المغرب: رغم الرفض الشعبي العارم.. التطبيع ما يزال “بخير”!

24
المغرب: رغم الرفض الشعبي العارم.. التطبيع ما يزال
المغرب: رغم الرفض الشعبي العارم.. التطبيع ما يزال "بخير"!

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. لم يهدأ غليان الشارع في المغرب ولم يفتر، منذ انطلاق “طوفان الأقصى” نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر الماضي، تضامنا مع القضية الفلسطينية. فقد خرج المغاربة عن بكرة أبيهم رجالا ونساء وكبارا وصغارا، في عشرات المدن والقرى المنتشرة على امتداد الجهات الأربع للوطن، متضامنين ومحتجين ومطالِبين بإيقاع وزخم أكثر من أي شعب عربي وإسلامي آخر، حتى قال البعض إن “هوى الشارع في المغرب ما يزال كما كان دائما نبضه فلسطيني”. وبقدر ما تضامنوا مع غزة الشهيدة على امتداد شهور المأساة الستة، بقدر ما كان مطلبهم الأبرز صارخا بقوة: «أوقفوا التطبيع مع الكيان!».

لكن يبدو أن تنزيل هذا المطلب الشعبي ليس واردا، على الأقل في الأمد المنظور. فالتعاون بين المغرب والكيان أخذ بعدا استراتيجيا، والتقارير الدولية تكشف بأن جهود التطبيع التي شملت كل مجالات التعاون، قد بلغت أوجَها العام الماضي…

“مكتب الاتصال الإسرائيلي” في الرباط مغلق حاليا. لكن إغلاقه لم يكن تلبية لمطلب النشطاء المغاربة المناهضين للتطبيع، بل لدواعي “أمنية”، كإجراء احترازي مؤقت تحسبا لأية أعمال انتقامية محتملة، قد يتعرض لها ردا على اغتيال مسؤولين إيرانيين كبارا في دمشق.

إن هذا الإجراء لا علاقة للسلطات المغربية به، بل اتخذه قسم الأمن في وزارة الخارجية الإسرائيلية بالتنسيق مع جهاز المخابرات العسكرية في إسرائيل “الشاباك”، بحسب ما أفاد الإعلام العبري. وقد تم التأكيد على أن هذا الإغلاق “مؤقت” ويشمل ما لا يقل عن 28 بعثة دبلوماسية إسرائيلية حول العالم. ومنذ بدء هذه الاضطرابات في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أمرت وزارة الخارجية الإسرائيلية موظفيها المتمركزين في الرباط بمغادرة مقر “مكتب الاتصال”، بسبب المظاهرات والحراكات المناهضة لإسرائيل المؤيدة لفلسطين والمعادية لإسرائيل، التي ما فتئت تعرفها مدن وقرى المغرب، خصوصا بعدما عادت إلى شوارع المغرب مشاهد إحراق علم الكيان ثم دوسه بالأقدام الغاضبة.

في ظل هذا الوضع المتوتر، يعيش المغرب منذ نصف عام مفارقة كون الشارع رافضا لأية علاقات بين بلاده وإسرائيل، لكن بالمقابل تتعامل الدولة المغربية بـ”واقعية سياسية realpolitik مطلقة” مع الكيان، كما يقول المقربون منها، بما يحقق مصالحها العليا، وبدون أي تدخل –حتى الآن– لوقف الاندفاع العفوي للشارع للاحتجاج.

الشارع يضغط لإلغاء التطبيع

بالنسبة إلى المناهضين للتطبيع، فإن الشارع المغربي قد “قال كلمته” وبالتالي فإن على الدولة المغربية أن تلغي اتفاقية التطبيع وتغلق مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب والإسرائيلي في الرباط. عندما قرر المغرب في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2000 وقف التطبيع مع الكيان إسرائيل، وإغلاق مكتب الاتصال المغربي في تل أبيب ومكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط. بعدما كانت شوارع الرباط قد غصت قبل أسبوعين من ذلك، بعشرات الآلاف من المواطنين المغاربة، الذين خرجوا للتظاهر غاضبين احتجاجا على قتل الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين. وطالبوا في شعاراتهم بإغلاق مكاتب الاتصال، كما دعوا الحكومة المغربية إلى فتح باب الجهاد لنجدة الشعب الفلسطيني.

لكن السلطات العليا في المغرب تنظر بعد 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 إلى التطبيع مع الكيان، باعتباره ضرورة تمليها مصالح البلاد العليا، ضمن رؤية براغماتية تنهج الواقعية السياسية. وضمن هذه الرؤية، يتم إظهار المغرب كحالة متفردة في محيطه العربي والإسلامي، حيث يوجد بالكيان حوالي 800 ألف إسرائيلي تعود أصولهم إلى المملكة، ويعتبرون ثاني أكبر جالية بعد اليهود الروس. وحيث إن المغرب لا يُسقط الجنسية عن مواطنيه بسهولة، فإن أفراد تلك الجالية اليهودية مزدوجو الجنسية أي مغاربة وإسرائيليون. ولذلك تعتبر حكومات الكيان التطبيع مع المغرب “أكثر جدية” من الآخرين، حيث إن اليهود المغاربة الإسرائيليين متشبثون بجذورهم المغربية ولم تنقطع علاقاتهم مع بلد الآباء والأجداد. لكن الناشط سيون أسيدون له رأي آخر، إذ يعتبر بأن «قانون الجنسية لعام 1958 واضح تماما: فكل من يعمل في جيش دولة أجنبية يفقد جنسيته المغربية». وهو حال كثيرين من أفراد “الجالية المغربية” في الكيان.

وذلك واحد من الأسباب التي دفعت أسيدون إلى التحذير في تصريحات صحافية من أننا «نوجد في خطر استراتيجي حقيقي». فمن أجل تنشيط المبادلات التجارية، يملك الاحتلال شركة نقل بحري تسمى ZIM أنشأت فرعا مغربيا تحت اسم ZIMAG، الذي ينظم النقل التجاري البحري بين مينائي حيفا والدار البيضاء وبين حيفا وطنجة. وهذه الشركة هي المسؤولة عن المعدات العسكرية لجيش الاحتلال. وفي سياق ذلك وفد مستثمرون من الاحتلال وقاموا بشراء أو استئجار أراضي شاسعة، لزراعة أنواع فاخرة من التمور في واحة الرشيدية (مدينة صحراوية بجنوب شرق المغرب) ومنطقتها. ويأتي آخرون للاستثمار في زراعة فاكهة الأفوكادو في سيدي قاسم (شمال غرب). وهذا النوع من الاستثمار الزراعي خطير لأنه يستنزف كل الموارد المائية من المياه الجوفية كما يستنزف تربة هذه المناطق.

كما أن “نتافيم” التي هي شركة إسرائيلية متخصصة في الزراعة تشتغل في المغرب منذ عدة سنوات، قد جعلت منه رأس جسر للوصول إلى مناطق أخرى في القارة الأفريقية. وعلى هذه المستويات يمكن الحديث عن تغلغل الصهيونية والاحتلال في المغرب وأفريقيا. بل إن أسيدون يرى في التطبيع العسكري نفسه « خيارا خطيرا للغاية. ففي حالة اندلاع نزاع عسكري مع إيران، فإن المغرب سوف ينجر إلى صراع خطير. لقد تمخض اتفاق التطبيع عنه اتفاق تنسيق عسكري، لا ينص على شراء الأسلحة من الكيان فحسب، بل على التنسيق أيضا. ليس لدينا تفاصيل هذه الاتفاقية، وربما في يوم من الأيام سيطلبون (الإسرائيليون) منا أن نرسل جنودا!».

لهذه الأسباب ولأخرى كثيرة غيرها، فإن “اتفاقية أبراهام” باتت على المحك بشكل متزايد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بسبب الحرب في غزة، حيث أصبحت حناجر المغاربة تصدح بإلحاح كبير بشعارات «فلسطين أمانة والتطبيع خيانة» و«الشعب يريد إسقاط التطبيع». وبحسب استمزاج للرأي لـ “الباروميتر العربي”، فإن 31% فقط من المغاربة يؤيدون إقامة علاقات مع الكيان. وإلى حدود اندلاع معركة طوفان الأقصى، كان تسامح المغربي العادي مع الحضور اليهودي في الفضاء العام، قد بلغ أن يهودا متدينين قدموا للسكن في الأحياء الشعبية للمدن المغربية، وصاروا يتجولون في حواريها وأسواقها بلحاهم وطرابيشهم التي تكشف هويتهم الدينية، من دون أن يعترض سبيلهم أحد. وهو أمر يصعب تصور تكراره اليوم وغدا بعد الذي جرى ويجري في غزة.

حملات لمقاطعة الكيان وداعميه

بالموازاة مع الاحتجاج في الساحات وهو مهم بدون شك، ينشط المجتمع المدني المغربي بقوة في مجال آخر من مجالات التضامن مع فلسطين. ويتعلق الأمر بحملات لمقاطعة الكيان وداعميه في المغرب وفي العالم، تكون إما مؤطرة من طرف نشطاء فاعلين معروفين أو منظمات غير حكومية. وفي هذا الإطار، تقود “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل” المعروفة اختصارا باسم “بادس”، كل رمضان منذ 2015، حملات تدعو إلى مقاطعة التمور الإسرائيلية المصدر. ولكسب تجار التمور والمستهلك المغربي، تصر الحملات على تذكيرهم بأن بيع التمور الإسرائيلية يمول الاحتلال الإسرائيلي ويمول ميزانية الدولة الصهيونية، التي نعرف مكانة الجانب العسكري في ميزانيتها. ويكشف منسق الحركة في المغرب سيون أسيدون بأن هذه الحملات تلاقي منذ انطلاقها نجاحا هاما. وسجل رمضان العام 2019 أكبر نجاح لحملة مقاطعة التمور الإسرائيلية بالمغرب، حيث استهدفت الحملة قائمة تضم أسماء وشعارات 20 علامة تجارية إسرائيلية تسوق التمور بالمغرب، أعلنت بعدها بادس عن نجاح حملتها بعد مقاطعة شاملة.

وتقول “بادس” إنها تقود خمس حملات في الوقت الراهن. الأولى هي حملتها “التاريخية” التي تستهدف مقاطعة تمور الاحتلال، والثانية تتعلق بالعلامة التجارية الرياضية “بوما” التي تعد موردا للمعدات الرياضية لفريق الاحتلال وللمنتخب المغربي. أما الحملة الثالثة فهي موجهة ضد سلسلة الأسواق التجارية “كارفور”، والحملة الرابعة هي ضد العلامة التجارية “أكسا” الشركة الفرنسية المتواجدة في المغرب كشركة للقروض والتأمينات، بينما تتواجد في الكيان من خلال صندوقها الاستثماري في شركة المنتجات العسكرية المتطورة “إلبيت سيستمز”، التي بالمناسبة أعلنت مؤخرا عن إقامة مصنعين في المغرب في مدينتي سطات والدار البيضاء.

ويكشف المناهضون للتطبيع أن علامة “كارفور” تدعم الكيان على عدة أصعدة. فهي تقيم علاقات اقتصادية وثيقة جدا مع مقاولتين إسرائيليتين تساهمان في الاستيطان بالضفة الغربية المحتلة. كما تدعم كارفور جيش الاحتلال ماديا، حيث سبق أن أرسلت طرود مواد غذائية مع رسائل دعم للجنود الإسرائيليين غداة العدوان على غزة في 2014، الذي خلف 2000 قتيل وآلاف الجرحى والمعطوبين الفلسطينيين. كما تقوم كارفور بالتسويق العالمي لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، مخالفة بذلك القانون الدولي.

وتتواجد مجموعة كارفور بالمغرب عبر ممثلها “لابل في المغرب”، الذي يتوفر على 70 سوقا تجاريا ممتازا تشغل 7000 شخص. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، نظمت “بادس” سلسلة احتجاجات أمام بعض أسواق كارفور داعية المغاربة إلى مقاطعتها تم التفاعل معها بإيجابية.

كما تستهدف الدعوات إلى المقاطعة الشعبية شركة الاتصالات الفرنسية “أورانج”، وعملاق الأمن البريطاني G4S، والمجموعة الفرنسية “فيوليا” التي تشتغل في قطاع النظافة بعدد من المدن المغربية بينها الرباط. وهذه الشركات إلى جانب أخرى تجري مقاطعتها، وردت في تقرير الأمم المتحدة 2016، الذي كشف عن 112 شركة متعددة الجنسيات أوروبية وأمريكية، تخرق القانون الدولي بممارسة أنشطتها في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية.

في أعقاب الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، انطلقت حملات عفوية على شبكات التواصل الاجتماعي، تدعو المغاربة إلى مقاطعة واسعة لمختلف العلامات التجارية الغربية التي تدعم الكيان، وفي مقدمتها شركات الوجبات السريعة العملاقة ماكدونالدز، وسلسلة المقاهي ستاربكس، ومطاعم كنتاكي. وتوسعت سريعا حملات المقاطعة الشعبية لتشمل عشرات الشركات والمنتجات العالمية مثل شركة “زارا” للألبسة الجاهزة، مما دفع المستهلكين إلى اختيار البدائل المحلية. وذكرت تقارير أن أغلب تلك العلامات سجلت انخفاضا ملحوظا في قاعدة عملائها في المغرب وعبر العالم، مما يعكس الغضب والإدانة واسعة النطاق للحرب القاتلة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

وقبل أسابيع قليلة، ضجت شبكات التواصل الاجتماعي بحملة جديدة استهدفت أكبر علامة تجارية للمعجنات بالمغرب، شركة “داري” التي تتواجد منتجاتها (خصوصا الكسكس المغربي الشهير) بحوالي 60 دولة عبر العالم، بينها الكيان. وأمام قسوة الحملة التي كشفت بأن الشركة وقعت عقدا ضخما وطويل الأمد لتزويد الاحتلال بمنتجاتها، خرج مالك الشركة ببيانات وأشرطة فيديو يقول إن شركته مغربية ونافيا بشكل قاطع كونه يتعامل مع الكيان. وكذلك فعلت شركات أخرى تضررت كثيرا من حملات المقاطعة كـ “ماكدونالد”، التي قالت في بيان إن فرعها في المغرب هو شركة مغربية، وبالتالي لا علاقة له بإسرائيل. ومع ذلك، لا تزال المقاطعة تكتسب زخما مدهشا، حيث أفادت التقارير بأن حملات المقاطعة للشركات المغربية والأجنبية المتعاملة مع الكيان تعرضها لضرر جدي. وعلى سبيل المثال، ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت سلسلة المقاهي الأمريكية الشهيرة “ستاربكس” والعلامة التجارية السويدية للملابس الجاهزة H&M قرارهما بوقف أنشطتهما في المغرب. وكشفت التقارير عن كون الفرع المغربي لشركة الامتياز الكويتية العملاقة “الشايع المغرب”، صاحبة حقوق الامتياز للشركتين يواجه خسائر بسبب المقاطعة التجارية التي استهدفه بها المغاربة تضامنا مع فلسطين.

وتشهد حركة “بادس” التي تعتمد على حملات طويلة الأمد اهتماما شعبيا قويا، حيث كشف مسؤولوها أنها تتلقى طلبات للعضوية من جميع أنحاء المغرب. لكن الشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو أن الصغار وكبار السن هم أكثر الذين يقاطعون من منطلق أخلاقي شخصي، كتعبير منهم عن رفضهم لقرار السلطات المغربية إقامة علاقات مع الاحتلال. وتقول الحركة إن عملية طوفان الأقصى أعطت حافزا كبيرا للشباب للاهتمام بفلسطين من جديد، وأعادت القضية الفلسطينية إلى مركز السياسة المغربية والدولية.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس