الزاوية البودشيشية.. إرث صوفي عريق يواجه الصراع على الخلافة

3
الزاوية البودشيشية.. إرث صوفي عريق يواجه الصراع على الخلافة
الزاوية البودشيشية.. إرث صوفي عريق يواجه الصراع على الخلافة

أفريقيا برس – المغرب. في قرية مداغ شرق المغرب، تواصل الزاوية القادرية البودشيشية أداء دورها كإحدى أبرز المرجعيات الصوفية في العالم الإسلامي، رغم ما عرفته في الآونة الأخيرة من نقاشات مرتبطة بموضوع الخلافة بعد وفاة الشيخ جمال الدين القادري. وقد أعاد هذا الوضع تسليط الضوء على تاريخ المؤسسة ومسارها في التوفيق بين مقتضيات العهد الروحي الموروث ومتطلبات الحكمة العملية في الحفاظ على وحدة الصف.

شهدت الزاوية القادرية البودشيشية في الآونة الأخيرة جدلا داخليا حول مسألة الخلافة بعد وفاة الشيخ جمال الدين القادري. فبينما أكدت الوصايا المكتوبة انتقال المشيخة إلى نجله الأكبر منير القادري بودشيش، برزت أصوات داخلية دعت إلى إشراك أخيه الأصغر معاذ في التدبير.

وفي خضم هذه التجاذبات، أقدم منير على خطوة غير متوقعة، حين أعلن تنازله عن المشيخة لصالح أخيه، في قرار فسّرته مصادر مقربة بأنه تضحية من أجل الحفاظ على وحدة الصف الروحي وتحصين المؤسسة ضد أي انقسام قد يستغله خصومها.

جذور تاريخية وأبعاد وطنية

تعود جذور الزاوية إلى الطريقة القادرية التي أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني. وقد ارتبط لقب «البودشيشية» بالشيخ علي بن محمد الذي كان يطعم الفقراء « الدشيشة » زمن المجاعات، ليؤسس نهجا يجمع بين التربية الروحية والمسؤولية الاجتماعية.

وعلى مر التاريخ، لم تقتصر الزاوية على كونها فضاء للذكر والتعبد، بل شكلت حصناً للقيم الوطنية، إذ احتضنت المقاومين ضد الاستعمار الفرنسي، وبقيت سنداً للدولة المغربية وثوابتها، وعلى رأسها إمارة المؤمنين.

إقرأ أيضا: وداع مهيب.. مراسم تشييع جثمان شيخ الطريقة القادرية البودشيشية

ومنذ نشأتها، جمعت الزاوية بين التربية الروحية والعمل الاجتماعي، كما شكلت فضاء للذكر ومأوى للمقاومين ضد الاستعمار الفرنسي. وظلت وفية للثوابت الوطنية، وفي مقدمتها مؤسسة إمارة المؤمنين، وهو ما جعلها تحافظ على مكانتها داخل النسيج الديني المغربي.

من الشيخ حمزة إلى الشيخ جمال: بناء إشعاع عالمي

عرفت الزاوية منعطفا حاسما مع الشيخ حمزة القادري بودشيش (1972-2017)، الذي نقلها من بعدها المحلي إلى فضاء عالمي. فقد استقطبت آلاف المريدين عبر أوروبا وأمريكا وإفريقيا، وأرست هوية واضحة تقوم على التربية الروحية والابتعاد عن العمل السياسي الحزبي، في قطيعة مع محاولات استثمارها في مشاريع سياسية. هذا الخيار شكل قاعدة لهوية الزاوية الحديثة، وجعلها حصناً ضد اختراقات الإسلام السياسي.

بعد رحيل الشيخ حمزة في يناير 2017، تولى ابنه الشيخ جمال الدين القيادة، مكرسا نهج والده، ومحققاً قدراً كبيراً من الاستقرار.

عمل جمال الدين على ترسيخ البناء الداخلي للطريقة وتعميق التربية الروحية، مع الحفاظ على التوازن بين الأصالة والانفتاح، والالتزام بثوابت الدولة واستقلالية القرار الروحي.

منير القادري: تكوين أكاديمي وإشعاع فكري

أعلن الشيخ جمال الدين، قبل وفاته، وصيته بانتقال المشيخة إلى نجله الأكبر، منير القادري بودشيش. ويجمع الأخير بين التكوين الصوفي العريق والتكوين الأكاديمي الحديث، إذ حصل على شهادات عليا ودكتوراه من جامعات مغربية وفرنسية مرموقة. وقد أطلق مبادرات بارزة مثل «الملتقى العالمي للتصوف» بمداغ، الذي يحظى برعاية ملكية ويستقطب آلاف الباحثين والمريدين سنويا.

وهكذا أسهم منير القادري في تجديد خطاب الزاوية، وربط التصوف بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتحويلها إلى فضاء للحوار والتبادل الفكري.

الخلافة وروح التضحية

رغم وضوح الوصية التي أعلنت أن منير هو «حامل السر» بعد والده، فقد برزت خلافات عائلية بشأن القيادة.

وأمام هذا الوضع، أعلن منير تنازله لصالح أخيه الأصغر معاذ، في خطوة فسرتها مصادر مقربة بأنها تضحية من أجل وحدة الصف وتحصين المؤسسة ضد أي شرخ داخلي قد يستغله خصومها. هذا القرار عُدّ تعبيراً عن حكمة عملية تستهدف الحفاظ على اللحمة الروحية وتجنب الانقسام.

رسالة ولاء وثبات

عقب وفاة الشيخ جمال الدين، رفعت عائلة وشرفاء الطريقة رسالة إلى الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، جددوا فيها الولاء للعرش العلوي والتمسوا رعاية الملك للخليفة الموصى به.

واستندت الرسالة إلى وصايا مكتوبة من الشيخين حمزة وجمال الدين، مؤكدة أن الخلافة تستند إلى وصية موثقة وسر رباني متوارث.

نحو مرحلة جديدة

اليوم، تقف الزاوية البودشيشية على أعتاب مرحلة جديدة تؤكد من خلالها أن قوتها لا تكمن فقط في عدد مريديها أو إشعاعها العالمي، بل في قدرتها على حماية وحدتها الداخلية وصون إرثها الروحي.

ورغم التحديات، تظل الزاوية وفية لنهجها القائم على الاعتدال، ومتشبثة بولائها لثوابت الأمة المغربية تحت القيادة الروحية والسياسية لمؤسسة إمارة المؤمنين.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس