عبد الرحمن البكوش
أفريقيا برس – ليبيا. تعيش ليبيا في قلب أزمة إنسانية تهدد حياة الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين يمرون عبر أراضيها في محاولة للوصول إلى أوروبا. وفي ظل فوضى الحرب والنزاعات المسلحة المستمرة، أصبحت البلاد ملاذًا لعصابات الاتجار بالبشر التي تستغل هؤلاء المهاجرين بشكل غير إنساني. وقد كشفت الاكتشافات الأخيرة لمقابر جماعية تضم جثث مهاجرين قتلتهم هذه العصابات عن حجم المأساة التي يواجهها هؤلاء الضحايا. أحدث هذه الاكتشافات كان في فبراير 2025، حيث تم العثور على مقبرة جماعية في منطقة الكفرة تحتوي على 11 جثة، بالإضافة إلى مقبرة أخرى في منطقة إجخرة التي تضم 19 جثة.
الواقع المأساوي للمهاجرين في ليبيا
الأرقام تتحدث عن نفسها: حتى الآن، تم العثور على 55 جثة في مواقع مختلفة في ليبيا، ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم ليصل إلى 74 جثة. وتشير التحقيقات إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يُقتلوا فقط بل تعرضوا للتعذيب القاسي، حيث كانت الجثث تحمل آثار طلقات نارية، مما يضع علامات استفهام حول طريقة وفاتهم. يتضح من التحقيقات أن الضحايا كانوا محتجزين في ظروف غير إنسانية لفترات طويلة، حيث تعرضوا للمعاملة القاسية والتعذيب على يد شبكات الاتجار بالبشر.
وتشير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى أن معظم هؤلاء المهاجرين تم احتجازهم من قبل عصابات تهريب البشر التي تعمل في ليبيا، وأنهم كانوا ضحايا لاستغلال طويل الأمد، سواء من حيث العمل القسري أو الابتزاز من خلال مطالبة أسرهم بدفع فدية. وتؤكد المنظمة أن الوضع بات يشكل تهديدًا متزايدًا لحقوق الإنسان في ليبيا، مطالبة بضرورة محاسبة الجناة وتقديمهم إلى العدالة.
مواقف حقوقية محلية ودولية
تسليط الضوء على هذه الجرائم جاء أيضًا من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية التي عبرت عن استنكارها واستعدادها للضغط على السلطات الليبية لتقديم المسؤولين إلى العدالة. الناشط الحقوقي طارق لملوم كان من بين أبرز المعلقين على هذه القضية، وفي تصريح خاص لـ”أفريقيا برس”، اعتبر أن هذه الجرائم تمثل “جريمة منظمة” ضد المهاجرين.
لملوم شدد على أن ما يحدث هو نتاج غياب رادع حقيقي من السلطات الليبية، مبرزًا أن الفوضى السياسية والفراغ الأمني في البلاد جعل العصابات تتمكن من تنفيذ أعمالها الإجرامية دون محاسبة.
لملوم أوضح قائلاً “هذه الجرائم هي جريمة منظمة ضد المهاجرين. الشراسة التي يتم بها الاتجار بالبشر وقتل المهاجرين تُعد تحديًا كبيرًا. هذه الممارسات مستمرة في ظل غياب التنسيق بين السلطات الأمنية المحلية التي غالبًا ما تتعامل مع هذا الموضوع على أساس فردي وبدون إشراف مركزي”. وأضاف “إن غياب التنسيق والرقابة يجعل من السهل على عصابات الاتجار بالبشر العمل بحرية وتوسيع نطاق أعمالهم، ما يساهم في استمرارية هذه الجرائم”.
من جانب آخر، أكد لملوم أن السلطات الليبية يجب أن تتحمل مسؤوليتها بشكل أكبر في حماية المهاجرين، معتبرًا أن “القضية لا تتعلق فقط بالهجرة غير الشرعية، بل بحياة البشر وحقهم في الحياة”. وأشار إلى أن عدم وجود آلية واحدة لمعالجة قضايا المهاجرين في ليبيا يزيد من التحديات التي يواجهها هؤلاء المهاجرون، مشدداً على ضرورة وجود تنسيق بين الجهات المعنية بحماية المهاجرين، مثل وزارة الداخلية، وضرورة تحديد الجهات المسؤولة عن هذه القضايا وتحديد آليات واضحة للتعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء.
وفي مداخلة له على قناة “فرانس 24″، أكد أحمد حمزة، رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أن “ما تم اكتشافه ليس سوى الجزء اليسير من انتهاكات جسيمة تُرتكب بحق المهاجرين في ليبيا”.
وقال حمزة: “هذه المجازر والجرائم التي تُرتكب ضد المهاجرين هي جزء من شبكة واسعة من الاتجار بالبشر، وهي جزء من نظام إجرامي مترابط يعمل في صمت، ويشدد حمزة على ضرورة وضع حد لهذه الكارثة الإنسانية”. وأضاف حمزة أن هذه الجرائم تُظهر بوضوح غياب آلية حقيقية من السلطات الليبية لوضع حد لهذه الانتهاكات، مؤكدًا أن “ما يحدث هو استمرار للجريمة المنظمة التي تُستغل فيها أرواح الأبرياء”.
وأكد حمزة ضرورة أن تتحرك السلطات الليبية بشكل عاجل للقبض على العصابات المسؤولة عن هذه الجرائم، مطالبًا السلطات الليبية لتقديم المسؤولين إلى العدالة. وأوضح أن “هذه الجرائم ضد الإنسانية يجب أن تُعتبر وصمة عار على جبين الإنسانية ككل، ولابد من تكثيف الجهود لمحاسبة المجرمين، وإلا سيستمر هذا المسلسل الدموي”. وأشار إلى أن غياب الرادع السياسي والأمني في ليبيا يجعل الأمور تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
الإجراءات المطلوبة للتصدي لهذه المأساة
فيما يتعلق بالإجراءات التي يجب أن تتخذها السلطات الليبية، يرى لملوم أنه من الضروري أن تبدأ ليبيا بترتيب “منزلها الداخلي” واعترافها بوجود فئة من المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يحتاجون إلى حماية دولية، سواء كانوا مهاجرين غير شرعيين أو طالبي لجوء.
وأكد على أن تحديد الجهة الوحيدة المعنية بقضايا المهاجرين أمر ضروري لتجنب الفوضى التي تسود في هذه المسألة. وأضاف: “اليوم، تعاني ليبيا من وجود جهات مختلفة تعمل على ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين، مما يزيد من تعقيد الوضع ويخلق بيئة آمنة لانتشار الاتجار بالبشر”.
وفي سياق متصل، شدد لملوم على ضرورة إنشاء مراكز آمنة بالقرب من المنافذ الحدودية في ليبيا لتسجيل وتصنيف المهاجرين وطالبي اللجوء وحمايتهم من المخاطر التي يواجهونها. “يجب أن تكون هناك مراكز حماية قريبة من المناطق الحدودية، مما يتيح للمهاجرين الوصول إلى الأمان قبل أن يصلوا إلى المدن الكبرى حيث يواجهون الابتزاز والاحتجاز غير القانوني”.
مواقف المنظمات الدولية
من جانبها، أعربت المنظمة الدولية للهجرة عن صدمتها بعد اكتشاف المقابر الجماعية، مؤكدة أن هذا يُعد “تذكيرًا مأساويًا” بالعنف والاستغلال الذي يتعرض له المهاجرون. وقالت المنظمة إن التقارير تشير إلى أن المهاجمين كانوا يعذبون المهاجرين لفترات طويلة، وأنه كان من الممكن أن تُنقذ العديد من الأرواح إذا كان هناك نظام متكامل وآلية واضحة للتعامل مع قضايا المهاجرين في ليبيا.
وأشار مسؤولون في المنظمة إلى أن أعداد المهاجرين المتعرضين للعنف في ليبيا تتزايد بشكل مستمر، وأن بعض المهاجرين الذين يتم إنقاذهم يخضعون إلى ممارسات غير إنسانية تشمل التعذيب والإهانة. ومن ثم دعت المنظمة إلى تعزيز الإجراءات الأمنية والإنسانية في ليبيا، وضرورة تحسين التعاون بين السلطات المحلية والمنظمات الدولية لمساعدة هؤلاء المهاجرين وتوفير الحماية لهم.
في الختام، إن ما يحدث في ليبيا من جرائم ضد المهاجرين غير الشرعيين يعد بمثابة وصمة عار على جبين الإنسانية، ومن الأهمية بمكان أن يتحد المجتمع الدولي مع السلطات الليبية لإيقاف هذا النزيف الإنساني. كما أن تصريحات طارق لملوم وأحمد حمزة، إلى جانب مطالبات المنظمات الدولية، تؤكد ضرورة اتخاذ خطوات فورية لإنقاذ الأرواح وتحقيق العدالة للمهاجرين الذين عانوا من أسوأ أنواع الاستغلال والإجرام. فالمهاجرون لا يبحثون عن الموت، بل عن الأمل في حياة أفضل، ولكنهم في ليبيا يجدون أنفسهم فريسة لشرور عصابات الاتجار بالبشر.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن ليبيا عبر موقع أفريقيا برس