ماذا بعد رفض الناتو الاعتراف بإسبانية سبتة ومليلية؟

18
ماذا بعد رفض الناتو الاعتراف بإسبانية سبتة ومليلية؟
ماذا بعد رفض الناتو الاعتراف بإسبانية سبتة ومليلية؟

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. عندما أعيد فتح بوابتَيْ العبور بين مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين مع المغرب، في 17 مايو/أيار الماضي، بعد إغلاق استغرق 26 شهرا، اعتقد كثيرون من الجانبين أن الخلافات العميقة بين المغرب وإسبانيا أصبحت جزءا من الماضي. فقد دفعت مدريد “ثمنا” باهظا لقاء طي صفحة الأزمة، التي تسبب فيها استقبالها لزعيم جبهة البوليساريو من “وراء ظهر المغرب”. فقد انتهت إلى الاعتراف بمقترح الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب حلا نهائيا لمشكل الصحراء، وراجت حينها تكهنات وأخبار كاذبة كثيرة، مفادها أن ثمة وراء الكواليس بالمقابل تنازلات “تاريخية” من الرباط لمدريد، في قضية سبتة ومليلية.

لكن لا شيء تغير في الواقع منذ فتح البوابتين. فالمغرب أعلن قبل أيام للأمم المتحدة بأنه لا حدود لديه مع إسبانيا، تأكيدا منه على رفض واقع احتلالها لمدينتيه سبتة ومليلية. ولا زال يرفض إقامة جمارك مع المدينتين، بل وأصبح يمنع حتى مجرد إدخال مواد غذائية أو بضائع مهما كانت بسيطة من المدينتين المحتلتين إلى ترابه.

وعلى الضفة الأخرى، كشفت الأيام أن مدريد التي لا يتوقف كبار مسؤوليها في مغازلة المغرب كل يوم، قد استغلوا في السر احتضانهم لقمة حلف الناتو، أسابيع قليلة بعد فتح المغرب “الحدود” مع مدينتيه المحتلتين، لتطالب الحكومة الإسبانية الحلف بوضع سبتة ومليلية تحت مظلة حمايته أسوة بالتراب الإسباني (إسبانيا عضو في الناتو منذ 1982). لكن قيادة الحلف رفضت الاستجابة مع طلب مدريد.

ولذلك يجري الترويج مؤخرا لـ”حل سلمي” يتمثل في إخضاع المدينتين لـ “سيادة مشتركة” تتقاسمها الرباط مع مدريد..

لا يزال الثغران سبتة (19 كم مربع) ومليلية (12.3 كم مربع) اللذان تحتلهما مدريد منذ العام 1497 بالنسبة لسبتة، و1580 بالنسبة لمليلية، وتعتبرهما “جزءا لا يتجزأ” من الأراضي الإسبانية، موضع جدل حاد مع المغرب الذي لم يتوقف عن المطالبة باسترجاعهما. فبينما ساد الاعتقاد بأن ثمن تغيير الحكومة الاسبانية من قضية الصحراء لفائدة الموقف المغربي في مارس الماضي، كان هو تجميده للمطالبته باسترجاع المدينتين، لم تتوقف التطورات الأخيرة في الواقع عن تأكيد العكس.

حلف الأطلسي يرفض..

فشلت إسبانيا في إقناع الناتو بضمان حماية سبتة ومليلية في حالة وقوع “اعتداء” مغربي عليهما. هذا ما كشفه مصدر عسكري إسباني رفيع لإعلام بلاده منذ أيام. فقد كانت حكومة بيدرو سانشيز أعدت “ورقة طريق”، قدمتها إلى قمة حلف الأطلسي، التي احتضنتها العاصمة الإسبانية مدريد يومي 29 و30 يونيو/حزيران 2022، تطلب فيها وضع مدينتَي سبتة ومليلية تحت مظلة الحلف لحمايتهما من أي هجوم عسكري (مغربي). لكن تأكد لحكومة سانشيز فيما بعد، بأنه لا الولايات المتحدة ولا المملكة المتحدة، وافقتا على إحداث تغيير بهذا الحجم لوضعية المدينتين، اللتين يطالب المغرب باسترجاعهما.

وبدلاً من ذلك، عرضت حكومة مدريد على الناتو “خطة باء”، وهي نوع من الترضية تعرض على الحلف أن تتوقف أساطيله الحربية وغواصاته، خلال عبورها مضيق جبل طارق، بميناءَي سبتة ومليلية للتوقف التقني والتزود بالوقود في سياق مهامها..

لكن هذا الاقتراح ظل معلقا في الهواء، دون رد إيجابي أو سلبي من الحلف. ومؤخرا جدا فقط، بحسب الإعلام الإسباني، تم إبلاغ إسبانيا أن سفن الناتو وأساطيله الكبيرة لن تلجأ إلى الموانئ الإسبانية الواقعة في القارة الأفريقية (المقصود ميناءا المدينتين المغربيتين مليلية وسبتة. والتبرير الذي قدمته قيادة الحلف لقرارها، أن هناك “موانئ أخرى” تقوم بالفعل بهذا العمل، من بينها قاعدة الحلف بميناء روتا (إقليم قادس بجنوب غرب إسبانيا)، التي تعتبرها الولايات المتحدة ذات أهمية استراتيجية كبيرة.

إن هذه النكسة لها آثار اقتصادية وخيمة على المدينتين، خصوصا سبتة التي يعتبر ميناءها أكثر عمقا من ميناء مليلية. لنتذكر أنه بين عامي 2010 و2018، قامت السفن العسكرية والغواصات الروسية بالتوقف حوالي 60 مرة للتزود بالوقود في ميناء سبتة، وهو ما دَرَّ عائدات تقارب خمسة ملايين يورو، وفقا لبيانات سلطات ميناء المدينة.

لكن هذه التوقفات المربحة لاقتصاد سبتة، والتي استمرت منذ سبعينيات القرن الماضي، توقفت بشكل نهائي منذ عام 2018، بسبب وقف العمل بالاتفاق الضمني بين روسيا وإسبانيا لتنفيذ هذه التوقفات ولم تر وزارة الدفاع ولا البحرية الإسبانية حينها أي ضرر في توقفها. لكن بالمقابل، كشف الناتو لإسبانيا أنه لا يرى أن هذه التوقفات الروسية مناسبة، خاصة منذ تدخل موسكو في الصراع السوري.

أما اليوم، بعد أن بلغ العداء الإسباني لموسكو مبلغا بعيدا وغير مسبوق، بسبب التشجيع الروسي المفترض لانفصاليي إقليم كطالونيا (شمال شرق إسبانيا)، وانخراط مدريد الحماسي المعادي لروسيا في الحرب الأوكرانية، باتت فرص عودة الأساطيل الروسية (المدنية والعسكرية) إلى الموانئ الإسبانية شبه معدومة. فآخر الأخبار تفيد بأن الروس نقلوا سفن الصيد التي كانت تصطاد في المياه الإقليمية للصحراء، وتقوم بالصيانة والإصلاح بموانئ جزر الكناري الإسبانية، إلى ورش صيانة وإصلاح السفن بميناء الدار البيضاء المغربي.

المغرب: “لا حدود برية لنا مع إسبانيا!”

عطفا على ذلك، توصلت الأمم المتحدة برسالتين من المغرب وإسبانيا يؤكد كل طرف في رسالته أن سبتة ومليلية تقعان ضمن أراضيه. وهذه هي أول مواجه ديبلوماسية بين الرباط ومدريد حول ملف ذي طابع ترابي، منذ عودة الهدوء إلى العلاقات بينهما في 18 مارس/أذار الماضي.

فقد وجهت الحكومة المغربية رسالة إلى المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الانسان، نقلتها الأسبوع الماضي، صحيفة “الإسبانيول”، توضح فيها أن مليلية لا تزال مدينة محتلة، ولا يمكن بالتالي الحديث عن “حدود” وإنما “نقاط عبور”. فقد جرى وصف المدينتين في الوثيقة المكونة من 11 صفحة، عدة مرات على أنهما مدينتان “محتلتان”. وجاءت الرسالة التوضيحية ردا على رسالة وجهتها الأمم المتحدة للرباط، تطلب فيها معلومات من السلطات المغربية بشأن “الاستخدام المفرط والقاتل للقوة مع المهاجرين المنحدرين من أصل أفريقي، ولا سيما اللاجئين. وطالبي اللجوء عند بوابة مليلية، في 24 يونيو/حزيران الماضي”.

وأرسلت الحكومة الإسبانية مذكرة شفوية إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، للتأكيد على ما وصفته بـ “الطابع الإسباني لسبتة ومليلية”، ردا على مضمون رسالة المغرب وعلق رئيس الحكومة بيدرو سانشيز بأن “سبتة ومليلية إسبانيتان، نقطة نهاية”.بينما علقت وزيرة الدولة للشؤون الخارجية، أنجيلس مورينو، خلال مثولها أمام لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان لشرح الميزانيات المخصصة لوزارتها في عام 2023، إن “سيادة سبتة ومليلية لا جدال فيها”، مؤكدة على أن هذا هو سبب إرسال مذكرة شفوية إلى الهيئة نفسها التي راسلها المغرب.

هذه التوضيحات الموجهة من المغرب إلى الأمم المتحدة، لم تتوقف عن إثارة جدل واسع في اسبانيا اليوم، حيث يرى فيها جزء مهم من الرأي العام، بأنها تتعارض مع تصريحات رئيس الحكومة بيدرو سانشيز خلال مثوله أمام برلمان بلاده في يونيو/حزيران الماضي، لتقديم تقرير عن العلاقات مع المغرب بعد الموقف الجديد بشأن الصحراء المغربية، حيث أكد حينها بأن “السيادة الإسبانية على سبتة ومليلية لا مجال للشك فيها”.

ويظهر هذا الجدل الجديد حول وضعية المدينتين المحتلين، مدى حساسية القضية لدى الجانبين، حيث تعيد إلى لأذهان ما وقع قبل سنتين بسبب تصريح سابق لرئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني، قال فيه إن “سبتة ومليلية من القضايا التي من الضروري أن يفتح فيها النقاش”، ومضيفا بأن هذا الملف “المعلق منذ خمسة أو ستة قرون، لا بد أن يُفتح في يوم ما”.

وقد أثارت تصريحات رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني حينها غضبا إسبانيا قويا، استدعت على إثره وزارة الخارجية الإسبانية سفيرة المغرب لدى مدريد كريمة بنيعيش، لاستيضاحها بشأن تصريحات د. العثماني.

نحو “سيادة مشتركة” على المدينتين؟

ولتهريب النقاش حول واقع احتلال المدينتين والجزر المتوسطية الملحقة بمليلية، يجري الحديث عن حلول سلمية “مبتكرة” لطي الخلاف حولها نهائيا. ومن بين هذه “الحلول” يتكرر مفهوم غامض حول “سيادة مشتركة”، يمكن أن يتقاسمها المغرب وإسبانيا على المدينتين.

ويبدو أن فكرة “السيادة المشتركة” ليست جديدة. فقد نقلت وسائل إعلام إسبانية عن الخبير الإسباني في الاستخبارات ومنهجياتها فرناندو كوتشو بيريز، زعمه مؤخرا بأنه اكتشف في بعض التقارير وجود اتفاق بين إسبانيا والمغرب، يقضي بإقامة نوع من السيادة المشتركة (co-souveraineté) بينهما على سبتة ومليلية في أفق العام 2030. وأوضح في حوار تناقله الإعلام الإسباني على أوسع نطاق، أن هذه الاتفاقية المفترضة، “تحدد شكل الوضع الخاص للمدينتين المستقلتين في أفق عامي 2030-2032″. ويضيف كوتشو موضحا، بأن الأمر ما زال منوطا بدخول إسبانيا في حوار سياسي ضروري مع المغرب، لأنه ليس عضوا في الاتحاد الأوروبي. لكن من خلال عقد اتفاق خاص، يمكن تمرير المسألة. وبما أن المغرب يعد حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، علينا أن ننتظر لنرى ما هو الوضع الخاص الذي ستصبح عليه المدينتين حينها”.

وفي سعيه إلى توضيح أكثر لفكرة “السيادة المشتركة”، يرى الخبير الإسباني بأنها “وضع خاص يتم إضفاءه على منطقة خاصة أو منطقة تم إلحاقه بطريقة خاصة (ببلد معين). وبالتالي ستكون السيدة المشتركة وضعا سيادة متفقا عليه، ولا علاقة له مع مفهوم المواطنة”. وفي محاولة له للضغط على المغرب لقبول الفكرة من خلال خلط الأوراق، يحذر من أن “المصالح التوسعية [كذا] للمغرب، لا تنحصر فحسب في استرجاع سبتة ومليلية والجزر الجعفرية (المحيطة بمليلية)، بل تشمل أيضا نصف الجزائر وكامل موريتانيا. هذه الأشياء يتم الإعداد لها ببطء…”

ولا يفوت المتابع للحياة السياسية والإعلامية، أن يلاحظ ترويجا مكثفا لفكرة “السيادة المشتركة” في سياق النقاش الداخلي الموجه لإعداد الرأي العام الإسباني لتقبل الفكرة. لكنه أيضا للرأي العام المغربي، الذي ما زال في غالبيته الساحقة لم يأخذ بعد فكرة بوجودها أصلا. والراجح أن الفكرة تحظى برضى المؤسسة العسكرية الإسبانية، التي تدير ملفات سبتة ومليلية والصحراء المغربية من وراء الستار، كما هو معروف.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس