حلم الأجيال الذي وأدته حسابات السياسة..”اتحاد المغرب العربي”..من الأمل إلى الفشل

71
حلم الأجيال الذي وأدته حسابات السياسة..

مصطفى واعراب

أفريقيا برس – المغرب. بحلول السابع عشر من فبراير/شباط 2022، تكون قد مرت ثلاثة وثلاثون عاما كاملة على توقيع زعماء الدول المغاربية الخمس بمراكش، على بيان تأسيس ما سمي “اتحاد المغرب العربي”. كانت الدول المغاربية قد جربت أشكالا متعددة من “الوحدات” الثنائية وخرجت إلى الوجود كثير من المحاور التكتيكية (مثل الاتحاد المغربي الليبي في منتصف الثمانينيات)، التي انتهت تباعا إلى الفشل. فاسترجع القادة المغاربيون شعارات “مؤتمر طنجة”، وتنادوا إلى مفاوضات انطلقت من “زيرالدة” الجزائرية، وانتهت في مراكش المغربية، حيث جرى التوقيع على بيان “التأسيس” في 17 فبراير/شباط 1989.

لكن ليس سرا أن العلاقات المختلة بين الجزائر والمغرب، هي التي ظلت تعرقل بشكل أساس انطلاق القطار المغاربي، من محطة انطلاقه التي لم يبارحها قط منذ تأسيسه. وعمق المشكل يتحدد في أن هذين البلدين، اللذان يعتبران أكبر البلدان المغاربية الخمسة وأقواها، متقاربان من حيث عدد السكان والقوة العسكرية وعدد من المؤشرات الأخرى، يتربعان على قلب المنطقة المغاربية جغرافيا وعاطفيا. لكنهما بالواقع متباعدان عن بعضهما بسبب أثقال التاريخ وطموحات الزعامة الإقليمية، التي يسعى كل واحد منهما إلى فرضها على الآخر وعلى باقي محيطه الإقليمي.

في هذا الملف، سنحاول مقاربة بعمق، لا من جهة جذوره وخلفياته السياسية فحسب، بل بالأساس من ناحية أثره السلبي على تطور المنطقة المغاربية ورخائها، والفاتورة الباهظة التي تدفعها الشعوب الخمسة بسبب عدم اندماج دولها في فضاء مغاربي موحد. فما هو حجم ومدى هذا الخلاف القاتل بين الجزائر والمغرب؟ وكيف ينعكس بالشلل على انطلاق “القطار المغاربي” من محطة التأسيس، التي لم يبرحها بعد منذ ثلاثة وثلاثين ربيعا؟ وما هو حجم الفاتورة التي تؤديها المنطقة؟

مؤتمر طنجة.. النواة الأولى

يعتبر “مؤتمر المغرب العربي” الذي انعقد عام 1958 بطنجة (شمال المغرب)، المنطلق الأساسي لكل الهياكل والتنظيمات الرسمية والاتفاقيات بين الدول المغاربية. بينما تعتبر معاهدة مراكش 1989، آخر اتفاق رسمي تم توقيعه بين القادة المغاربيين، وتوج بالإعلان عن قيام اتحاد مغاربي. حيث تم الاتفاق بشكل رسمي على جعل اتحاد المغرب العربي “سبيلا للوحدة الشاملة”، وإطارا لخلق تكتل اقتصادي واقليمي يسمح له بمجاراة التكتلات الإقليمية والدولية.

على هذا النحو، شكل توحيد دول المغرب الكبير غاية كبرى للرعيل الأول من زعماء حركة التحرير والاستقلال. وبمجرد إعلان الاستقلال السياسي للدول المغاربية، بادر بعض زعمائها إلى بعث الفكرة الوحدوية والعمل على تجسيدها وتفعيلها. وهكذا كانت طنجة قبلة للقادة المغاربيين. وخلال أربعة أيام امتدت ما بين 27 و30 أبريل 1958، اجتمعت الوفود المغاربية بقصر “مرشان” الملكي، من أجل رسم معالم الوحدة المغاربية المنشودة وتجسيد الطموحات الشعبية التواقة إلى الوحدة فيما بينها.

لقد أخذت “قضية الجزائر” التي كانت حينها تخوض حرب تحرير ضروسا حيزا مهما في مداولات المؤتمر. ولم يكن ممكنا للوحدة أن تتم والجزائر ما تزال مستعمرة، ولذلك رأى مؤتمر طنجة أن وحدة المغرب العربي لن تتم إلا “بالمساندة العملية والفعالة للثورة الجزائرية” إلى أن تحقق استقلالها الكامل. كما تطرق المؤتمرون إلى “ضرورة تصفية السيطرة الاستعمارية في الأقطار المغاربية كافة، وعلى نحو خاص التواجد الاستعماري الفرنسي في الادارة والاقتصاد، وجلاء القوات الأجنبية، وتسوية مشاكل الحدود بين الاشقاء”.

وتدارس المؤتمرون تبعا لذلك “سبل إنجاز الوحدة بين الأقطار المغاربية، وما ينبغي أن يكون عليه محتواها السياسي والاقتصادي والاجتماعي”. أما النقطة الرابعة، فقد تم الاتفاق فيها على “ضرورة إنشاء هيئة دائمة للمتابعة”. وبعد مناقشات عديدة اتفق المؤتمرون على “دعم تحرير الجزائر بكل الوسائل، وإقامة اتحاد فيدرالي بين أقطار المغرب العربي”، مع “المحافظة على خصوصيات كل بلد واحترام ظروفه”. كما اقترح المؤتمرون “قيام مجلس تأسيسي نيابي لدراسة القضايا التي تمس المصالح المشتركة”، ودعوا ألا تقوم أي من حكومات المغرب العربي، بصورة منفردة، بربط مصير الشمال الأفريقي بأي طرف خارجي في ميداني العلاقات الخارجية والدفاع، إلى أن تتم إقامة المؤسسات الفيدرالية”.

هكذا شكل مؤتمر طنجة المغاربي النواة الأولى للوحدة المغاربية، والبوصلة التي حددت الطريق للجميع من أجل إنشاء اتحاد فيدرالي. كما ظل هذا المؤتمر محطة أساسية ومرجعية في التاريخ المغاربي المعاصر، حيث انطلق من الشعوب وبواسطة ممثلي الشعوب من أجل وحدة الشعوب المغاربية.

قوس ثم انغلق سريعا..

كانت قد مرت 31 عاما على مؤتمر طنجة التاريخي، عاشت خلالها المنطقة المغاربية كثيرا من الأحداث والحوادث الجسام، التي باعدت بين حكامها وبالنتيجة بين شعوبها أيضا. وكانت الدول المغاربية قد جربت خلالها أشكالا متعددة من “الوحدات” الثنائية، وخرجت إلى الوجود كثير من المحاور “التكتيكية” (مثل “الاتحاد المغربي الليبي” في منتصف الثمانينيات)، التي انتهت جميعها تباعا إلى الفشل. ومع أواخر ثمانينيات القرن الماضي، استرجع القادة المغاربيون شعارات “مؤتمر طنجة”، فتنادوا إلى مفاوضات انطلقت من زيرالدة في الجزائر لتنتهي في مراكش المغربية، حيث جرى التوقيع على بيان تأسيس “اتحاد المغرب العربي” في 17 فبراير/شباط 1989.

كانت اللحظة مفعمة بأمل مفتوح على مستقبل اعتقده كثيرون واعدا، واستهلك الإعلام المغاربي والعربي كثيرا من اللغة العاطفية، وقليلا من الواقعية السياسية في متابعته. لكن ونحن الآن على مسافة أكثر من ثلاثة عقود من “الإعلان” عن قيام ذلك الـ “اتحاد”، ندرك أن تلك المحطة التاريخية الحماسية لم يكن من الممكن بلوغها، لولا صدق رجل اسمه الشاذلي بن جديد، الذي كان رحمه الله وما يزال أصدق القادة الجزائريين رغبة في توحيد شتات المغارب. كان الرجل صاحب كلمة، فعرفت الحدود الجزائرية المغربية البرية انفتاحا على الآخر، خلال فترة رئاسته للجزائر. ويذكر كثيرون كيف ملأت السيارات الجزائرية شوارع المدن المغربية، وكيف استقبلت أسر جزائرية المغاربة بعناق حار في بيوتها، وكيف كان المغاربة يسافرون برا إلى ليبيا عبر الجزائر وتونس بكل سلاسة…

لكن باب المرحلة الاستثنائية في تاريخ المنطقة لم ينتظر طويلا ليتم إغلاقه بعنف. فسنوات قليلة بعد ذلك، انقلب جنرالات الجيش على الرئيس “الشاذلي” في مطلع تسعينيات القرن العشرين، في أعقاب اكتساح الإسلاميين لأول انتخابات بلدية تشهدها الجزائر المستقلة. وتحولت الجزائر إلى ساحة حرب مجنونة وسجن كبير أخذ من تاريخها ومن تاريخ المنطقة عشر سنوات، دخلت التاريخ تحت اسم “عُشَرية الدم”. وأصبح إغلاق قوس “الربيع المغاربي” في أجواء الحرب الأهلية الجزائرية حينها مسألة وقت فقط.

ولم تتأخر الفرصة تلك الفرصة التي انتظرها الشيطان طويلا لكي تطل برأسها أخيرا في 1994، عندما فرض المغرب التأشيرة على الجزائريين في أعقاب تورط فرنسيين من أصل جزائري، في حادث فندق أطلس أسني الإرهابي الذي هز مراكش. فردت الجزائر بإغلاق الحدود البرية التي ما زالت مغلقة إلى اليوم، بل وتم تسييجها في السنوات الأخيرة بالخنادق والأسوار العالية من الجانبين، إمعانا في “تأبيد” إغلاقها.

أطول حدود مغلقة في العالم

في الأصل لم يختر المغرب ولا الجزائر موقعهما، فذلك من أقدار الجغرافيا التي وضعتهما جنبا إلى جنب. وبالمنطق نفسه، لم يختر المغاربة ولا الجزائريون أن يكونوا جيرانا. فالبلدان مرتبطان بحدود يزيد طولها عن 1600 كيلومتر، تعتبر حاليا أطول حدود برية مغلقة في العالم. ظلت الحدود مغلقة بين البلدين زمنا طويلا، إلى أن حدثت انفراجة مطلع التسعينيات، زمن الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، حيث فتح معبر “زوج بغال” الحدودي، بمبادرة خليجية كما قيل.

لكن في أعقاب اعتداء إرهابي تعرضت له مراكش في 1994 وتورط فيه ثلاثة شبان من أصول جزائرية، ردت الرباط بفرض التأشيرة على الجزائريين. فأغاظت تلك الخطوة الجزائر التي أغلقت حدودها البرية مع المغرب. ورغم أن المغرب تراجع عن قراره فيما بعد وألغى التأشيرة على المواطنين الجزائريين منذ 2004، إلا أن الحدود ظلت مع ذلك مغلقة إلى يوم الناس هذا.

وعلى الرغم من أن دعوات من الجانب المغربي تعالت في السنين الأخيرة لفتح الحدود، على الأقل حتى تنتعش المناطق الحدودية التي اختنقت بينهما تماما، وتلتقي العائلات الجزائرية المغربية المختلطة والتي مزقتها الحدود العالية، إلا أن اتخاذ قرار بفتحها أصبح رهينا بتوازنات شديدة التعقيد على مستوى القيادة الجزائرية. بكلام أكثر وضوحا، لن يكون في حكم الوارد فتح الحدود البرية المغلقة بين الجزائر والمغرب في الأفق المنظور. بل على العكس، هي آخذة في الانغلاق أكثر فأكثر…

هكذا وفي 2013، شرعت الجزائر في حفر خنادق على خط الحدود مع المغرب بطول يناهز 170 كلم. وتمتد من مدينة مرسى بن مهيدي المحاذية لمدينة السعيدية المغربية شمالا، وحتى العريشة المقابلة لإقليم جرادة المغربي جنوبا. وكان المبرر المقدم لهذه الخطوة هو محاربة من تسميهم الجارة الشرقية “الحلابة” (أي مهربي الوقود الجزائري نحو المغرب)، وتهريب المخدرات المغربية نحو الجزائر.

أسابيع بعد ذلك، رد المغرب بتشييد سور حديدي بطول 140 كلم، يمر بمحاذاة الخنادق الجزائرية، من السعيدية شمالا وحتى إقليم جرادة جنوبا. وأعلنت الرباط في حينه أن السور أقيم لـ “ضمان أمن المغرب من الخطر الإرهابي” (القادم من الجزائر وليبيا أساسا)، وكذا لوقف تدفق المخدرات المصنعة (التي تسمى محليا “القرقوبي”)، ووقف الهجرة (الإفريقية) التي تخترق الحدود الجزائرية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فكما لو أن تلك “التحصينات” الحدودية ليست كافية، قامت الجزائر في صيف 2016 ببناء جدار آخر من الإسمنت المسلح، في ولاية تلمسان على حدودها الغربية مع المغرب، يبلغ ارتفاعه 7 أمتار ونصف وبعرض مترين، ينطلق من الجماعة القروية لبني خالد، التي تبعد 7 كلم فقط إلى الجنوب من مدينة أحفير الحدودية المغربية.

تاريخ من الآمال المجهَضة

على الرغم من أن المقارنة لا تجوز مع وجود الفارق، والفارق هنا بحجم المستحيل، إلا أنه من المفيد أن نستحضر للمناسبة، النموذج الأوروبي الناجح رغم أن ظروفه وشروطه تعتبران في الواقع أكثر تعقيدا من الاتحاد المغاربي. فعلى الجهة الشمالية من البحر المتوسط المقابلة للمغارب، لم يستهلك القادة الأوروبيون من العناق والقبلات وعبارات المجاملات والنفاق، خلال أربعين عاما، واحدا بالمئة مما استهلك نظراؤهم المغاربيون خلال الشهور القليلة، التي سبقت وواكبت الإعلان عن “قيام” اتحاد المغرب العربي..

ومع ذلك، فما بين انبثاق الفكرة الجنينية لـ “الاتحاد الأوروبي” في 1951، من اتفاق ست دول أوروبية (فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وإيطاليا) على تشكيل المجموعة الأوروبية للفحم والصلب التي سميت بـ “المجموعة الاقتصادية الأوروبية”، وتوقيع الفرقاء الأوروبيين على معاهدة ماستريخت المؤسِّسة لـ “الاتحاد الأوروبي” في 1992، كانت العقلانية ولغة المصالح هي الهم المشترك بين القادة الأوروبيين. كان كل عام من الأعوام الأربعين التي مرت بين اللحظتين يدفع فكرة اتحاد أوروبا خطوات جديدة إلى الأمام. إلى أن صار الاتحاد الأوروبي يضم اليوم 28 دولة عضو، تجمعها قوانين موحدة، وعملة موحدة، ومحكمة عليا موحدة، وسوق موحدة، وبرلمان واحد، وشرطة واحدة، وحدود مفتوحة بين دولها لرواج الناس والسلع والخدمات، وسواها من الآليات، التي يعتبر إنشاء جيش أوروبي موحد آخر ما تناقشه هيئاتها من أفكار حاليا.

وباستحضار النموذج الأوروبي الناجح، فإنه لمن الموجع اليوم أن يكون استرجاع الذكرى التاريخية لـ “إعلان قيام” اتحاد المغرب العربي بطعم المرارة. فتاريخ اتحاد “نا” نحن على الضفة الجنوبية من المتوسط ما يزال متوقفا عند محطة التأسيس. وما راكمناها منذ 17 فبراير 1989 ليس أكثر من تاريخ طويل من اجترار الخيبات، والآمال المجهضَة، وتكرار الكلام العاطفي نفسه الذي لا يقدم ولا يؤخر، من قبيل أن “ما يجمع شعوبنا هو وحدة الدين واللغة والتاريخ ووحدة الأماني والتطلعات ووحدة المصير، وووو..”.

وبالنتيجة، ومن خلال استقراء المبادئ العامة والغايات التي نصت عليها معاهدة إنشاء الاتحاد المغاربي المشلول، نسجل بمرارة اليوم أنه بعد ثلاثين عاما، لا “أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها بعضهم ببعض” وُثقت، ولا شيء من “تقدم ورفاهية مجتمعاتهم والدفاع عن حقوقها” تحقق، ولا “انتهاج سياسة مشتركة في مختلف الميادين” تم اعتمادها، ولا “حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال فيما بينها” تم إقرارها في الواقع.

فقط الانتظار الطويل القاسي، هو ما يجمع الشعوب المغاربية راهنا وحتى إشعار آخر.

لا مستقبل بدون مصالحة

“إن تركيا التي يقل سكانها عن 75 مليون نسمة تحقق ناتجا داخليا خاما بقيمة 791 مليار دولار، وإسبانيا التي لا يتجاوز سكانها 47 مليون نسمة تحقق 1350 مليار دولار. بينما لم تحقق الدول المغاربية “الخمس” مجتمعة سوى 430 مليار دولار، في وقت يقارب سكانها 90 مليون نسمة”. هكذا سبق لعبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب “مدير البنك المركزي” والرئيس الأسبق لاتحاد المصارف المغاربية، أن لخص مكمن العطب في المغرب الكبير. وطبعا لواقع القطيعة القائمة بين أكبر بلدين في المجموعة المغاربية من عقود، مسؤولية كبرى في ذلك.

ففي عالم القرن الحادي والعشرين، الذي يفرض اقتصاده على الدول ضرورة اندماجها في تكتلات، لمواجهة تحديات العولمة المجسدة في القدرة على المنافسة والوصول إلى الأسواق الخارجية، تركز التجارة الخارجية لبلدان المغرب الكبير حاليا على التعامل تجاريا بعيدا عن جيرانها المباشرين؛ وعلى إصرار البلدان المغاربية في الاعتماد على نفسها بشكل فردي. وهو ما يجعلها عرضة للصدمات الاقتصادية والأزمات الصعبة، ويضعها في موقع ضعيف خلال مفاوضاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي بسبب افتقادها إلى مقومات المنافسة الخارجية.

وإذا كانت هناك فرص للنمو في حال إنجاز سوق تجارية مشتركة بالمنطقة المغاربية، فإن هذا الأمر لا يعني حل جميع المشاكل الاقتصادية التي تؤرق تلك البلدان. والسبب هو هشاشة اقتصادياتها واعتمادها على تصدير المواد الخام، بدل تطوير التكنولوجيا لديها، ما من شأنه أن يجعل لأي اتحاد اقتصادي آثارا محدودة. وبرأي الخبراء، فإن اقتصاديات الدول المغاربية تفتقد لعناصر القوة الذاتية أصلا، وهو ما قد لا يسهم في تحقيق التنمية المنشودة في حال ما تحقق اندماج اقتصاد مغاربي. غبر أن من شأن اندماج التجارة البينية أن يحل بعض مشاكل المنطقة المغاربية، كما سبق أن كشف صندوق النقد الدولي.

ولذلك يعتبر البنك الدولي بأن الاندماج أصبح ضرورة حتمية اليوم، لأن البلدان المغاربية من خلال تفعيل اندماج فعلي، يمكنها أن تربح مجتمعة ما بين 3 و9 مليارات دولار سنويا. ويقدر خبراء البنك الدولي بأنه بإمكان كل دولة مغاربية أن ترفع نسبة نموها بـ 2 إلى 3% في حال تحقيق اتحاد اقتصادي وتحسين مناخ الاستثمار. وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجابا على القدرة الشرائية للمواطنين ويوفر الملايين من فرص الشغل.

وتعزز هذا الطرح الشروط المواتية للدول المغاربية، الممثلة في وجود سوق استهلاكية ضخمة قوامها 90 مليونا من المستهلكين، وتوفر يد عاملة شابة، وكذا جوار جغرافي مباشر بين دولها. ناهيك عن توفر المنطقة على ثروات تتنوع بين المعادن الثمينة والسمك والخضروات، ما يشكل بيئة مواتية لقيام تجارة بينية مغاربية مشتركة مربحة للجميع. أضف إلى كل ذلك تقارب الدوافع والطموحات، وتقارب الأذواق والثقافة بين شعوب المنطقة، بما يتيح بنية ديموغرافية وقيمية منسجمة تدفع نحو التقدم والنماء.وفي سبيل تحقيق ذلك، ينصح خبراء الاقتصاد الدول المغاربية بالتركيز أولا على القضاء على بؤر الفساد، واعتماد الشفافية الاقتصادية. إلى جانب ضرورة إصلاح النظام الضريبي، وتوفير بيئة جاذبة للكفاءات ورؤوس الأموال.

بيد أن أي إقلاع اقتصادي لا يمكن له أن يتحقق في غياب مناخ سياسي سليم بين الدول المغاربية. وعليه فإنه طالما ليست هناك علاقات طبيعية بين الدول المغاربية، وتحديدا بين الجزائر والمغرب، فمن الصعب تخيل قيام اتحاد مغاربي ف في المستقبل المنظور.

وللبحث أكثر في هذا الملف، أجرت “أفريقيا برس” حوارا مع الصحفي والمحلل السياسي التونسي، عائد عميرة:

عائد عميرة - صحفي ومحلل السياسي تونسي
عائد عميرة، صحفي ومحلل سياسي تونسي

بعد 33 عاما على تأسيس “اتحاد المغرب العربي”، تبدو المنطقة في أسوأ أحوالها.. كيف تقرأ  هذا المشهد المغاربي الراهن؟
دول المغرب العربي تشهد أسوأ حالاتها، فكل دولة تعاني من مشاكل داخلية عدة فضلا عن مشاكلها الحدودية. نبدأ من ليبيا التي تعاني من الفوضى وانتشار العنف منذ سنوات، ولا يبدو التوصل لحل ينهي الحرب هناك قريبا. فكل طرف يسعى للاستئثار بالسلطة بالاستعانة مع أطراف خارجية. أما تونس فتعاني اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بعد استحوذ قيس سعيد على الحكم بعيدا عن دستور البلاد. والجزائر غارقة في أزمة مست كل القطاعات في ظل مواصلة عبد المجيد تبون نفس نهج عبد العزيز بوتفليقة واستفراد الجيش بالحكم، أما المغرب فتعاني نتيجة وباء كورونا وفشل حكومة أخنوش في عملها رغم مرور سنة على انتخابها، وفي موريتانيا كأن ولد الغزواني لم يبدأ الحكم بعد.

هذا المشهد المغاربي السيء لم يسبق للمنطقة أن عرفته في السابق، ويتوقع في السنوات القادمة أن يكون الوضع أشد قتامة في ظل وجود هذه الأنظمة التي لا تبحث إلا عن مصلحتها ومصلحة الحاشية المحيطة بها. دول المغرب العربي لا تعاني من مشاكل داخلية فقط، وإنما مشاكل خارجية أيضا وفيما بينها. فتونس في أزمة كبيرة مع ليبيا أفقدتها فرصا اقتصادية كبيرة، وتونس في أزمة أيضا مع المغرب بسبب اصطفاف نظام سعيد مع الجزائر في سابقة دبلوماسية لم تشهدها تونس من قبل. أما الجزائر ففي أزمة متواصلة مع المغرب، وبخصوص موريتانيا فإنها في أزمة صامته مع المغرب.

من الواضح أن العلاقات المختلة بين الجزائر والمغرب هي التي تشل القطار المغاربي.. لماذا برأيك فشلت الوساطات لرأب الصدع بين البلدين؟
لنكن واضحين من البداية، الحديث عن وساطة تونسية أو موريتانية بين المغرب والجزائر، يبقى مجرد كلام إعلامي فقط تؤثث به بعض المناسبات، فليست هناك محاولات جدية للوساطة بين البلدين المغاربيين. لو كانت هناك محاولات وساطة لرأينا لقاءات دبلوماسية في هذا الصدد. لكن كل ما في الأمر أن بعض المسؤولين يتحدثون على وساطات افتراضية لا وجود لها في أرض الواقع.

المشكلة بين المغرب والجزائر أعمق من أن تحلها وساطة، فهي مشاكل قديمة لا تحل إلا إذا تم حل مشاكل البلدين الداخلية. فقيادتا البلدين تستثمران في هذه الأزمة، خاصة من جهة الجزائر للتنفيس عن النظام وكسب ود الشعب. فكلاهما يرى في وجود عدو خارجي افتراضي تغطية على فشله في حل المشاكل الداخلية. وقد رأينا كيف أن الأزمة بين المغرب والجزائر تتدعم وتتصاعد كلما كانت المشاكل الداخلية أكبر. وهو ما يعني بأن هذه الأزمة أصبحت كحصان طروادة، يعبر النظام من خلالها إلى بر الأمان، بعد أن يقوم يتلهية الشعب وشحذ الهمم للتصدي للخطر الأجنبي الذي يتهدده.

سبق أن ظهرت مبادرات بين الجزائر وتونس لإقامة “اتحاد” يجمع بين الجزائر وتونس وليبيا.. هل ترى أن مغربا عربيا بدون المغرب يمثل بديلا معقولا للأزمة الحالية؟
بدون شك أن المغرب يعتبر أحد أبرز الدول المغاربية، وبالتالي فإن أي كيان يؤسس دون وجوده يولد ميتا. لا يمكن أن نرى اتحادا مغاربيا لا مكان فيه للمغرب، ما يجعل إقامة اتحاد بين تونس والجزائر وليبيا مجرد فكرة لا يمكن أن تُجَسَّد على أرض الواقع، وطرح سيزيد من حدة المشكل ولن يحله.

المغرب بلد شقيق له إمكانيات كبرى في كل المجالات، ولا يمكن الاستغناء عنه، وقد رأينا دوره في أفريقيا. لذلك وجب البحث عن سبل لإزالة مسببات فشل اتحاد المغرب العربي، عوض التفكير في إقصاء المغرب من أي كيان مستقبلي. ومن الضروري الاستفادة من تطور المغرب في عديد المجالات كقطاع الخدمات والصناعة والمالية. فاقتصاديات المنطقة تكمل بعضها البعض ولا سبيل لإقصاء أي دولة.

من الواضح أنه لا مستقبل لـ “اتحاد المغرب العربي” بدون مصالحة بين الجزائر والمغرب. في تصورك هل يمكن أن تنضج الظروف مستقبلا لهكذا مصالحة؟
نأمل ذلك رغم صعوبة الوضع في الوقت الحالي. فكما قلت لك في البداية، فإن الأنظمة تستثمر في الأزمة ولا تسعى لحلها في الوقت الراهن لضمان ديمومة حكمها. لكن نأمل أن توجد قيادات، خاصة في الجزائر، تؤمن بضرورة الحوار والسلام في المنطقة، وتزيل أسباب الأزمة لما فيه مصلحة شعوب المنطقة المغاربية ككل. إن على القيادات أن ترجع لأصل المشكل، وتبتعد عن خلق مشاكل إضافية من شأنها أن تزيد من متاعب دولها. فاستمرار الأزمة بين المغرب والجزائر يكلف اقتصاديات الدول المغاربية خسائر كبرى.

في عام 1988، نجحت السعودية في مصالحة المغرب والجزائر.. برأيك لماذا فشلت حتى الآن على الأقل وساطة الرياض في جر البلدين إلى إعادة العلاقات المقطوعة بينهما؟
الرياض سنة 1988 ليست الرياض سنة 2002، إذ لم تعد لها تلك المكانة المهمة بين العرب. كما أنها منشغلة بمشاكلها الداخلية ومشاكلها في اليمن ومع أيران. لذلك لم تتحرك هذه المرة كما تحركت في السابق. كما أن السعودية ابتعدت كثيرا عن دول المغرب العربي، وفقدت مكانتها هناك لصالح دول أخرى. ولذلك لا يمكن لأية وساطة تقوم بها في المنطقة أن تنجح.

هناك من جانب آخر ملاحظة مثيرة، تتمثل في أنه على الرغم من الأزمة المستفحلة بين الجزائر والمغرب، قامت الجزائر بمد طريقها السيار (شرق-غرب) إلى مشارف الحدود المغربية. وعلى الجانب المقابل، مد المغرب شبكة طرقه السيارة إلى مسافة كيلومترات قليلة من الحدود الجزائرية.. هل برأيك تمثل الخطوتان دليلا على إيمان قيادتي البلدين بأن قيام الاتحاد المغاربي أمر حتمي؟
حتما قيادات البلدين مقتنعة بضرورة قيام الاتحاد المغاربي. لكن ليس كل شيء نقتنع به نسعى إلى تنفيذه، إذ يمكن أن نرى مصالحة اقتصادية بين البلدين وتطورا للمعاملات التجارية بينهما، لكن المصالحة السياسية مستبعدة. لذا استبعد تقاربا قريبا بين قيادات البلدين، خاصة في ظل وجود أطراف خارجية تسعى للنفخ في نار الفتنة بينهما. وقد رأينا ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تخصص بعض الدول حسابات افتراضية على مواقع التواصل، لبث الفتنة بين شعبي المغرب والجزائر. هذه الدول ليس من مصلحتها رؤية اتحاد اقليمي في شمال إفريقيا يضم المغرب والجزائر في صفوفه. فذلك لا يصب في مصلحتها، ولذلك تسعى جاهدة لتأزيم الوضع في شمال القارة.

من تقصد؟ فرنسا مثلا؟
صحيح، فرنسا لا تريد أن ترى اتحاد مغاربيا متكاملا، هي تريد أنظمة متصارعه حتى تحسن نهب ثروات المنطقة. ونحن نعلم أن أغلب مشاكل الدول المغاربية سواء الداخلية أو الحدودية سببها فرنسا. باريس قوية بالصراعات والازمات بين دولنا لذلك تستثمر فيها وتعمل على تأجيجها بين الفينة والأخرى رغم ادعائها أنها تعمل لصالح الدول المغاربية.

لا هم لسكان الإليزيه، غير مصلحة الشركات الفرنسية وثروات المنطقة، لذلك ترى ضرورة مواصلة الأزمات السياسية بين الدول المغاربية، ذلك أنها تعلم يقينا أن أي اتحادد اقليمي سيقوي الدول المغاربية ويمكنها من استرجاع سيادتها الكاملة على قرارها وثرواتها، ما يعني تراجع مكانتها.

 

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس