“فلسطين أمانة” تتوارثها الأجيال في المغرب

12
"فلسطين أمانة" تتوارثها الأجيال في المغرب

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. فلسطين أمانة”، هو من أبرز الشعارات التي ظلت تلهج بترديدها حناجر المغاربة، على مدى أكثر من 70 أسبوعا من التضامن مع القضية الفلسطينية؛ منذ بدء المذبحة الصهيونية القائمة في غزة في أكتوبر 2023. لكنه ليس مجرد شعار للاستهلاك السياسي، بل حقيقة راسخة لا يدرك مدى صدقها سوى المغاربة أنفسهم.

فقد يختلف المغاربة حول كل شيء بما في ذلك قضايا بلدهم، وقد “يتطاحن” اليسار والإسلاميين بلا هوادة في ساحات الجامعات المغربية؛ لكن القضية الفلسطينية توحدهم عن بكرة أبيهم. ولا عجب في ذلك، فهي قضية “مقدسة” بالنسبة إليهم وفوق كل اعتبار واختلاف..

عاد المغرب ليتصدر مشهد التضامن مع المأساة الفلسطينية نهاية الأسبوع الماضي، بعد وقفة الاحتجاج التاريخية التي رسمتها مهندسة الذكاء الاصطناعي المغربية ابتهال أبو السعد، خلال احتفال شركتها “مايكروسفت” بالعيد الفضي لتأسيسها. تلا ذلك “الموقف البطولي”، كما وصفته حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين (حماس)، خروج نساء ورجال وأطفال المغرب الأحد الماضي في مسيرة ضخمة بالعاصمة الرباط، للاحتجاج على عودة التقتيل المروع والتجويع والتعطيش الممنهج لأهالينا في غزة؛ في وقت انحسر تماما أو كاد، صوت التضامن العربي والاسلامي بعد 73 أسبوعا على شروع الكيان في اقتراف مذبحة غزة.

جغرافيا، يعد المغرب أبعد بلد عربي وإسلامي عن فلسطين. لكن وجدانيا، هو من أقرب البلدان إليها وبالتالي ثمة شعور وطني يحرك “الوعي الشقي” للمغاربة اتجاه القضية، يجعلهم يعتبرونها قضية مقدسة. فالتضامن مع فلسطين هو أقل واجب يسكن الوعي المغربي منذ “نكبة فلسطين”، وبالتالي لم تكن وقفة ابتهال ولا مسيرة الرباط للأحد الماضي، أولى محطات التضامن ولن تكون الأخيرة.

إرث تتوارثه الأجيال

تعود علاقة المغاربة بالجهاد من أجل فلسطين إلى القرن الثاني عشر الميلادي، خلال الحملة الصليبية الثانية، حينما تطوع كثير من المغاربة في جيش نور الدين زنكي وأبلوا بلاء حسنا. ويذكر التاريخ أن زنكي، كانت له فرقة مغربية متطوعة للمهمات الخاصة، وكانت أشبه بـ “القوات الخاصة” اليوم، وقد شاركت معه في مهماتٍ عسكريةٍ عديدة. وبقوا على العهد زمن صلاح الدين الأيوبي فساهموا في تحرير القدس ضمن جيوشه. وبعد تحرير المدينة، اختار العديد منهم أن يستقروا بجوار الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم الشريف، أقرب مكان من المسجد الأقصى. وعِرفانا من الأمير الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي، وقَف هذه البقعة على المغاربة، وسمي ذلك الحي من حينها باسم “حارة المغاربة” أو “حي المغاربة”.. إلى أن صادره الاحتلال الإسرائيلي في يونيو 1967، وأبعد سكانه وهدم جامع البراق وجامع المغاربة وأقام مكانهما “حائط المبكى”. لكن “باب المغاربة” وبعض الأوقاف المغربية لا تزال قائمة شاهدة على هذا التاريخ، في قلب القدس.

ولمن يرغب في الاستزادة حول موضوع الحضور المغربي في القدس خلال ذلك العهد، أن يعود إلى كتابات الرحالة العربي الشهير ابن جبير.

وبعد اطلاق حركة الكفاح الفلسطيني منتصف ستينيات القرن الماضي، انخرط كثير من الشباب المغربي في صفوف الفصائل الفلسطينية اليسارية، خصوصا الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين. وقد استشهد كثير منهم، نذكر من بينهم: مهندس الطيران الحسين بن يحيى الطنجوي الذي استشهد يوم 24 نوفمبر 1974، وعبد الرحمن أمزغار الذي استشهد في عملية داخل فلسطين المحتلة يوم 17 يونيو 1974 خلفت نحو 30 قتيلا إسرائيليا. وتضم قائمة الشهداء كذلك: الركراكي النومري الذي استشهد في جنوب لبنان يوم 25 نوفمبر 1988، والشهيد مصطفى علال قزبير الذي استشهد يوم 2 فبراير 1994 أثناء اشتباك مع قوات العدو على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وقد استرجعت الجبهة الشعبية رفاته في “عملية الرضوان”، التي أشرف عليها حزب الله في يوليو 2008 وأعيد جثمانه إلى المغرب في سبتمبر من العام نفسه.

ولا ننسى أيضا، سيدة الأعمال والصحفية المغربية نادية برادلي وأختها غيثة، اللتان قضيتا سنوات طويلة من حياتيهما أسيرتين في سجون الاحتلال، عقب مشاركتهما في عملية فدائية بطولية استهدفت مطارا في فلسطين المحتلة، في بداية سبعينيات القرن الماضي.

صوت الجيل الجديد

عندما وقع المغرب على اتفاقية التطبيع أواخر العام 2020، انتشى جزء من الطبقة السياسية والإعلام في إسرائيل بكون التطبيع مع الرباط له معنى “مختلف” عن باقي الدول العربية الأخرى، لأسباب معروفة لن نتوقف عندها من جديد. فقد كان صمت المغاربة ─رغم المواقف السياسية المعبر عنها─ دليلا زائفا على رضاهم إلى حين. وظن كثيرون حتى هنا في المغرب، أن زخم التضامن مع “الهَمّ الفلسطيني” قد تلاشى مع طول المأساة الفلسطينية.

غير أنه بمجرد انطلاق “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، خرج المغاربة بمئات الآلاف في عشرات المدن والبلدات بحماس منقطع النظير، ما دفع إعلام الكيان إلى القول بخيبة: “أنظروا إلى هؤلاء المغاربة الذين كنا نقول إنهم متقبلون للتطبيع معنا، وهم يشتموننا ويحرقون علمنا ويدوسونه بالأقدام في الشوارع!”.. فأدرك الجميع أن حب فلسطين يجري مجرى الدم في عروق الشعب المغربي، ولا سبيل إلى محوه.

ولذلك ليس مستغربا أن تقوم مهندسة البرمجة المغربية ابتهال أبو السعد، ذات الستة والعشرين ربيعا، بقلب الطاولة على مؤسسي ومالكي شركة مايكروسوفت التي كانت تشتغل فيها، وتفضح تورطها في قتل أطفال غزة. كانت تشتغل في ظروف يحلم بها ملايين شباب العرب والعالم، وتحصل على راتب يسيل اللعاب لكنها أن تخسر كل ذلك وتربح ضميرها وإنسانيتها. أن تنتصر لفلسطين، التي يورث المغاربة أبناءهم حبها جيلا بعد جيل..

والواقع أن ابتهال ليست حالة فريدة في ما فعلت. فقبلها، ومنذ عام بالضبط، قدمت الدبلوماسية الأمريكية المغربية الأصل هالة غريط استقالتها من وزارة الخارجية الأمريكية، بمبرر أنها لم تعد قادرة على الدفاع عن سياسة إدارة بايدن بسبب الحرب في غزة، وأنها “لم تتوقع هذه النهاية أبدا”. هالة التي نشأت في نيفادا بكاليفورنيا، ودرست الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن، انضمت إلى وزارة الخارجية الأمريكية بعد تخرجها مباشرة من الجامعة، متحدثة باسم الوزارة باللغة العربية.

لكن مع بداية الحرب في غزة في شهر أكتوبر 2023، وفي غمرة الاحتجاجات الطلابية في كل أنحاء الولايات المتحدة، توقفت غريط عن إجراء محادثات مع الصحافة العربية، لأن النقاط التي طلب منها ترديدها “كانت مستفزة جدا”، حيث “في معظم الأحيان كانت تتجاهل الفلسطينيين، ومثقلة بفكرة أن لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها (…) لكن لم يكن هناك أي ذكر لمحنة الفلسطينيين. ولم أكن أستطيع، وبضمير مرتاح، الذهاب إلى التلفزة العربية وأتحدث بهذه النقاط”.

هكذا، وبعد سبعة أشهر من دعم الإدارة اللامحدود لإسرائيل، كانت غريط أول مسؤولة كرّست حياتها للعمل الدبلوماسي تستقيل من عملها، احتجاجا على سياسة تقول إنها مثّلت نكسة للمصالح الأمريكية في العالم العربي لجيل قادم. وأضافت بأنها رأت في استمرار تدفق الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل مساهمة في الأزمة الإنسانية في غزة، ومصدرا لتأجيج المشاعر الغاضبة ضد أمريكا في العالم العربي، وإن المسؤولين في داخل الخارجية كانوا خائفين من التعبير عن وجهة نظر مخالفة للموقف الرسمي من الحرب.

وما بين لحظة احتجاج هالة وابتهال بطريقة سياسية، فَدا مغربي-أمريكي آخر فلسطين بحياته. ففي 21 يناير الماضي، طعن الشاب الأميركي من أصل مغربي عبد العزيز قاضي ( 28 عاما)، خمسة إسرائيليين بينهم جندي كان قد أصيب في معارك غزة. فأصاب أحدهم إصابة خطرة في هجوم بالسكين في منطقة صاخبة من تل أبيب معروفة بالحياة الليلية. وقد تم “تحييده” على الفور (أي قتله وفقا لقاموس شرطة الاحتلال).

عبد العزيز قاضي الذي ينحدر من أسرة فقيرة تعيش بالجنوب الشرقي للمغرب، تمكن من تحقيق حلم الهجرة إلى الولايات المتحدة وتحسين وضعه المادي ووضع أسرته، في 2022 بفضل نظام “القرعة” الذي يعتبر حلم الشباب العربي وغير العربي. ويقول عنه أهله ومعارفه إنه كان هادئا، ولم يكن يعرف عنه أي نشاط سياسي أو جمعوي خلال حياته في المغرب، حيث لم ينخرط خلال فترة دراسته الجامعية في أنشطة الفصائل الطلابية بل كان يهتم بحضور دروسه فقط.. لكنه ضرب عرض الحائط “الحلم الأميركي” الذي يسعى إليه كل الشباب في سنه، بعد أن تحقق له، ليختار طريقا آخر أوصله إلى الاستشهاد في بلد لم يكن يخطط يوما لزيارته. لكن ما غيّره تماما هو مشاهد حرب الإبادة التي يتعرض لها سكان غزة، بحيث تركت أثرا عميقا في نفسيته الهادئة. فالعملية التي نفذها أتت بعد يومين من خطاب الناطق العسكري باسم كتائب عزالدين القسام أبو عبيدة، الذي قال فيه إن المقاومة تلقت إسنادا من طنجة إلى جاكرتا.

نجوم كرة القدم

ومن مظاهر الحضور القوي لفلسطين في الوجدان الشعبي للأجيال الجديدة، حضورها في أكثر الرياضات شعبية في المغرب والعالم. فقد رافقت فلسطين عمليا مجريات الفريق الوطني والجمهور المغربي، خلال تصفيات كأس العالم الأخيرة بقطر؛ خصوصا بعدما وصل إلى المربع الذهبي وصُنّف الرابع عالميا حيث رفع المنتخب المغربي العلم الفلسطيني. ففي الملاعب عبر نجوم الكرة الدوليون المغاربة عن تضامنهم، من خلال الاتحاف بعلم فلسطين في لحظات الانتظار التي تشد إليها الكاميرات العالمي، وبالتالي أنظار الجمهور العالمي. وعلى المدرجات ردد الجمهور هتافات وأناشيد داعمة ورفع لافتات وأعلام فلسطين، فضلا عن مواصلة التدوين نصرة لقضيتها على الرغم من حظر كثير من الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي.

وقد تألق بشكل خاص حينها النشيد الشهير، الذي أبدعه جمهور فريق نادي “الرجاء” الرياضي البيضاوي المغربي سنة 2019 (يا فلسطين قاومي)، الذي دأب على ترديده في الملاعب مساندة للشعب الفلسطيني ومطالبة بالحرية لفلسطين والقدس، مرفقا بأشكال من الـ “تيفو” تمجد الشعب الفلسطيني وكفاحه ورموزه. وعرف النشيد خلال كأس العالم بقطر تداولا وشهرة كبيرين، حتى أننا تابعنا كيف احتفل فلسطينيو غزة [قبل العدوان الحالي المروع] بانتصارات الفريق المغربي كأنه فريق فلسطين… ومن أجمل مقاطع هذا النشيد الحزين وأكثرها تعبيرا عن الحالة المغربية، قوله: “ما نسمح فيك (لن أفرط) يا غزة، مالكَري عليا بعيدة [على الرغم من بعدك عني]”. وكذلك قوله: “يا رفح ورام الله أمتنا راها مريضة..مرّضوها بالمشاكل وفساد الحكومات”. وهو النشيد الذي زاد انتشاره عربيا وعالميا مع انطلاق العدوان الحالي على غزة، وغزا منصات التواصل الاجتماعي (خصوصا يوتيوب)، حيث يشاهده ويستمع إليه الملايين.

وبعد اندلاع “طوفان الأقصى” وما تلاه، تعرض بعض نجوم كرة القدم المغاربة الممارسين في الدوريات الأوروبية، وتحديدا الدوري الألماني، إلى الاضطهاد بعدما نشروا تدوينات على صفحاتهم على مواقع التواصل التي يتابعها ملايين المعجبين؛ يدافعون فيها عن القضية الفلسطينية. وهو الأمر الذي دفع أنديتهم إلى طردهم، أو تعرضهم على اللجان التأديبية. نظير الدولي المغربي نصير مزراوي الذي كان يلعب لنادي بايرن ميونيخ الألماني، الذي تعرض للضغط من إدارة فريقه بسبب الحملة الغاضبة عليه في ألمانيا بسبب تضامنه مع غزة. بينما طرد نادي ماينز الألماني لاعبه المغربي الحامل للجنسية الهولندية أنور الغازي، بعد تعاطفه مع فلسطين في منشور على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.

بينما تضامن أغلب نجوم الفريق الوطني المغربي، كالدولي المغربي سفيان بوفال لاعب فريق الريان القطري، الذي نشر صورة لطفل فلسطيني وسط دمار غزة. كما دَوّنَ الدولي المغربي زكرياء أبو خلال لاعب نادي تولوز الفرنسي، تدوينة على حسابه بإنستغرام، قال فيها: “قد تكون الصواريخ موجودة فوقنا، لكنهم نسوا أن الله فوقهم”. أما عبد الحميد الصابري، لاعب الفيحاء السعودي، فأعاد نشر صورة له في نهائيات مونديال قطر 2022، على حسابه عبر المنصة نفسها، وهو يلتحف العلم الفلسطيني.

بينما ذهب الغضب بنجم الفريق المغربي الحامل للجنسية الهولندية ولاعب فريق غلطة سراي التركي حكيم زياش بعيدا. فقد نشر في سبتمبر الماضي مقطع فيديو يظهر جنودا إسرائيليين، وهم ينكلون بجثث الشهداء في مشهد بشع ومريع في بلدة قباطية بجنين. وعبر زياش عن استنكاره الشديد للأفعال الإجرامية، التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين مؤكدا تضامنه التام مع الشعب الفلسطيني في معاناته ضد الاحتلال، ومهاجما الحكومة المغربية التي اعتبرها داعمة للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، قبل أن يسحب التدوينة لاحقا.

لننتبه هنا أن الأمر يتعلق بلاعبين شباب دون الثلاثين، أي من الجيل المغربي الجديد في المغرب وشتات الاغتراب، ورغم الترف الذي توفره لهم كرة القدم، ما زالوا يحملون جمرة فلسطين مشتعلة في اليد وفي القلب، ويرفضون أن ينسوا القضية…

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس