابلاً للانفجار في ظل احتقان شعبي واسع ودعوات للتظاهر لأسقاط الحكومة.
واليوم بعد هذه الهدنة تتوزع الولاءات في في وسط طرابلس بين تحالف موالٍ لحكومة الدبيبة يضم اللواء 444، واللواء 111 مجحفل، والقوة المشتركة في مصراتة بقيادة عمر بوغدادة، وقوة الإسناد الأولى في الزاوية بقيادة محمد بحرون “الفار”، ومجموعة من الزنتان بقيادة عبد الله الطرابلسي شقيق وزير الداخلية بحكومة الدبيبة.
في المقابل، تقف في المعسكر المعارض قوى نافذة مناطقيا وسياسيا مثل جهاز الردع بقيادة عبد الرؤوف كارة، وجهاز دعم الاستقرار قبل انهياره، وجهاز المخابرات العامة بقيادة حسين العائب، إضافة إلى قوات أسامة الجويلي في الجبل الغربي والحمادة واغلب منتسبيها من قبيلة الزنتان في الجبل، وهي قوات منفصلة عن الحكومة ولا تزال تقوم ببعض المناوشات بين الحين والآخر.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن طرابلس لا تزال تعيش على إيقاع السلاح، حيث لا تنتهي الاشتباكات إلا لتُستبدل بأخرى، وتُرسم خريطة جديدة للسيطرة في كل مرة تُطلق فيها رصاصة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس