عن مؤشّر الفساد في البلدان المغاربية

4
عن مؤشّر الفساد في البلدان المغاربية
عن مؤشّر الفساد في البلدان المغاربية

عبد القادر الشاوي

أفريقيا برس – ليبيا. الفساد، رغم أنه مفهوم، أو اصطلاح، اتفاقي، لا يُعَرَّفُ إلا من المعنى الدلالي الذي له على ثلاثة مستويات، لعل أهمها مستوى الذهن، أو التصوّر المتعلق بوجوده ومستوياته ومظاهره، والأشكال المختلفة التي بها يُمَارَسُ في سوقه من حيث الأساليب والمبرّرات التي يصطنعها كل ممارسٍ له، وجاعل من وجوده أداة نفعية أو مصلحة مُقَدَّرَة. أما المستويان الآخران فهما: مفهوم المجتمع في ارتباط ببنياته السياسية والاقتصادية، وعقائده الدينية والأخلاقية والأيديولوجية، ومفهوم العلاقات بين الأفراد، وبينهم وبين البِنيات (أو المؤسّسات المختلفة) التي هي المجالات الأوسع، في إطار الاجتماع البشري، لمختلف الممارسات المُنْتَهَجَة في الدوائر المحكومة بالمصالح المتبادلة والخاضعة، تبعاً لذلك، للقوانين الضامنة للسلم المجتمعي أو للاستقرار السياسي، أو لصيغ الحكامة التي غالباً ما تنبني على التوازن والشفافية والسلوك القويم والنزاهة وسواها من شعارات قد تزدهر بحسب الفترات والمراحل ونماذج التأثير الباسطة للهيمنة.

ولم يُعَرَّف مفهوم الفساد، على هذا الأساس، إلا لأنه تحوّل في مجرى التطور العام الذي يخترق المجتمعات ويصيب الأفراد والجماعات المنظّمة، وغير المنظّمة، إلى ظاهرة معمّمة يصعُب أن تجد في تلك المجتمعات وضعاً، أو مستوى، أو علاقة، لا يكون فيها الفساد أسلوباً مباشراً لبلوغ ما يُرَاد منه، أو حيازته بالطرق التي تسهله، وبالوسائل التي تزكّيه، وبالصيغ التي تبرّره وتضمنه.

والمفهوم أنّ الفساد لم يتبلور في المجتمع إلا لكي يحقق للأفراد وللجماعات ما يطمحون إلى تحقيقه ضدّاً على جميع القوانين والشرائع الناهية عنه والأوضاع المانعة لحدوثه. وعندما أصبح التقدير الحقيقي، اعتماداً على الوعي النقدي، لمفهوم الفساد منذراً بالتخريب الشامل لبُنَى المجتمع ولفحوى القوانين، رغم طابعها الاستثنائي في علاقة بالحرية، الضامنة للاستقرار وللتطوّر ولمرامي تنمية المجتمعات في سبيل ازدهارها، بل للنظم السياسية القائمة نفسها، صار من اللازم أن “توضَع” له فلسفة سياسية، بلورها التفكير الاقتصادي وصاغ بعض جوانبها، انطلاقاً من الشرائع الأخلاقية والدينية المتداولة في حياة الأفراد وعلى صعيد اجتماعهم بإطلاق. ومن خلال هذا التقدير الواعي حيثما تبلورت، فيما يبدو، نُظُم ومواقف ومؤسسات ليس لها من هدف معلن، في الظاهر، إلا توعية الناس بالآفة (لا الجريمة فقط) التي أصبح عليها الفساد مفهوماً وسلوكاً وممارسة، وأن ترسم، في الآن نفسه، مخطّطات، بعضها استباقي، تراهن على التربية والتوعية والتدريب، يكون من أوجب واجباتها مكافحته في مرحلة تحوّله إلى “صناعة فتّاكة” تهدّد الفرد والمجتمع والنظام في أخصّ ما يمكن أن تقوم عليه العلاقات العامة بين هذا الثالوث العضوي المتراكب، أي القانون، والقضاء، والحكامة.

أخلص من هذا إلى أنّ إيجاد أي تعريفٍ للفساد لا يمكن أن يُتَغَلَّب عليه ما لم يُدْرَك أيضاً أنّ الاحتكام إلى القانون العادل، وإلى القضاء النزيه، وإلى الحكامة الرشيدة لا يتحقّق، جزئياً إن لم يكن كلياً، وهو المستحيل ربما، إلا إذا كان الإيمان (غير الديني) بالديمقراطية هو، في الوقت نفسه، إيمانٌ بالإرادة الشعبية في الحكم والتدبير والتشريع. ومبدأ التوازن، المبني على فصل السلطات، والتسليم بالحرّيات العامة، والتوزيع العادل للخيرات الوطنية، يقوم على ذلك ويرتهن به، وهو ما يُفهمنا لماذا يكون الاستبداد من أسباب الفساد، ولماذا أيضاً يتحوّل التحكّم إلى رشوةٍ للإفلات من العقاب أو الجزاء، ولماذا في النهاية تصبح السلطة أهم وسيلة للتحكّم في الفساد على هذا المستوى لأنه يُشَرْعِنُ سيادتها.

رغم الوعي بخطورة الفساد على التنمية والتطور، فضلاً عن إفساد السلوك وقتل المعاملات بآفته، لم ينفع إنشاءُ مؤسّسات الحكامة، التي تعمل على محاربة الرشوة والتوعية بمخاطرها واقتراح الحلول الممكنة للتغلب عليها، في شيءٍ كثير، لأن طبيعة المعاملات الاقتصادية، وغير الاقتصادية، ترتبط بالسوق والمنافسة والمصالح المتفاوتة التي تزكّي مختلف الأساليب الضامنة للترقية الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية أو غيرها. وفي النظم التي تقمع الحرّيات، وتضيّق الخناق على المواطن في معاشه وحياته، يتحوّل الفساد إلى أسلوب مبرّر، بأقوى ما يمكن أنْ يكون عليه التبرير، لقضاء المصلحة وَجَني المنفعة والوصول إلى المُراد حتى ولو كان وقتياً وسريعاً، بل يصبح تبرير الفساد أخلاقياً ودينياً من أساليب التأويل التي تزكّيه بطريقة براغماتية، تتوافق مع الرغبات الذاتية التي يعلنها ويعمل بها الأفراد، أو المؤسّسات، في الميادين المتصلة بالمصالح والأغراض.

وقد بيّنت تجارب “محاربة الفساد” وإقرار نظم الحكامة في بلدانٍ كثيرة، بصرف النظر عن طبيعة السُّلط المتنفذة فيها، أن التوعية، أو الدعوة الأخلاقية، أو التنادي بالصلاح ومحاربة المنكر والامتناع عن ارتكاب المعاصي، أو ما يماثل ذلك وغيره في الهدف، لم تكن ناجعة إلا قليلاً، على الأقل في الدول التي احتلت في مؤشّر الفساد الموقع نفسه تقريباً، على امتداد سنوات مرّت بها لا تجد لأدوائه علاجاً، كما كشف عن ذلك التقرير السنوي لسنة 2024، الصادر عن منظمّة الشفافية الدولية. والسُلَّمُ الموضوع لقياسه، انطلاقاً من المعطيات المتوفرة وبالوسائل المعتمدة في القياس عند حوالي 180 بلداً، تبيّن أن الدول المغاربية، على سبيل المثال العربي، لم تتزحزح، مقارنةً بالمعطيات الواردة في تقرير 2023 على الأقل، عن مواقعها التقليدية إلا قليلاً (تونس المتقدّمة في الصف 92، ناقص نقطة، يتبعها المغرب في الصف 99، ناقص نقطة كذلك، ثم الجزائر في 107، ناقص نقطتين، وموريتانيا في 130، بصفر نقطة، وليبيا في 173، ناقص خمس)، هذا مع الاعتبار ببعض مجهوداتٍ مبذولةٍ في مكافحة الظاهرة، وكأن “الجوهر” الذي ترسّخ في بنيات تلك الدول أصبح مِنْ أنْشَطِهَا الفَاعِلِ في المجتمع على جميع المستويات.

هناك إدراك عام بأن للفساد تعريفاً أصبح أممياً، والاعتقاد أنه لم يُعَرَّف إلا لأنه من الظواهر المعمّمة الشاملة الموجودة في مختلف الدول، وبحسب طبيعته في كل دولةٍ على حدة. تختلف أسباب وجوده، وطرق مكافحته، والصعوبات “المطلقة” التي لا سبيل، فيما يبدو، للتغلب عليه نهائيّاً، ولكننا لا نقبل شعورياً ونفسياً مثلاً، خصوصاً من الزاويتين، الديمقراطية والإصلاحية، ناهيك عن الثورية، أن نُشَرِّعَ الفساد على أي نحو، لأن في ذلك، اعتماداً على (التساوي العاطفي) المفترض، تشريعاً لفناء المجتمعات، وتخريباً لبنياتها قبل ذلك، وقضاءً مبرماً على كل وجود عقلي للمعاملات السليمة المبنية على الندّية والمساواة وتكافؤ الفرص. وهذا ما يدفعني إلى القول: التعريف القائل عن الفساد إنه “سوء استغلال السلطة من أجل تحقيق المكاسب والمنافع الشخصية على حساب المصلحة والمنافع العامة”، فيه ما يشبه “التسوية” الدولية للقبول بالحدّ الأدنى الذي يمكن أن يوجد عليه الفساد في أي مجتمع، وإلا فما المعنى من وجود سُلَّمٍ به نَقِيسُه؟ وما معنى وجود مؤسّسات حكامة تتنافس، بدرجات مختلفة ولو شكلية، للتغلب عليه؟ وما المعنى من اعتبار الفساد آفة تُخَرِّب التنمية وتقضي على مختلف الآمال في التقدّم والازدهار؟ وإذا وضعنا في الاعتبار أن القضاء على الفساد هو، على ما يبدو، من “باب الاستحالة”، فإنّ أي تعريف، مهما كانت إجرائيّته، لن يكون شافياً في تحديده (ومن هنا المطالبة بالشفافية)، ولن ينفع في الحد منه (وهو مبرّر المطالبة باستقلالية القضاء)، ولن يَنْجَع في التوعية بمخاطره (ومن هنا مبرّر الحكامة الرشيدة التي صارت تعتمدها الدول في الاعتراف بوجود الفساد وفي العمل، بحسب الإرادات، على مكافحته).

ومع ذلك، لسنا في التعريف أمام بلاغة لغوية، بل بصدد إجراء لتحديد ظاهرة مادية شديدة الخطورة، تعتبر عند كثيرين دليلَ عامةِ مؤسّسات الشفافية في العالم، وَضِمْناً الدول الاستبدادية والفاسدة. يضاف إلى ذلك أنّ هناك معرفة شاملة بأن الفساد، في جميع الأوضاع والمجالات، خصوصاً في وجود قوانين عادلة، هو الاستعمال الممنوع (غير المشروع، السرّي…) لموقف، أو وضعية سلطوية، من أجل الحصول على امتيازاتٍ مختلفة، يرتكبها الأفراد، أو المجموعات المتنوّعة، عندما يستغلون نفوذهم للحصول على الامتيازات الممنوحة. ويعني هذا أيضاً أن الفساد ظاهرة مُرَكّبة ومعقّدة، تشمل جميع الاختلالات التي تمسّ الجانب الاقتصادي (جرائم الشركات المحلية والأجنبية)، والسياسي (إساءة استعمال السلطة العامة)، والإداري (السلوك البيروقراطي)، والمؤسّساتي (ضعف الرقابة الحكومية وضعف القانون…) والاجتماعي (المحسوبية والوساطة والعمولات…) إلخ، وبالمعنى الشامل هو ظاهرة مركّبة تمسّ أيضاً مختلف مناحي الحياة العامة التي يوجد فيها الفرد، على صعيد المجتمع، في ظل التناقضات المُنْتِجة لأسباب الاستغلال والتفاوت الاجتماعي المرتبطة بحياته، أو المفروضة عليها (لأن للفساد ضحايا، وهو يوجد بوصفه سلوكاً في تعارض مع القانون والديمقراطية والعقل السليم). ولا أتردّد في القول، خصوصاً في علاقة بـ”المجهودات المبذولة” في بعض الدول المغاربية، أن العوامل البارزة التي “تؤبد” الفساد في “سيادتها الوطنية بحدودها الموروثة عن الاستعمار”، فضلاً عن استمراره بالمعدّلات “الجنونية” المتداولة، ترتبط كلها بطبيعة السُّلُطات التحكمية في بلدانها، التي غالباً ما تحوّل القهر السياسي إلى مساومة على الحرية وعلى الحقوق، وبالتخلف الاجتماعي والثقافي العام في ارتباطٍ بذهنياتٍ تبريريةٍ ترهن الترقية الاجتماعية بالمقايضة والنفعية والشراء، وبالأوضاع الاقتصادية الريعية والبيروقراطية الإدارية المحبطة التي تشجّع المحسوبية والرشاوى اللتيْن تُحبطان كل المبادرات ومفهوم تكافؤ الفرص في المجتمع الديمقراطي العادل.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here