أفريقيا برس – موريتانيا. تعيش العلاقات الموريتانية المالية حالياً بواحدة من أخطر فصولها في السنوات الأخيرة، حيث ألقى التوتر السياسي والاقتصادي بظلاله على حياة المواطنين في كلا البلدين.
فقد وصلت الأزمة إلى حدّ إغلاق محلات تجارية ومنع حرية تنقّل الأشخاص عبر الحدود المشتركة، في وقت لزمت فيه الحكومتان الصمت إزاء هذه التطورات المتسارعة، ما زاد المخاوف من تفاقم الوضع وانزلاقه نحو مزيد من التصعيد. وتأتي هذه الأزمة في سياق إقليمي هشّ، إذ تعيش منطقة الساحل على وقع توترات أمنية متزايدة، تجعل أي تراجع في العلاقات بين نواكشوط وباماكو، إضافة للوقود إلى نار مشتعلة أصلاً.
وتشهد العلاقات بين مالي وموريتانيا هذه الأيام توتراً غير مسبوق انعكس بشكل مباشر على حياة التجار والرعاة في البلدين.
ويأتي هذا التوتر في وقت تمر به جمهورية مالي بظرف صعب بعد أن تمكنت مجموعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التكفيرية من «فرض حصار على مدينتي كاي ونيورو» الماليتين، مع حظر دخول الوقود إلى مالي عن طريق كوت ديفوار، وغينيا كوناكري، والسنغال، وموريتانيا»، إضافة إلى «فرض حظر كامل على أنشطة شركة ديارا للنقل في كامل المنطقة» المذكورة.
وتحدثت مواقع إلكترونية مالية عن تنفيذ الجيش المالي خلال الأيام الأخيرة لعمليات جوية وبرية ضد الجماعات المسلحة في كل من مدن ليره، وغاو، وكاي، ونيورو، غير بعيد من الحدود مع موريتانيا، تمكن خلالها، جيش مالي، من مقتل العديد من المسلحين.
في غضون ذلك، أعلن حاكم كاي الجنرال موسى سوماري تمديد حظر التجول في مدينة نيورو لمدة شهر إضافي ابتداء من 31 آب/ أغسطس 2025، وكان هذا الحظر قد فُرض في فاتح يوليو 2025 إثر الهجمات التي استهدفت كاي و6 مناطق أخرى، وتم تمديده خلال شهر آب/ أغسطس الماضي.
وقامت السلطات المالية «بحملة واسعة لإغلاق عدد كبير من محلات الموريتانيين التجارية في العاصمـة باماكو وعدد من مدن الداخل»، حسب بيان لمكتب الجالية الموريتانية في مالي.
واعتبر البيان أن ما حصل تطور مفاجئ، يؤثر سلباً على سير عمل «الجالية الموريتانية هناك»، مضيفاً «أن مكتب الجالية أجرى اتصالات بالسفارة الموريتانية في باماكو والجهات الدبلوماسية في البلد، لمعرفة الأسباب والدعوة لحماية المواطنين وممتلكاتهم».
قبل هذه الخطوة، أصدرت وزارة الإدارة الترابية واللامركزية بمالي من خلال حاكم ولاية نيورو، قراراً يقضي، حتى إشعار آخر، بحظر نشاطات تنقل ومراعي حيوانات الأجانب في المنطقة، ومن المعروف تقليدياً أن هذه المنطقة لا تنتجع فيها إلا مواشي الموريتانيين.
واعتبر مراقبون لهذه التطورات أن القرارات المتبادلة بين باماكو ونواكشوط القاضية بإغلاق محلات تجارية، وعمليات طرد المواطنين، ومنع التنقل، تشكل تراجعاً خطيراً عن مكتسبات تاريخية أرستها اتفاقية 1963 التي كرست حرية التنقل والإقامة بين الشعبين الموريتاني والمالي.
ووجد العشرات من التجار الموريتانيين في العاصمة المالية أنفسهم أمام إجراءات إغلاق مفاجئة لمحلاتهم التجارية، بحجة غياب تراخيص إدارية أو شبهات تتعلق بالضرائب والأمن.
غير أن أفراد الجالية الموريتانية يرون في هذه الإجراءات حملة تضييق تهدد مصدر رزق آلاف الأسر التي استقرت منذ عقود في أحياء باماكو الشعبية.
وفي تطور آخر، أعلن حاكم ولاية نارا في 27 آب/ أغسطس 2025 حظر الترحال والرعي على «الأجانب» بدواعٍ أمنية مرتبطة بالعمليات العسكرية في المنطقة. لكن المتضرر الأكبر من هذا القرار هم الرعاة الموريتانيون الذين يعتمدون منذ أجيال على عبور الحدود إلى جنوب مالي طلباً للمراعي خلال موسم الجفاف.
ويهدد هذا المنع التوازنات الرعوية التقليدية ويضع مستقبل مئات الأسر البدوية في مهب المجهول.
وجاءت هذه القرارات بعد قيام حكومة نواكشوط مؤخراً بترحيل عشرات المهاجرين الماليين بدعوى الإقامة غير النظامية أو غياب وثائق ثبوتية؛ الأمر الذي أثار في مالي شعوراً بالإهانة، لترد باماكو عبر قرارات يرى مراقبون أنها تحمل طابعاً انتقامياً.
وتتعارض الإجراءات الأخيرة مع اتفاقية تموز/ يوليو 1963 التي ضمنت حرية الإقامة، وحق ممارسة الأنشطة الاقتصادية، وحماية الأملاك للمواطنين في البلدين؛ وهو ما يجعل الممارسات الحالية خروجاً عن روح الاتفاق وضرباً لمكتسبات الاندماج الإقليمي.
وفي حين تبرر السلطات الموريتانية والمالية هذه القرارات باعتبارات أمنية وإدارية، يحذر خبراء من أنها تفتح الباب أمام سابقة خطيرة تمس جوهر التكامل في غرب إفريقيا، وتضر بشكل مباشر بالشرائح الأكثر هشاشة من تجار صغار ورعاة حدوديين.
ويرى مراقبون أن الوضع يستدعي إحياء الحوار الثنائي وتفعيل آليات مشتركة لإدارة حركة الأشخاص وقطعان المواشي، مع ضمان عدم تضرر المدنيين من التوترات السياسية.
فسيادة الدول تبقى حقاً مشروعاً، لكن بنظر المراقبين، لا يمكن أن تُبنى على حساب المجتمعات التي شكّلت لعقود جسراً للتواصل بين مالي وموريتانيا.
ويعتبر غياب خطاب رسمي يبدّد الغموض حول خلفيات الأزمة وحدودها، مضافاً لترك الساحة للتأويلات المتضاربة، تعميقاً للشكوك ومضاعفة المخاطر؛ فموريتانيا ومالي ليستا مجرد بلدين جارين، بل هما ركيزتان أساسيتان في معادلة الأمن والاستقرار بالساحل، وأي تصدّع في علاقاتهما قد يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة، أبرزها تعطيل جهود مكافحة الإرهاب وتفاقم الأوضاع الإنسانية والاجتماعية في المناطق الحدودية.
لذلك، فإنّ تجاوز هذا التوتر، عبر الحوار والوساطة، لم يعد مجرد خيار دبلوماسي، بل ضرورة ملحّة لتجنيب المنطقة عواقب أزمة قد تتجاوز الحدود وتفجر هشاشة الساحل بأسره.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن موريتانيا عبر موقع أفريقيا برس