أفريقيا برس – المغرب. في عالم لطالما ارتبط فيه الذهب برموز الثراء والفخامة والاستقرار الاقتصادي، تبرز الصين باختراق علمي وتقني جديد، بات ينظر إليه على أنه قد يعيد تعريف طبيعة هذا المعدن، ويغير الطريقة التي ينظر بها الإنسان إليه.
قد يبدو من غير الممكن علميا “إعادة ابتكار” عنصر كيميائي أساسي وثابت مثل الذهب، غير أن علماء صينيين، مدفوعين بسنوات طويلة من البحث المتقدم وجهود التطوير الممنهجة، يؤكدون أنهم تمكنوا بالفعل من تحقيق ذلك عبر تحويل الذهب النقي إلى مادة تمتاز بخصائص فيزيائية جديدة دون المساس بتركيبها الكيميائي الأساسي، سميت “الذهب النقي الصلب” أو “بيانغ زوجين” بالصينية.
خصائص تتجاوز حدود الذهب التقليدي
يقول الباحث في المختبر الوطني لعلوم المواد في شينيانغ التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، هاي-جون جين إن “الذهب النقي عيار 24 قيراطا (بنقاوة تصل إلى 99.9%) يتميز بخصائص ميكانيكية محدودة من حيث الصلابة، إذ يعد معدنا شديد الليونة وسهل الانحناء وقابلا للخدش وفقدان الشكل تحت الإجهاد الميكانيكي، ولا يصلح للاستخدام اليومي”
ويضيف: “ولهذا السبب، يعمد الحرفيون تقليديا إلى مزج الذهب بمعادن أخرى، مثل النحاس أو الفضة، بهدف تحسين مقاومته للتشوه وزيادة صلابته”.
ويوضح جين -في حديثه للجزيرة نت- أن هذا المزج، وإن كان يُكسب المعدن متانة أكبر، غير أنه يؤدي في المقابل إلى انخفاض درجة النقاوة إلى مستويات تتراوح عادة بين 18 و14 قيراطا، كما يُضعف جزئيا اللمعان الأصفر العميق والمميز للذهب الخالص.
لقد ظلّ هذا التوازن الدقيق بين النقاء والمتانة في تصنيع الذهب يشكل تحديا علميا وصناعيا لقرون طويلة، إذ لم يكن من الممكن إنتاج ذهب يحافظ على نقائه العالي دون أن يفقد في المقابل متانته الميكانيكية، حتى جاء الابتكار الصيني الأخير ليكسر هذه المعادلة التي طال أمدها.
ففي الأول من مايو/أيار 2024، أعلنت الصين رسميا اعتماد فئة جديدة من الذهب حصلت بها على براءة اختراع بعد العمل على تطويرها لسنوات طويلة، ودخل معيار الصناعة الجديد لمجوهرات “الذهب الخالص الصلب” حيز التنفيذ في مايو/أيار 2025، باعتباره إنجازا تقنيا يجمع بين صفاء العنصر وخواصه الميكانيكية المتقدمة.
يحدد هذا المعيار، الذي صاغه مجلس الذهب العالمي بالشراكة مع عديد من الهيئات والشركات الصناعية الرئيسية، متطلبات جودة وسلامة هذا النوع من المجوهرات بما في ذلك نقاء لا يقل عن 99%، مع صلابة عالية جدا تبدأ من 60 درجة على مقياس فيكرز، أي ما يقارب 4 أضعاف صلادة الذهب التقليدي عيار 24 قيراطا.
ويسهم هذا المعيار في إزالة الالتباس لدى المستهلكين من خلال توحيد المصطلحات المجزأة مثل “الذهب الصلب ثلاثي الأبعاد” و”ذهب 5 جي” ضمن تصنيف صناعي موحد ومعتمد، ويضمن أن “الذهب الصلب الخالص” يُلبي المتانة والجودة والسلامة الموعودة.
وتحقق هذا الأداء الفريد بفضل منهج علمي دقيق اعتمد على إدخال نسب ضئيلة جدا تتراوح بين 0.1 و1% من معادن نادرة مثل الإنديوم والزنك، دون أن يؤثر ذلك على التركيب الكيميائي الأساسي للذهب أو على لونه الطبيعي اللامع.
ويوضح جين أن “الإضافات الدقيقة من العناصر النادرة تعمل على تعديل البنية الذرية للذهب بصورة محكمة، مما يؤدي إلى تحسين خواصه الميكانيكية بشكل ملحوظ من دون أن يؤثر ذلك على لمعانه الشديد وثبات لونه وصلابته أو استقراره الكيميائي العالي”.
ويضيف أن “هذا الابتكار يمكن تبسيطه بالقول إنه ذهب نقي عيار 24 قيراطا يتمتع بمتانة وخواص ميكانيكية تماثل تلك الموجودة في الذهب عيار 18 قيراطا، أي أنه يجمع لأول مرة بين نقاء الذهب الخالص (بنسبة 99.9%)، وصلابة السبائك المعدنية في مادة واحدة متجانسة ومستقرة”.
المنطق العلمي والتقني
على المستوى الصناعي، يُنتج الذهب الصيني الجديد باستخدام الذهب الخالص نفسه كمادة أساسية، غير أنه يخضع لعمليات التشكيل الكهروكيميائي بالنطاق النانوي، حيث تُرسب طبقات الذهب على قوالب محددة هندسيا تحت ظروف كهروكيميائية مضبوطة، مما يؤدي إلى تكوين شبكة معدنية دقيقة ذات مسامية منخفضة وبنية حبيبية نانوية.
كما تُستخدم تقنيات السباكة الدقيقة، التي تعيد ترتيب بنيته البلورية الداخلية، مما يؤدي إلى زيادة صلابته واستقراره الميكانيكي من دون التأثير على نقائه الكيميائي أو لونه المميز، وهو ما يعد إنجازا تقنيا حقيقيا، لأن الحفاظ على التجانس في المواد العالية النقاء يمثل عادة تحديا كبيرا.
وفي منتصف أغسطس/آب 2024، كشف فريق من العلماء الصينيين عن تقنية جديدة تمكن من زيادة صلابة الذهب النقي من دون التأثير على كتلته أو نقاوته، وذلك من خلال تشكيل مسام نانوية منتظمة داخل البنية الصلبة للمعدن.
وتشير الدراسة -التي نُشرت نتائجها في مجلة ساينس- إلى أن إضافة هذه المسام الدقيقة إلى بنية الذهب تمنحه قدرة أعلى على تحمّل الإجهاد الميكانيكي مع الحفاظ على ليونته، ودون أي زيادة في الوزن أو تأثيرات بيئية ضارة، وهو ما اعتُبر إنجازا علميا مهما في مجال علم المواد.
في الطرق التقليدية لتشكيل المعادن -مثل السباكة واللحام والطباعة ثلاثية الأبعاد- تعد الفقاعات أو الفراغات داخل البنية المعدنية عيوبا بنيوية خطيرة، إذ يمكن أن تؤدي إلى انخفاض في مقاومة المعدن، أو تقليل متانته عند نقاط الوصل، أو إضعاف المظهر السطحي النهائي.
غير أن الباحثين توصّلوا إلى نتيجة معاكسة مفادها أن التحكم في حجم وشكل وتوزيع الفقاعات الدقيقة -بدلا من التخلص منها- قد يخفف من آثارها السلبية، بل ويوفر خصائص ميكانيكية محسنة للمعدن.
وتتيح هذه العمليات مجتمعة إنتاج قطع ذهبية متجانسة بتصاميم هندسية معقدة ودقة متناهية مع الحفاظ على أوزان خفيفة للغاية، إذ تُشكل المصوغات غالبا على هيئة بُنى مجوفة تقلل من الكتلة المادية دون أن تنقص من محتواها العالي من الذهب.
ويمثل هذا الأسلوب تحولا تقنيا بارزا في صناعة المجوهرات الذهبية، إذ يجمع للمرة الأولى بين نقاء الذهب التقليدي عيار 24 قيراطا وسهولة التشكيل والصلابة الميكانيكية التي كانت تقتصر سابقا على السبائك المخلوطة.
من المختبرات إلى الأسواق
لم يبقَ هذا الابتكار حبيس المختبرات أو الأوراق البحثية، بل انتقل بسرعة إلى واقع الصناعة والأسواق، فقد شهد الذهب النقي الصلب ظهوره الأول في المعارض الصينية الكبرى للمجوهرات خلال العام الجاري، ولفت الأنظار بتصميماته الدقيقة ومتانته الاستثنائية.
وخلال فترة وجيزة، تحول من تجربة علمية واعدة إلى منتج تجاري واسع وسريع الانتشار، إذ تشير تقارير مجلس الذهب العالمي ومبادرة “طريق الحرير الجديد للذهب” إلى أنه أصبح يمثل حاليا ما بين 20% و25% من إجمالي مبيعات المجوهرات الذهبية بالتجزئة، وهو ما يجعله الأسرع نموا والأكثر رواجا في الصين، خصوصا بين جيل الشباب، نظرا لسعره المنخفض مقارنة بالذهب التقليدي.
وفقا لجين، فإن “هذا النوع الجديد من الذهب يُسوق باعتباره أخف وزنا وأكثر صلابة، مما يسمح بتصميم مشغولات ذهبية دقيقة التفاصيل ورقيقة الجدران دون أي إضافات معدنية، ودون فقدان متانتها أو تعرضها للخدش والانحناء والتشوه، خلافا للذهب التقليدي شديد الليونة”.
ويضيف أن “الأهم من ذلك هو أنه يحتفظ لمدة طويلة بالمظهر نفسه للذهب التقليدي عيار 24 قيراطا من حيث اللون اللامع من دون الحاجة إلى طلاءات إضافية كما في بعض أنواع المجوهرات التقليدية، واللمسة الدافئة التي تميزه عبر العصور”.
من الناحية البيئية، يحتفظ هذا النوع من الذهب بقدرته الطبيعية العالية على مقاومة العوامل البيئية مثل الأكسدة والتشوه والتآكل، رغم أن الذهب بطبيعته لا يتأكسد بسهولة، فإن البنية الدقيقة المتماسكة التي تنتج عن المعالجة الحرارية تمنع تراكم الإجهادات السطحية، وتقلل من احتمال تشقق السطح أو فقدان اللمعان مع مرور الزمن أو مع الاحتكاك المستمر.
وفي معرض هونغ كونغ الدولي للمجوهرات والأحجار الكريمة الذي أقيم في سبتمبر/أيلول الماضي، تم عرض مجموعات كاملة مصنوعة من الذهب النقي الصلب، في خطوة تعكس بوضوح توجّه الصين نحو طرح هذا الابتكار في الأسواق العالمية، وتأكيدها أنه ليس مجرد نجاح محلي، بل إنه إنجاز علمي وصناعي يستهدف إعادة تعريف مستقبل صناعة الذهب عالميا.
تساؤلات علمية مفتوحة
رغم الإشادة الواسعة التي حظي بها هذا الابتكار، فإن الذهب النقي الصلب لا يزال يثير مجموعة من التساؤلات العلمية التي تستحق الدراسة المتأنية. فحتى الآن، لم تُختبر بشكل كاف استدامة بنيته الذرية الدقيقة تحت ظروف الاستخدام الطويل، أو عند التعرض المستمر لعوامل بيئية مثل الحرارة والرطوبة.
وتشير التقارير المتوفرة إلى نتائج مبشرة، غير أن معظمها صادر عن المصنعين، مما يستدعي مزيدا من التحقق المستقل والتجارب المعيارية الطويلة الأمد.
كما يبرز نقاش علمي آخر يتعلق بمسألة الشفافية والمصطلحات، إذ يجادل بعض الخبراء بأن إضافة عناصر معدنية ضئيلة -مهما كانت نسبتها صغيرة- قد تجعل وصف المادة بـ”الذهب النقي” غير دقيق كيميائيا، رغم أن نسبة الذهب الفعلية تتجاوز 99%.
ومع ذلك، يتفق المتخصصون على أن هذا الابتكار يمثل نقلة هندسية وتقنية نوعية في معالجة المعادن الثمينة، إذ نجح في تجاوز المفاضلة التقليدية بين النقاء والصلابة التي رافقت الذهب منذ آلاف السنين.
يقول جين “إذا أثبت هذا النوع الجديد من الذهب كفاءته واستقراره على المدى الطويل، فمن المرجح أن يفتح الباب أمام تطبيقات أوسع تتجاوز صناعة المجوهرات التقليدية، فإلى جانب استخدامه في تصميم مجوهرات أخف وزنا وأكثر متانة، يمكن توظيفه في التقنيات الفاخرة ومجالات الإلكترونيات الدقيقة، مثل الموصلات الكهربائية والمفاصل الميكروية التي تتطلب مزيجا من التوصيلية العالية والمقاومة الميكانيكية”.
كما يمكن -حسب رأيه- استخدامه في الأجهزة الطبية الدقيقة بفضل توافقه الحيوي الممتاز، وفي الصناعات الفضائية الدقيقة التي تحتاج إلى مواد خفيفة مقاومة للتآكل وتغيرات الحرارة.
أما بالنسبة للمستهلكين، فإن هذا التطور يعني ببساطة إمكانية اقتناء ذهب عيار 24 قيراطا يمكن ارتداؤه يوميا من دون خوف من الخدوش أو التشوهات، وهو إنجاز طالما اعتُبر حلما بعيد المنال في عالم صياغة الذهب.
ومع أن هذه التطورات لا تغيّر مكان الذهب في الجدول الدوري، فإنها غيرت فعليا موقعه في عالم المواد المتقدمة، لتجعل منه عنصرا يمكن أن يتطور -بعد آلاف السنين من استخدامه- نحو جيل جديد من المواد المعدنية الذكية والمتعددة الوظائف.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس





