مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. لا يتوقف عالم الاجتماع السياسي والمفكر المغربي د. حسن قرنفل عن تقليب الأسئلة الضرورية، التي تفرضها مواكبته للتحولات التي يعيشها المجتمع المغربي، في سيرورته وفي شتى المجالات، باعتباره مثقفا متعدد المشارب وغزير الإنتاج. فيتصدى لها بالتفكير والدراسة بالكثير من العمق لكن وفقا لأسلوب سهل ممتنع، يُخرجها من ضيق المجال الأكاديمي إلى أفق أرحب يجعل استيعاب مضامينها متاحا للقارئ العادي.
وعلى الرغم من أن البعض يعتبره من أبرز المراقبين والمحللين المغاربة لتطور المسلسل الانتخابي، الذي درَسه على مدى عقود، فإن منجز الأستاذ الدكتور قرنفل يتنوع، في الواقع، بين البحث الاجتماعي، والسياسي، والرواية، وسواها من الحقول العلمية والإبداعية الأخرى. وعندما تجالسه يترك لديك انطباعا بأنه يرفض أن يُحصَر ضمن نطاق بحثي معين، إذ يمارس حريته في التفكير والبحث دون قيود. ويُشعرك بأن معينه العلمي والإبداعي بعيد عن أن ينضب..
في الحوار التالي، نتوقف مع د. قرنفل عند إشكاليات ظاهرة الفقر، التي خصص لها (حتى الآن) ثلاثة مؤلفات علمية هامة، وهي: “الفقر: من الاحسان الى التنمية البشرية” (الصادر في 2018)، و”أصوات الفقراء” (2021)، و”من الفقر إلى التسول”(2024).
الفقر ظاهرة عالمية رافقت البشرية منذ فجر التاريخ. لكنه يختلف، دون شك، باختلاف البلدان والأزمنة، فالفقير في الكونغو ليس هو الفقير في اليابان على سبيل المثال.. أليس كذلك؟
صحيح، إن الفقر ظاهرة كونية حاضرة عبر الزمن والمكان، وقد عانت كل الحضارات والمجتمعات السابقة من الفقر والحرمان. وكان الفقر مرتبطا بالخصوص بقلة الموارد الطبيعية ونقص المواد الغذائية وعدم التوفر على مكان مناسب للسكن وغياب وسائل التدفئة وغير ذلك من حاجيات الإنسان الأساسية. ويمكن القول إنه لغاية عهود قريبة مضت، كانت غالبية سكان العالم يعانون من نقص كبير في هذه الحاجيات. لهذا لم يكن الفقر قضية ملحة يسعى الحكام والملوك إلى إيجاد حلول نهائية لها.
مع العصر الحديث أصبح مشكل الفقر يطرح بحدة في برامج معظم الحكومات، لأنه لم يعد مقبولا أن تظل فئات كثيرة من السكان محرومة من وسائل العيش، مع كل هذا الغنى الذي حققته الإنسانية، وكل هذا التقدم التكنولوجي الذي مكن من تحسين الإنتاج الفلاحي والمواد الغذائية. وقد زاد من حدة الموضوع وحساسيته ظهور الفوارق الكبرى بين الأفراد، حيث هنالك قلة من المحظوظين يتوفرون على ثروات فاحشة، بينما الملايين من السكان عبر العالم ما زالوا يعانون من شظف العيش.
لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن مقاييس الفقر تختلف باختلاف الدول، فقد حددت كل دولة حدا أدنى من الدخل، حين ينعدم يصنف الواقعون تحته ضمن الفقراء، وهذا يجعل من الفقراء فئات مختلفة عبر العالم. ففقراء الدول المتقدمة ليسوا هم فقراء دول الجنوب، فالأوائل يتمكنون بفضل دعم حكوماتهم ومختلف البرامج الاجتماعية التي يستفيدون منها، من تأمين حد أدنى من العيش يضمن لهم الحفاظ على كرامتهم الإنسانية. أما فقراء الجنوب فما زال بعضهم يجد صعوبات كبرى في إيجاد الطعام والملبس والإنارة والماء الصالح للشرب…
عطفا على ذلك ما هي ملامح الفقر في المغرب حاليا؟
يوجد الفقر في المغرب، بصفة عامة في المناطق الأقل نموا، وهي في غالب الأمر مناطق قروية أو شبه قروية، وفي الأحياء الهامشية في المدن الكبرى والمتوسطة، أي في المجالات التي لا تتوفر على بنيات اقتصادية واجتماعية مناسبة. وهكذا يمس الفقر بالأساس الأسر القروية والنساء على وجه الخصوص، كما يمس الأسر متعددة الأبناء العزاب، وهو أكثر قساوة بالنسبة للنساء اللائي يعشن لوحدهن. ويقيم الفقراء عموما في مساكن غير مؤهلة، حيث يقيم أكثر من نصفهم في سكن يتكون من أقل من غرفتين ويفتقد إلى عناصر الراحة. وتعتبر البطالة العامل الأول المسؤول عن الفقر والهشاشة، فالساكنة الفقيرة والهشة تضم قرابة 90 في المائة من العاطلين.
أما الفقراء الذين يشتغلون فهم يمارسون أنشطة مهنية لا تتطلب أي تكوين أو تأهيل، وتنتمي إلى القطاعات الاقتصادية الأقل إنتاجية. ويعمل معظم الفقراء في قطاع الظل، حيث كانوا قبل وضع الدولة لنظام الدعم الاجتماعي لا يتمتعون بأية تغطية اجتماعية أو صحية.
في سياق تحليله للجوع باعتباره أبرز نتيجة للفقر في بلاده، استنتج الطبيب والجغرافي البرازيلي جوشوي دي كاسترو في أربعينيات القرن الماضي في كتابه الشهير “جغرافية الجوع”، بأن «الجوع عارض بيولوجي ينبئ بوجود مرض اجتماعي».. بناء على ذلك، هل يجوز لنا أن نصف الفقر في المغرب بأنه مرض اجتماعي؟
أعتقد أن السياق اليوم مختلف بعض الشيء، فحين أصدر جوشوي دي كاسترو كتابه عن جغرافية الفقر أول مرة سنة 1951، كان العالم قد خرج من حرب عالمية دمرت البنيات التحتية والأراضي الفلاحية، وكانت معظم دول الجنوب تقع إما تحت السيطرة الاستعمارية الفعلية لبعض الدول الأوربية، أو خاضعة لتأثير الدول الكبرى، وتعاني من وضعية اقتصادية متردية، مما ترتب عنه مجاعات في كثير من المناطق في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. هذا دون الحديث عن سوء التغذية، أي نقص الفيتامينات والبروتينات الضرورية في التغذية الأساسية لعدد كبير من سكان العالم.
ومن هنا كان انخراط المنظومة الأممية في عملية البحث عن حلول فعالة، من أجل الحد من سوء التغذية ومشاكل الفقر بصفة عامة. ودون أن تكون الإنسانية قد تخلصت تماما من مشاكل الجوع وتوفير القوت لكل سكان العالم بالشكل المناسب، فإننا يمكن أن نجازف اليوم بالقول بأن الظاهرة قد تقلصت -أقصد هنا الجوع الجماعي- بشكل ملموس مقارنة مع فترة نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن هنا يمكن أن نقول بكثير من الحذر بأن الفقر لم يعد يعني اليوم بالضرورة، غياب الأكل والتغذية. فالأشخاص الذين يصنفون اليوم فقراء في كثير من الدول، يتمكنون من أخذ وجبة غذائية واحدة في اليوم على الأقل، مما يعني أن الفقر الغذائي قد اختفى بنسبة كبيرة.
ولكن تقلص الفقر الغذائي لا يعني غياب الفقر. ففقراء اليوم يحتاجون إلى وسائل عيش أصبحت ضرورية، مثل الحق في تعليم مناسب والولوج إلى مختلف أنواع الخدمات الاجتماعية، والقدرة على التنقل والحركة من مكان إلى آخر، واستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة. وهذا يعني باختصار أن شكل الفقر يختلف اليوم عن أشكاله السابقة.
يقودنا هذا إلى موضوع التأثيرات السياسية للفقر على الدولة والمجتمع، وقد سبق لك أن درستَ موضوع تأثير أصوات الفقراء في الانتخابات المغربية.. ما هي أهم الاستنتاجات التي وصلت إليها بهذا الصدد؟
إن وضعية الفقراء التي تتسم بكثير من الهشاشة والافتقار إلى وسائل العيش المناسبة، جعلتني أتساءل في هذا الكتاب، كما تفضلت، عن الطريقة التي يصوت بها الفقراء.. بمعنى: هل تؤدي وضعيتهم الاجتماعية إلى تبني مواقف راديكالية والاصطفاف إلى جانب المعارضة، وكل القوى التي تدافع في برامجها عن إصلاحات تسير في اتجاه ما يطالب به الفقراء، من رفع للأجور وتعميم للتغطية الصحية، وتوفير للشغل…؟ أم على العكس يتبنى الفقراء سلوكا مغايرا بمناسبة الانتخابات؟
وقد تبين لي، من خلال دراسة ميدانية وتحليلية لنتائج الانتخابات المحلية، في الجماعات الأكثر فقرا في المغرب بأن الفقراء لا يختلفون في تصويتهم عن باقي الناخبين، ويصوتون مثل الجماعات القروية في المغرب، على اختلاف وضعياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأن الأحزاب التي ترفع شعارات العدالة الاجتماعية وتدعو إلى مزيد من تدخل الدولة لصالح الفقراء، والتقليص من الفوارق الاجتماعية، لا تستفيد أبدا من أصوات الفقراء، حيث يفضل ناخبو الجماعات القروية الفقيرة أحزابا أخرى لا تضع هذه المبادئ والشعارات الاجتماعية ضمن أولوياتها.
ثمة تقارير صادرة عن مؤسسات دولية ترى أن المغرب شهد اتساعا لقاعدة الفقراء، بعد وباء كورونا، بانضمام فئات كبيرة من الطبقات المتوسطة، ما تعليقك على ذلك؟
صحيح، لقد اتسعت دائرة الفقراء بعد انتشار وباء كورونا، ولكن الأمر لا يقتصر على المغرب وحده، بل هَمَّ كثيرا من دول العالم. فليس من السهل أن يتوقف النشاط الاقتصادي في بلد ما لفترة تفوق الثلاثة أشهر. وهنا يجب أن نذكر بأن الدولة المغربية استمرت في صرف أجور الموظفين كاملة بالرغم من توقفهم عن العمل، بسبب الحجر الصحي المفروض. كما أن الدولة قدمت مساعدات مالية لبعض العاملين في القطاع الخاص وفق شروط محددة. وقد عمل هذا على الحد من الوقع الكارثي للوباء على السكان.
لكن مع ذلك بقيت هنالك فئات كثيرة من السكان خارج أية مساعدة ودعم، وهي التي انضمت إلى أعداد الفقراء والفئات الهشة. ويتعلق الأمر بالخصوص بالعاملين في قطاع الظل أو الاقتصاد الهامشي. فبفعل إفلات هذا القطاع من كل رقابة وتتبع فعلي من طرف مصالح الدولة، فإن العاملين فيه لا يتوفرون على أية تغطية صحية أو دعم اجتماعي، كما لا يتمكنون من التوفير والتخطيط للمستقبل. وكان من الصعب وصول الدعم إليهم، فعاشوا أوقاتا عصيبة.
وهنا يجب التذكير بأن التضامن الاجتماعي، الذي ما زال قويا في المغرب، هو الذي مكن الكثيرين من هؤلاء من تجاوز هذه الوضعية بفضل مساعدات بعض أفراد الأسرة والأقارب والجيران…
تأسيسا على ذلك، ما هي المقاربة التي يعتمدها المغرب حاليا لمحاصرة ظاهرة الفقر؟
سيكون من نافلة القول التأكيد بأن المعركة ضد الفقر، خصوصا في دول الجنوب، هي معركة طويلة الأمد وتتطلب توظيف كثير من الإمكانات وإرادة سياسية صلبة. ويرى الفاعلون السياسيون عموما، أن الرفع من إنتاج الثروات في البلاد هو الكفيل بالحد من الفقر، لأن ذلك يؤدي إلى ارتفاع الدخل وتحسين ظروف العيش، ولكنه تبين من خلال تجارب معظم دول الجنوب التي انخرطت كلها في اقتصاد السوق، أن ازدياد الثروات لا يؤدي حتما إلى القضاء على الفقر، لأن الزيادة في الإنتاج والثروة غالبا ما تكون مرفقة بارتفاع الفوارق الاجتماعية، مما يجعل من الفئات العليا في البلاد المستفيد الأكبر من ارتفاع الإنتاج، ومن هنا ضرورة تدخل الدولة من خلال سياسة اجتماعية واضحة المعالم من أجل تصحيح و إعادة توزيع الثروات، بتخصيص دعم للفقراء والفئات الهشة.
وبالنسبة للمغرب كانت الدولة بتوجهها الاجتماعي حاضرة على الدوام، إلا أن النتائج لم تكن دائما في الموعد. فمنذ الاستقلال تم خلق برامج “التعاون الوطني” و”الإنعاش الوطني” و”صندوق المقاصة”، من أجل دعم أثمنة المواد الأساسية. ثم بعد ذلك “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” التي تستجيب للتوجهات الأممية فيما يخص القضاء على الفقر، وتمكين الفقراء والشباب منهم على وجه الخصوص، من الوسائل والإمكانات التي تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم للخروج من وضعية الفقر. وفي نفس الإطار خصصت الدولة دعما للنساء الأرامل ومنعدمات الدخل ومِنَحاً لمساعدة الأسر الفقيرة على تدريس أبنائها. وقد حققت هذه التدابير والإجراءات بعض النتائج، ولكنها تبقى دون ما هو مأمول منها.
الملاحظ أن ظاهرة التسول أخذت أبعادا مقلقة في السنوات الأخيرة، هل ترتبط هذه الظاهرة بالفقر دائما؟
ارتفع فعلا عدد المتسولين بشكل كبير جدا في المغرب في السنوات الأخيرة. والتسول مرتبط بطبيعة الحال بالفقر، وهو كما أحب أن أقول «ابن غير شرعي للفقر»، بمعنى أن الفقر هو الذي يؤدي إلى التسول. ولكن الفقر لا يقود حتما إلى التسول، فهنالك بعض الفقراء يختارون الحل السهل وهو التسول، خصوصا النساء، ومما يعطي بعدا دراميا لظاهرة التسول اصطحاب النساء لأطفالهن الرضع والصغار لجلب تعاطف المارة معهن. وهنا لا بد من التأكيد على ضرورة إيجاد حلول لدعم مباشر وفعال للنساء المطلقات والأرامل، وكل الذين لا يتوفرون على أي دخل، ومعاقبة استغلال الأطفال في التسول بقوة. ويجب أيضا تحسيس المواطنين بخطورة انتشار ظاهرة التسول، وهذه عملية صعبة لأن الدين الإسلامي يحث على إعطاء الصدقات، ومن هنا ضرورة التفكير في عقلنة عملية جمع الصدقات، وخلق هيئة مستقلة للإشراف على هذه العملية وتوجيهها نحو المساعدات الاجتماعية المقننة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس