أفريقيا برس – المغرب. ليكسوس مدينة عريقة أسّسها الفينيقيون في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وكانت جزءًا من الإمبراطورية القرطاجية على الضفة اليمنى لوادي لوكوس، لتغدو لاحقًا مركزًا رئيسيًا للحضارة الموريتانية الرومانية التنجيطانية. تُعدّ هذه المدينة إحدى الركائز الحقيقية للدينامية الاقتصادية والتجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد اكتسبت شهرة واسعة آنذاك بفضل بنيتها التحتية الصناعية، التي ضمّت أكبر مجمّع لمصانع تمليح الأسماك (الأسماك المخمّرة) في أراضي الإمبراطورية الرومانية.
في تلك الفترة، تخصّصت بعض هذه الوحدات في تمليح السردين تحديدًا، كما يوضح لـ Yabiladi محمد كبيري العلوي، الأستاذ الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث (INSAP)، والذي يقود فريق بحث إلى جانب نظيره الإسباني داريو برنال كاساسولا من جامعة قادس.
ويُعدّ هذا الاكتشاف من أبرز النتائج الحديثة التي أفرزتها التحاليل المخبرية المتواصلة، بمشاركة باحثين مغاربة من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث وجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، والمؤسسة الوطنية للمتاحف (FNM)، إلى جانب نظرائهم الإسبان من جامعتي برشلونة وغرناطة، والألمان من جامعة ماربورغ.
تحديد مكانة ليكسوس في التجارة البحرية القديمة
لا يزال السردين حتى اليوم غذاءً شعبيًا متجذرًا في العادات الغذائية للمناطق الساحلية المغربية والمتوسطية. وتُظهر الأبحاث أن السردين كان محبوبًا منذ قرون، من بين أنواع أخرى من الأسماك المخمّرة التي كانت تُصدّر من مصانع ليكسوس إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، بل وإلى مدينة بومبي قرب نابولي في إيطاليا. ومن شأن هذه البيانات أن تسمح بتحديد التسلسل الزمني للحي الصناعي بدقة، وتأريخ بدايات نشاطه ونهايته.
وفي إطار مشروع «ليكسوس-غاروم»، الذي انطلق سنة 2022 بدعم من مديرية التراث الثقافي التابعة لوزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية، تهدف هذه الدراسات الحديثة إلى تعميق فهم الدينامية الاقتصادية للمدينة القديمة، وعلاقاتها بمحيطها القريب، ولا سيما بميناء ليكسوس ووادي لوكوس، فضلًا عن تفاعلها مع قطاعات أخرى متنوعة، كما يؤكد محمد كبيري العلوي لهيئتنا التحريرية.
وتسعى الأبحاث الجيوفيزيائية الجارية حول مصانع التمليح في قلب الموقع إلى تحديد وجود أو غياب أفران لصناعة الأمفورات، وهي الأوعية الفخارية الكبيرة البيضاوية الشكل، التي كانت تُستخدم قديمًا لنقل وتخزين سلع مثل النبيذ والزيت وصلصات السمك (غاروم). وتشير بعض النقوش على هذه الأمفورات إلى استغلال أنواع أخرى من الأسماك مثل التونة الصغيرة (كوردولا) إلى جانب السردين.
ويضيف محمد كبيري العلوي: «من الجانب الإسباني، تم تسجيل اكتشاف مهم في هذا السياق، إذ عُثر في ألميريا على حطام سفينة تحمل أمفورات ممهورة بتوقيعات مرسومة تشير إلى أن مصدرها من ليكسوس».
بمعنى آخر، يتيح تحليل هذه المواد استكشاف الشبكات التجارية والأسواق التصديرية المرتبطة بمدينة ليكسوس، إذ تشير النقوش الموجودة على عدد من الأمفورات العائدة للفترة الموريتانية الرومانية إلى اسم الميناء نفسه، وقد عُثر عليها في مناطق متعددة من حوض البحر الأبيض المتوسط. ووفقًا لعالم الآثار المغربي محمد كبيري العلوي، فإن هذا المعطى «يشهد على انتشار واسع للتجارة البحرية الخاصة بمنتجات المنطقة». منطقة صناعية تتسع بفضل الحفريات
في إطار أعمال التنقيب بالموقع، تمكن الفريق العلمي من اكتشاف منطقة جديدة مخصّصة لتمليح الأسماك، تضم مصنعين في حالة حفظ جيدة، تحتوي على عناصر مهمة من شأنها إثراء التحليل الأثري. فإلى جانب الأحواض والمداخل والممرات ومناطق التنظيف والتحضير، أظهرت العينات المأخوذة من عدة نقاط وجود «طبقات تتطابق مع بقايا الأسماك المملحة أو الصلصات التي ظلت في موضعها الأصلي منذ العصور القديمة»، كما يوضح كبيري العلوي.
ويُبرز الباحث القيمة «الثمينة» لهذه العناصر، التي ستُسهم التحاليل المخبرية في تحديد الأنواع المستغلة والمباعة آنذاك بدقة أكبر. وتشير الأبحاث كذلك إلى وجود تنظيم متقدم في النشاط الصناعي، حيث كانت كل وحدة إنتاج متخصّصة في أنواع محددة من الأسماك. كما تم العثور على بقايا في وضع ثانوي، داخل ما يبدو أنه مكب نفايات منفصل عن قاع الأحواض، «قد يكون مكبًا قديمًا سيتم تأكيد طبيعته من خلال التحاليل الجارية»، بحسب كبيري العلوي.
وفي هذا السياق، يُنتظر أن تسهم الحفريات الجارية في الجزء الشمالي الغربي من الموقع في توضيح العلاقة بين وحدات تمليح الأسماك المكتشفة والصهاريج المائية المجاورة، إضافة إلى الأسوار المحيطة. وحتى عام 2025، ساهم المشروع بشكل ملحوظ في إثراء الأبحاث السابقة والجارية، إذ تضاعفت مساحة المنطقة الصناعية المكتشفة أربع مرات، وارتفع عدد مصانع التمليح من 10 إلى 23، وفقًا لعالم الآثار المغربي.
كما يُرتقب أن توفّر الحفريات المنهجية والطبقية معطيات جديدة حول الفترة الأخيرة من نشاط هذه المنشآت. ويُعدّ هذا العمل واعدًا بفضل المقاربة متعددة التخصصات التي يعتمدها الفريق، إذ يجمع بين أحدث التقنيات المستخدمة في المواقع الأثرية المتوسطية، من بحوث جيوفيزيائية وجيومورفولوجية، إلى دراسات جزيئية وتحليلات كيميائية دقيقة.
ويؤكد محمد كبيري العلوي في ختام حديثه على أهمية «تعزيز البحث التاريخي الوطني في المغرب من أجل كشف صفحات جديدة من تاريخنا، التي لا يمكن إعادة بنائها إلا عبر العمل الميداني الأصيل»، مضيفًا أن «تراثنا الأثري ذو قيمة استثنائية لم نُدرك بعد حجمها الكامل، ويستحق أن يُبرز ويُدرس بدقة أكبر».
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس





