هل نستطيع تخيّل العالم من دون الشعر؟

10
هل نستطيع تخيّل العالم من دون الشعر؟
هل نستطيع تخيّل العالم من دون الشعر؟

أفريقيا برسليبيا. خلود الفلاح – لا شك أن للشاعر دوافعه لكتابة القصيدة، ولكن ما الذي يفجر تلك اللحظة الشعرية؟ يبدو من الآراء المطروحة في هذا الاستطلاع ألا إجابة محددة وجامعة حول سؤال الشعر، وإنما كانت التجربة الحياتية والقراءات المختلفة والتراكم المعرفي سببًا في ولادة القصيدة.

يصف الشاعر الليبي، محمد عبدالله الشعر، بالحادثة، ويضيف: “الشعر كحادثة تحدث لأي سبب في نظري فقد ألتقطها في الهواء وهي تطير وقد توقظها كلمة عفوية تقال أو خبر عاجل في شريط الأخبار أو مكالمة هاتفية، كأنك مصور محترف والكاميرا معلّقة في رقبتك طيلة الوقت، ولا تدري أين تجد صورتك الفوتوغرافية المناسبة بإطارها ومنظورها وإضاءتها وحسها، الشعر حالة قد تتلبسك في أي وقت، ولا يوجد مزاج مشترط له، من وجهة نظري”.

إلهام الشعر

في المقابل، لا يؤمن الشاعر العراقي، عبد الرزاق الربيعي، بالتعويل على الكتابة الأولى كثيرًا، ويلفت إلى أنها وليدة لحظة غامضة أفلتت من العقل الباطن، واللاشعور، وإن لم أجد فيها إضافةً أشطب النصّ من ذاكرتي، وربما أبقي منه جملاً، وتراكيب لأؤسّس عليها نصًّا قادمًا سيكون في حكم الغيب!

ويقول “الربيعي”: تلك اللحظة، التي يسمّيها البعض لحظة الإلهام، قد تداهمني، وأنا نائم، خلال تلك الزيارة المفاجئة، غير المخطّط لها، أشعر كأن يدا توقظني، من نومي، وتنتشلني من غيابي، لغياب آخر، فتزرع في رأسي شطرا، أو بيتا، أو تركيبا، أو حتى مفردة واحدة تضيء ما حولها، تلك المفردة، أو السطر، لابدّ أن يكون قد علق في بالي، وذائقتي، وسعيت لتجاهله، وعدم تهويل حضوره، فأحاول تخطّيه، في البداية؛ لشعوري أنه قد لا يكون سوي سحابة تعكّر صفاء السماء، وتمضي، دون أن تمطر، ولكنه يخيب ظنّي، ويظل يطنطن في رأسي، وعندما أشعر أنني فشلت في مقاومة النداء، أهرع للورقة، لا دوّن ذلك السطر، وأخمد صوته.

وعلى جانب آخر، يتابع “الربيعي”: هذا الإلهام ما أن يرى الورقة، مفروشة ببياضها الآسر، وإغواءاتها، ويستنشق عبيرها، حتى ينمو، ويكبر، ويزهر، ويجرّ خلفه كلمات، وتراكيب، وأجد نفسي دخلت في متاهة جميلة، وممتعة رغم الألم، والشعور بالتيه حتى تهدأ العاصفة، وأعود لقواعدي سالمًا، فأترك النص، وبعد ساعات، أو أيام، أعود إليه، وأكون تقريبًا نسيته، وتكون إطلالتي عليه له كقارئ، وليس كمنتج له، وانتقلت ساعتها من لحظة اللاوعي، لمنطقة الوعي، فأسقط عليه وعيي الشعري، وأقيس ذلك بحذرٍ شديدٍ، فإذا أعجبني، أعرضه على صديق أحتكم لذائقته، مثل الدكتور حاتم الصكر، عدنان الصائغ، أو فضل خلف جبر، أو جواد الحطاب، أو د.سعد التميمي، أو وسام العاني، وهذا يحدث، في الغالب، لثقتي في حساسيته الشعرية، وأصغي لردود أفعاله، فإذا كانت إيجابية؛ أعتمد ذلك النصّ، وإن كان يحتاج إلى تعديلات، أو إضافات؛ أجريها، وهذا يحدث دائمًا.

الولاء للنصّ

وعن تجربتها، تقول الشاعرة الجزائرية عنفوان فؤاد: الكتابة بضمير الإنسان والكائنات التي تصاحبه والمناخات التي تحيط به؛ من أجل هؤلاء أكتب، كوني تجاوزت الترتيبات الجنسانية التي خلقها النقّاد والاقفاص التي شيّدها فقط لتحتوي على كتلة الجسد إلا أن الأجنحة ترفرف خارجه، كما تخطيّتُ هذه المسميّات الطبقية في شِعرية الكتابة واتجهتُ إلى الولاء الكامل للنص. النصّ، باعتباره قنبلة موقوتة بما يحمله من أفكار؛ هو أيضًا الفاتحة المُثلى للتفكّر في أشياء تبدو لوهلة غير منطقية، إلا أنها تفرض تفردها فيما بعد.

واستطردت: الكتابة تُخيف؛ إنها تنمو مثل بذرة وتظل تهدّد بإفشاء سر، أوافق تمامًا ما ذهب إليه الفيلسوف بارث، لحظة انتهائنا من الكتابة، نحشو معدة الطباعة بما جمعناه من أفكار؛ كي تصبح كتبنا جاهزة لكل الاحتمالات، عرضة للاستيلاء، الاستيلاء بشقيّه السلبي والايجابي، ليصبح كتاب الواحد منّا حقلاً من قشّ ينتظر أدنى شرارة لتوزّع نميمة الحرائق، على بُعد مدائن وسماوات تصل إلينا إشارة النار.

وتعترف “فؤاد”، بأنه لم يعد هناك ما يثير شهية الشِعر، وتضيف: “لست متشائمةً بالقدر الذي يمكنني من قتل الكلمات داخل فمي، ولا متفائلة على النحو الذي يُنبت لي أجنحة فأختبر لذّة تقليب الهواء أو السقوط على ظلّي. الكتابة ليست فتاة نسعى لمواعدتها أو إغرائها، ليست حيوانًا ننصب له فخاخنا كي يقع ضحية جشعنا، إنما المحرّك الحقيقي للكتابة عندي هو القلق، الحزن، الأسى، الألم، اللاجدوى، هو الإنسان المضطهد أخلاقيًا، واجتماعيًا، الطفولة المغتصبة، الكائنات المستنزفة، لا يمكنني خيانة الشِعر مع الفرح، ولا انسلاخي من الحزن الذي يتلبسني”.

أغاني التراث

ويذهب الشاعر العراقي، عبود الجابري، إلى القول إن الأساس في كتابة القصيدة هو الحمولة المعرفية واللغوية التي يتميز بها الشاعر، تلك الحمولة التي تجعل من قصيدته منسابة دون تكلف، الشاعر يكتب بروحه، يسكبها على الورق دون أن يفكر بالبحث عن المفردة، الفكرة بالأساس هي عمل تراكمي يأتي كرد فعل على حدث ما أو حلم ما، وأظنه إليوت من قال إنه يستطيع الكتابة عن حاوية القمامة لو أراد.

ويتابع ضيفنا: لا أملك طقوسًا للكتابة أو في الكتابة، تأتي القصيدة عندي كنوبةٍ من الضجر وربما كدمعة عالقة في الروح وعلى الشعر أن يبدد هذا الضجر، ويستدر تلك الدمعة بصورة نصّ أو قصيدة دون سيناريو، السيناريو يُولد خلال كتابة النصّ، فيتحكم بطوله وشكله، ثمة حوادث تحدث في بيت النصّ لم يكن بالحسبان حدوثها، حتى الفكرة، أحيانًا، تستدير وتعود إلى حيث خرجت، وتحلّ بدلاً منها فكرةٌ أخرى مختلفةٌ تمامًا.

وتحدث “الجابري” عن تأثّره، بشكل واضح، بكثير من أفانين الغناء ولاسيما الغناء الريفي الموغل في القدم، وبعض قصائد النعي من تراث الجنوب العراقي، ويضيف:” أنا من البشر الذين يسافرون في هذا النوع من الحزن بجذوره الممتدة عميقًا في العراق، وهذا النوع من التراث يولّد عندي مفردات ليست في حسبان ما أكتب؛ الأمر الذي يجعلني أشعر بدهشة وفرح لم أكن قد تهيأت لملاقاتهما، لاسيما وأنني لا أعيد تدقيق نصوصي إلا بالقدر الذي يتعلق بالأخطاء الإملائية المتوقّع حدوثها أثناء الكتابة”.

ويرى عبود الجابري: أن الشعر يأتي كطائر يحط على نافذة الشاعر، ومثل هذا الطائر يمكنك استدراجه بالحرفة إن كنت تملك من الأدوات ما يساعدك على هذا الاستدراج، في البدايات كنّا نقرأ عن عادات تلازم بعض المبدعين في وقت الكتابة، تلك العادات التي يكون توفرها ملازمًا للحظة الكتابة ودونها لا يمكن للشاعر أن يصطاد شيطان القصيدة؛ مثل المكان الهادئ، الكتابة على نوع معين من الورق بوجود نوع معين من الأقلام، الكتابة في المقاهي حصريًا، سماع الموسيقى وهناك من يغالي في الطقوس إلى درجة لا يمكن تخيلها من منظور عقلاني، فماذا يعني أن يكتب أحدهم بينما يضع قدميه في إناء للحليب، وثمة فئة من الشعراء الذهنيين الذين لم يكونوا يكتبون قصائدهم إلا عندما يكونون تحت تأثير الحبوب المهلوسة، وربما يكون لكل فرد من هؤلاء أسبابه.

وأضاف “الجابري”: “فقد كان الأعلام من الشعراء يلقون قصائدهم ارتجالاً، بينما لم يكن أحد منهم ليفكر آنذاك بمقوّمات تُحفز أو تُثير لحظة الكتابة، صحيحٌ أن الكتابة ولاسيما الشعرية منها لحظة وجدانية يتماهى فيها الشاعر مع محتوى قصيدته، ويغيب في ثنايا سطورها لابتكار ما هو مغاير أو مختلف عما يراه عاديًا من وجهة نظره”.

الشعر والحرب

أوضحت الشاعرة الليبية أم الخير الباروني أن اللحظة الشعرية لديها بعد سنوات الحرب، صارت مختلفة، والمفردة أيضًا اختلفت، الإبداع الشعري لغرض الإبداع والحس الجمالي المطلق حيث تتطلع لقصيدة وكأنها جدارية خالدة غاب، وحل بدلاً عنه سطوة الواقع وسيطرة الآن وكل ما هو يومي وقاسي ومعاش، وأضافت: “النصّ صار يكتوي بلهيب الجبهات، وتلفحه حرارة الاسعار، تشقيه أنّات النوافذ الخاوية وتحزنه الزوارق المنكفئة على ركابها. فلحظتي الشعرية لا تبتعد كثيرًا عن هذا التشكيل، فالحزن اتخذ متكأ وتمترس وألقى بظلاله ليكون الفكرة والصورة والرؤية، هل هو ارتباط بالوجود، أم اغراق في اللاوعي، هل هو انفعال لحظي أو تشكيل جوهري يعكس جذب وجفاف الواقع وبالتالي ينأى بالشعر عن براحه ومداه؛ لتصير اللحظة الشعرية صفحة من دروس التاريخ قد يوشيها المغزى ولكن يغيب عنها الألق”.

وتعتقد أم الخير الباروني، أن الإجابة عن سؤال الشعر كان من الممكن أن تكون إجابته من اليسر بمكان، حيث تستند اللحظة إلى الدهشة بكثافة الشعور وامتلائها بالقلق، فتتزاحم فيها الأضداد ويتصادم ويحتدم داخل جدارها الألم بالانكسار والشغف باللهفة والفرح بالشجن، وتتمدد إلى أن تنفجر نصًا إبداعيًا يترجم اختزال الزمن لمشاعرنا في لحظة لا نختارها بل تصطفينا.

غير أن هذا الانفعال الذي ينساب شعرًا ويتأطر في أنماط ومضامين شتى؛ يأتي عبر مراحل العمر واتساع التجربة ليُجسّد روح الإبداع ونضج المبدع، ويُظهر مدى تطوره وامتلاكه لأدواته، يأتي ويأخذ منحى آخر لا يقارب نفس الشاعر ولا يُمثّل إبداعه.

وعلى جانب آخر، تتابع “الباروني”: النصّ يُولد بشرارةٍ ناضجةٍ لكنها بعيدةٌ عن الوعي، حقيقيةٍ ولكنها صعبةُ الإدراك، فحين يتوهج نبض اللحظة؛ يمتزج الزمان والمكان وتتشكّل رؤية تصنع جمالها وتُؤسّس فضاءها وتنصب أيقونات طبيعتها الخاصة لتسرد عمق التجربة أو فرحها أو الآمها بإيقاع مختلف.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here