أفريقيا برس – المغرب. في عالم الفيزياء الفلكية، تُعتبر المادة المظلمة واحدة من أعقد الألغاز التي حيّرت العلماء لعقود. إنها مادة خفيّة لا تُرى ولا تُصدر ضوءاً، ومع ذلك تسهم في تكوين ما يقارب 85% من كتلة الكون من حولنا.
لكن تلك المادة لا تنفك عن زيادة غرابتها يومًا بعد يوم. وللمرة الأولى، اقترح فريق من الباحثين في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد الأميركية أن هذه المادة الغامضة قد تمتلك القدرة على تحويل بعض الكواكب الغازية العملاقة، تلك التي تشبه المشتري مثلا أو تكون أكبر، إلى ثقوب سوداء كوكبية.
وتفتح الدراسة، المنشورة في دورية “فيزيكال ريفيو دي” حديثًا، نافذة جديدة في البحث عن المادة المظلمة، إذ لا تقتصر أهميتها على الإجابة عن سؤال ممَّ يتكوّن الكون؟ بل تمتد إلى إعادة صياغة فهمنا للكواكب خارج المجموعة الشمسية وربطها بمصير كوني درامي يفنيها عن آخرها.
ويقول مهرداد فوروتان-مِهر، الباحث في قسم الفيزياء والفلك بجامعة كاليفورنيا ريفرسايد، والمؤلف الرئيسي للدراسة -في تصريحات للجزيرة نت- أن التنبؤات الرئيسية لهذه الدراسة تتمثل في “احتمال تكوّن ثقوب سوداء بحجم الكواكب مع انبعاث إشعاعات عالية الطاقة”.
ويضيف “سيكون اكتشاف أيٍّ منهما صعبًا للغاية، لكن البعثات المستقبلية، مثل تلسكوب رومان الفضائي، قد تُساهم في ذلك من خلال البحث عن كلٍّ من الكواكب الخارجية والثقوب السوداء المحتملة بحجم الكواكب”.
ستار الظلام
بدأ اكتشاف المادة المظلمة عام 1933 مع فريتز زويكي الذي رصد مجرات تتحرك بسرعة فائقة في أحد العناقيد المجرية التي لا تسمح لكتلتها بالتماسك، مما يشير إلى وجود مادة غير مرئية تؤثر على حركتها.
وفي سبعينيات القرن الماضي، قدمت عالمة الفلك الأميركية الراحلة فيرا روبين أدلة إضافية باكتشافها أن النجوم بالمجرات الحلزونية تدور بسرعات أعلى من المتوقع، حتى عند حوافها، مما يتطلب قوة جذب أكبر مما توفره الثقوب السوداء والنجوم النيترونية. وأشار هذا الدليل إلى المادة المظلمة كنوع جديد من الجسيمات الأساسية، على الرغم من أن طبيعتها الدقيقة ظلت غامضة.
ويشرح مِهر بأن “المادة المظلمة نوع غير مرئي من المادة موجود في كل مكان بمجرتنا، وتزداد كثافتها كلما اقتربنا من مركز المجرة. ومع حركة أجسام الكواكب العملاقة وغيرها من الأجسام الكونية، تعمل تلك الأجسام كشبكة تلتقط جسيمات المادة المظلمة على طول مسارها”.
وقد تصطدم هذه الجسيمات الملتقطة بذرات الكوكب والتي معظمها من الهيدروجين والهيليوم، فتفقد جزءاً من طاقتها وتظل عالقة داخل الكوكب بدلاً من العودة إلى الفضاء. ومع مرور الزمن، يتجمع المزيد منها في قلب الكوكب، مكوِّنة كتلة كثيفة قد تنهار في النهاية لتشكل ثقباً أسود صغيراً جداً.
ويتابع مِهر “إذا تراكمت كمية كافية من المادة المظلمة في مركز الكوكب، فقد يتكوّن ثقب أسود أولي. ومن تلك اللحظة، قد يحدث أحد سيناريوهين: إما أن ينمو الثقب الأسود ويتغذى على مادة الكوكب حتى يلتهمه بالكامل كالطفيليات، ليترك وراءه ثقبًا أسودًا بنفس كتلة الكوكب الأصلي تقريبًا، أو أن يتبخر تدريجياً”.
ساحة الصيد الكونية
تلعب الجاذبية الدور الأساسي في هذه العملية. يقول مِهر “تسقط جسيمات المادة المظلمة داخل الكوكب بفضل الجاذبية، وبمجرد دخولها تصطدم بجزيئاته وتفقد طاقتها. وإذا فقدت سرعتها، فإنها تبقى محبوسة في الكوكب، وهذا ما نسميه المادة المظلمة الأسيرة”.
بحسب الدراسة، تُعد الكواكب الخارجية أهدافاً مثالية لدراسة هذه الظاهرة لعدة أسباب. أولاً لأنها أجسام حديثة نسبياً من حيث الاكتشاف، وأعدادها المُكتشفة في ازدياد هائل بفضل التلسكوبات الحديثة، مما يوفر “مختبراً كونياً” واسع النطاق، وثانياً الكواكب الغازية العملاقة مثل المشتري وأشباهه باردة نسبياً ولا تحتوي على تفاعلات نووية نشطة في نواتها.
ويضيف مِهر أن “الكواكب الخارجية مثالية لهذه المهمة. على عكس النجوم أو الأقزام البيضاء أو النجوم النيوترونية التي تكون حارة جداً، وإن أي تسخين إضافي في الكواكب الباردة سيكون أسهل في التمييز، وربما يشير إلى تبخر ثقوب سوداء صغيرة ناتجة عن المادة المظلمة”.
وهناك سبب رئيسي آخر هو حجم الثقوب السوداء المتكونة. وإذا حوّلت المادة المظلمة نجمًا أو قزمًا أبيض إلى ثقب أسود، فسيكون ضخمًا، ومشابهًا للثقوب السوداء الأخرى المعروفة، ولن تُوفر مراقبته الكثير من المعلومات الجديدة حول المادة المظلمة. أما إذا تحوّل كوكب خارجي إلى ثقب أسود، فسيُنتج ثقبًا أسود أصغر بكثير، وبحجم كوكب.
ويعلق مِهر بقوله “ستكون مراقبة مثل هذا الثقب الأسود (الناتج عن التهام المادة المظلمة للكوكب) مثيرة للاهتمام للغاية، حيث لم تُرصد ثقوب سوداء بحجم كوكب حتى الآن. وكان يُعتقد أن مثل هذه الثقوب السوداء الصغيرة لم تتشكل إلا بدايات الكون، ويقدم نموذجنا طريقة بديلة لتكوّن ثقب أسود بهذا الحجم”.
ما الإشارات التي يمكن أن يلتقطها الفلكيون؟
يعتمد الباحثون على الإشارات الكونية التي قد تتركها عملية تحول الكواكب الغازية إلى ثقوب سوداء بفعل تراكم المادة المظلمة لرصد الحدث عبر 3 علامات رئيسية. أولها حجم الثقوب سوداء، فإن كانت صغيرة بحجم الكواكب فهذا يدل على أن المادة المظلمة وراءه. وثانيها انبعاث إشعاعات عالية الطاقة ناتجة عن تبخر الثقوب السوداء عبر عملية “إشعاع هوكينغ”.
وقد لُقب إشعاع هوكينغ بهذا الاسم نسبة للفيزيائي ستيفن هوكينغ الذي اقترح في سبعينيات القرن الماضي أن الثقوب السوداء ليست سوداء بشكل كامل. فوفقاً لميكانيكا الكم، الفراغ حول أفق الحدث، وهي النقطة الحرجة التي يسقط بعدها كل شيء داخل الثقب الأسود، ليس فارغاً فعلياً، بل يمتلئ بجسيمات افتراضية تظهر وتختفي باستمرار.
وأحياناً، تنقسم تلك الجسيمات عند حافة الثقب الأسود إلى جسيم يسقط داخل الثقب، وجسيم آخر يهرب إلى الخارج. وهذا يعني أن الثقب الأسود يفقد جزءاً من كتلته تدريجياً عند أفق الحدث بهروب تلك الجسيمات على شكل إشعاع حراري، وهذا ما يُسمى إشعاع هوكينغ. وكلما كان الثقب الأسود أصغر حجماً تبخر بسرعة أكبر وأطلق إشعاعاً أكثر قوة بسبب ضعف قدرته على سحب الجزيئات.
وتشير تارا فيذروف الباحثة في قسم علوم الأرض والكواكب في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد، والمشاركة في الدراسة، إلى دور التلسكوبات الحالية والمستقبلية في رصد هذه العلامات فـ”قد تعاني بعض الكواكب من تسخين زائد نتيجة عملية تبخر الثقوب السوداء. ومن خلال قياس درجات حرارة الكواكب باستخدام تلسكوبات مثل جيمس ويب ورومان، يمكننا مقارنة النتائج مع التوقعات النظرية. وإذا وُجدت كواكب أكثر سخونة من المتوقع، فقد يكون أحد التفسيرات المحتملة وجود ثقب أسود داخلي يتبخر”.
وقد استخدم الباحثان نماذج رياضية وفيزيائية تصف كيف يمكن لجسيمات المادة المظلمة أن تتجمع داخل الكواكب الغازية العملاقة. واعتمدا على محاكاة ومعادلات للتنبؤ بتلك النتائج، لكن رصد تلك الثقوب السوداء داخل الكواكب في الواقع أمر آخر. ويؤكد مِهر “حتى غياب هذه الإشارات سيكون مفيداً، لأنه يساعد في استبعاد بعض النماذج الخاصة بالمادة المظلمة فائقة الكتلة”.
رؤية الظلام
المحاولات الأرضية لرصد جسيمات المادة المظلمة فائقة الكتلة تواجه تحديات ضخمة، إذ إن تدفقها قليل جداً وقد يتشتت معظمها في الغلاف الجوي قبل الوصول إلى أجهزة الكشف. ويقول مِهر إن “الكواكب التي بحجم المشتري أكبر بكثير من الأرض، وتستطيع أن تجمع مادة مظلمة أكثر بمرور الزمن، خصوصاً إذا كانت قريبة من مركز المجرة حيث تزداد كثافة المادة المظلمة”.
كما أن إحدى النتائج الأكثر إثارة التي توصل إليها الباحثون أن بعض الثقوب السوداء يمكن أن تتشكل في أقل من 10 أشهر فقط، مما يفتح احتمالية أن تكون العملية دورية. ويعلق مِهر بأنه “قد يتشكل ثقب أسود في فترة قصيرة تصل إلى 10 أشهر، لكنه سيتبخر سريعاً مطلقاً دفعات من الجسيمات عالية الطاقة. إحدى طرق اختبار هذه الفكرة هي مراقبة كوكب واحد لفترة طويلة ورصد ما إذا كان يُظهر انبعاثات دورية”.
ويشير الباحثون إلى أن تلسكوب نانسي غريس رومان، المزمع إطلاقه قريباً، قد يكون أداة محورية لرصد كل من الكواكب الخارجية والاحتمالات المثيرة لوجود ثقوب سوداء بحجم الكواكب. كما يمكن أن تقدم بعثات أخرى، مثل مرصد العوالم الصالحة للسكن، بيانات قيّمة لرصد الحرارة غير المبررة في الكواكب الباردة.
وبينما لا تزال هذه الفرضية نظرية تماما وفي بداياتها، لكنها بلا شك تقدم إطاراً جديداً لدراسة المادة المظلمة من خلال الكواكب الخارجية. وإذا ثبت أن بعض هذه الكواكب تتحول فعلاً إلى ثقوب سوداء صغيرة، فإن ذلك لن يفتح باباً لفهم طبيعة المادة المظلمة فحسب، بل سيعيد أيضاً صياغة تصورنا للكواكب ومسارات تطورها ولطريقة تشكّل الكون ذاته.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس