مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. في 29 نوفمبر 2024 الماضي، حذر تقرير لمجموعة الأزمات الدولية (crisis group) من أن “الضغوط المتصاعدة في الأزمة الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، قد تؤدي بالبلدين إلى الحرب”. وأشارت المجموعة التي يوجد مقرها في بروكسيل، في تقريرها، إلى أن “عوامل الخطورة تشمل سباق التسلح بين البلدين، وانتشار المعلومات المضللة على الإنترنت، وارتفاع حدة التشدد بين الشباب في جبهة البوليساريو”.
إن تشديد مجموعة الأزمات الدولية على كون المعلومات المضللة ضمن أبرز عوامل الخطورة التي تقرب كل يوم أكثر البلدين نحو لحظة المواجهة العسكرية الرهيبة ليس لغوا إنشائيا، بل هو تحصيل حالة التردي التي انحدرت إليها العلاقات بين البلدين منذ العام 2019. وهي حالة لا تتوقف عن التطور إلى الأسوأ على مدار الساعة!
حرب شائعات وسخرية
لقد أضحت الأخبار الزائفة والمضللة اليوم سلاحا يجري توظيفه بفعالية كبرى، في الأزمة السياسية المزمنة وبالغة الخطورة بين الجزائر والمغرب. يلاحظ في الصفحات والمواقع المعروفة بتخصصها في نشر الأخبار المضللة عن المغرب أو عن الجزائر، كونها صفحات مشهورة ولديها متابعون بمئات الآلاف. وغالباً ما يحمل اسمها أو يحيل على البلد الذي تنتمي إليه. وإلى جانب ترويجها للأخبار الزائفة فهي عادةً ما تنشر أخباراً إيجابيةً عن البلد الذي تمثله. وفي هذا الصدد، انتشرت العديد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي في البلدين، وظيفتها الأساسية هي اختلاق شائعات وأخبار مفبركة تستهدف الجزائر من هذا الجانب، والمغرب من الجانب الآخر وترويجها. وذلك في إطار الصراع السياسي الذي لم يعد محصورا بين النظامين الجزائري والمغربي، بل امتد ليلتهم بحريقة الشعبين أيضا.
وتتضح من خلال ذلك، مدى الخطورة المتفاقمة للمعلومات الزائفة والحملات المضللة على واقع العلاقات بين الشعبين والحكومتين الجزائرية والمغربية، سيما بعدما تحول الأمر إلى ظاهرة تلازم أي حدث عالمي أو كارثة أو جائحة. فسقطت جميع الخطوط الحمراء في حرب المعلومة والرأي العام.
فرأينا جزائريين يسخرون من ضحايا زلزال الحوز الذي قتل الآلاف وشرد مئات الآلاف بمناطق فقيرة من وسط المغرب، في خريف 2003. وبالمقابل يتضامنون مع الزمرة من سكان الريف المغربي المطالبة بالانفصال عن المغرب، وينشرون صورا لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ومعها تعليق يعترفون فيه بأنهما مدينتان “إسبانيتان”، وسيل أخبار ملفقة عن معارك بالرصاص بين أفراد الأسرة الملكية في المغرب حصلت داخل القصر، الخ…
وبالمقابل، يسخر مغاربة من رئيس الجزائر الحالي، ويسخرون من الحجم الكبير والمتزايد في أعداد “شهداء” حرب التحرير الجزائرية، ومن جماجم بعض أولئك المجاهدين التي ما زالت تحتفظ بها فرنسا في “متحف الانسان” بباريس، وترفض إرجاعها للجزائر. ويتضامن عدد متزايد من المغاربة مع “قضية القبايل” ومع رئيسها وحكومتها، التي تطالب بانفصالها عن الجزائر، الخ…
وليست الصفحات المجهولة الهوية وحدها من تساهم في هذه “الحرب” الإلكترونية، بل نجد أيضا حسابات على الشبكات الاجتماعية واسعة الانتشار لإعلاميين بعلامة زرقاء (صفحات رسمية للإعلاميين) بارزين، ومؤثرين مرموقين تنخرط في الترويج للزيف والبغض بين البلدين.
وفي استطلاع رأي قامت به منصة إعلامية عربية مرموقة قبل ثلاث سنوات، اتفق88% من المستجوبين على كون الأخبار الزائفة التي تتناول مواضيع تخص البلدين لها دور كبير في تنامي خطاب الكراهية. وبهدف رصد مكامن خطاب الكراهية الذي يوجه ضد المواطن المغربي أو الجزائري، تم تحليل أكثر من 200 تعليق كتبه مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، تفاعلا مع محتويات زائفة تهم الطرفين، خلال الفترة الممتدة بين شهر ديسمبر 2021 إلى شهر مايو من سنة 2022، وحُدِّد عدد المحتويات في ستة أخبار زائفة تم دحض صحتها والتبليغ عنها بواسطة خدمة تقصّي صحة الأخبار التابعة لوكالة فرانس برس. فاتضح من خلال تحليل التعليقات أنها تنقسم في الغالب إلى تعليقات تنطوي على رسائل تسخر من الجانب الآخر وتنقص من قدره، وتعليقات تبدأ بملاسنات لتنتهي بشتائم وكلمات بذيئة. في المقابل، قليل من هذه التعليقات يمكن أن نلمس فيه دعوة إلى التهدئة والسلام بين أطراف الخلاف. وهو ما يشير إلى أن المحتوى الزائف نفسه قد انطوى على رسالة تحريضية، إما ضد المغرب أو ضد الجزائر. وفي سياق ذلك، بلغت التعليقات التي تشتمل على عبارات الشتم والسخرية نسبة 81%، ما يعكس حجم رسائل الكراهية والعداء التي تنتجها آلة الأخبار الزائفة، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المغاربة والجزائريين!
“التطبيع” و”الطوابير”…
منذ إعلان المغرب عن استئناف العلاقات مع إسرائيل عبر إعادة فتح مكتب الاتصال بالرباط، وما خلفه الحدث من ضجة إعلامية غير مسبوقة، تخصصت صفحات ومواقع وشبكات اجتماعية جزائرية في التفاعل سلبيا جدا وباستمرار مع هذا القرار، الذي يخالف التوجهات الرسمية المعلنة للجزائر. وذلك سواء بالتعليق على وقائع وأخبار معينة حقيقية بين الحكومتين المغربية والإسرائيلية، أو من خلال الترويج لمنشورات مضللة تسعى إلى نشر الضغينة حيال المغرب من خلال تلفيق مزاعم. فتارةً تنشر هذه الصفحات صورةً مفبركةً لملك المغرب وهو يقف أمام حائط المبكى إلى جانب بنيامين نتانياهو، وتارةً أخرى تُظهره وهو يقرأ التوراة في معبد يهودي… فيتفاعل معها الآلاف بمشاعر حاقدة تنعت المغرب وأهله بكل النعوت المنحطة، قبل أن تفندها منصات تدقيق المعلومات.
وفي هذا الإطار، نذكر كيف جاء في تعليق مرافق لصورة، راجت في 2011، أن حكماً إسرائيليا يدعى “أوريل غرينفيلد” هو من سيدير المباراة الكروية التي كان من المقرر أن تجمع المنتخب المغربي بنظيره الجزائري ضمن منافسات كأس العرب لسنة 2021. الصورة والتعليق جرى نشرهما على نطاق واسع على مواقع التواصل الجزائرية والمغربية، ما أثار موجة عارمة من التعليقات المليئة بالسب والشتائم البذيئة. لكن عندما جرت المباراة بين المنتخبين وانتهت بفوز المنتخب الجزائري على نظيره المغربي، تبين لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متأخر، بعدما شاركوا الخبر ملايين المرات، أن الحكم البرازيلي “ويلتون سامبايو” هو من أدار المباراة في الحقيقة، ولا وجود أصلاً لأي حكم إسرائيلي في لائحة حكام منافسات كأس العرب!
وإذا ما تركنا بعيدا توظيف المناسبات الرياضية، التي يُنتظر منها صنع الفرجة والترفيه لا العداء والكراهية، لا تغيب الأوضاع السياسية والاقتصادية عن مواضيع الصفحات المنكبَّة على تغذية العداء بحطب الأخبار الزائفة. فكثيرة هي الصور المنزوعة من سياقها التي تدّعي “توثيق” حجم الأزمة الاقتصادية بالجزائر. هكذا، وقبل أسابيع، روجت صفحات ومواقع مغربية أنباء ملفقة تزعم فرار عائلات مسؤولين جزائريين كبارا خارج الجزائر. والسبب الذي دفعها إلى ذلك هو انقلاب عسكري وشيك الوقوع، يهدد بمحاكمة المسؤولين العسكريين والمدنيين في أعلى هرم السلطة. لقد كان من الواضح لكل متتبع نبيه أن الأمر يتعلق بخبر ملفق، فلا يمكن أن يمر حدث بهذا الحجم —لو كان صحيحا—مرور الكرام على المواقع والمحطات والمؤثرين، الذين يرصدون كل شاذة وفادة في الجرائر.
كما لا يتوقف رواج أخبار زائفة أخرى، تريد إخبار المتلقي بوجود أزمة اجتماعية أو سياسية خانقة في الجزائر. من قبيل —على سبيل المثال لا الحصر— صور وفيديوهات الطوابير من أجل الحصول على مواد غذائية. تُظهِر صفوفا طويلة جدا لمواطنين تقول التعليقات إنهم ينتظرون دورهم للحصول على السميد، أو العدس، أو البطاطس، الخ.
إنتاج حقد عابر للأجيال!
لا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب كونها الساحة الأكبر لانتشار هذه الأخبار، تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عن إتاحة الوصول الأوسع لها للجمهور؛ في مقابل إما غياب إجراءات لوقف انتشارها أو غير فعالة تماما، تتخذها بعض الشركات في إطار مكافحة المعلومات المزيفة. وتأخذ هذه الحقيقة المخيفة مداها الأبعد متى علمنا أنه سبق لدراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن أظهرت أن “الأخبار الزائفة تنتشر بمعدل 6 مرات أسرع من الأخبار الحقيقية، حيث يرتفع احتمال إعادة انتشار الأخبار غير الحقيقية بنسبة تزيد عن 70 c/o عن الأخبار الحقيقة”!
ووفقا لتحليل خبراء دوليين، يشكل تصاعد خطاب الكراهية وزيادة الاستقطاب السياسي مناخا مؤاتيا لظهور موجات التضليل والأخبار الزائفة، وهو الحال حاليا —للأسف— بين الجزائر والمغرب؛ إذ يصبح لها تأثير أكبر يتيح انتقالا أسهل للتأثيرات من مواقع التواصل إلى أرض الواقع. وبخاصة عندما يخاطب التضليل مزاج الناس وما يرغبون بسماعه، كأن يصب التضليل في صالح جهة ضد أخرى، أو ينمي خطاب كراهية منتشر فيزيد انتشاره ويعمقه.
فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالأخبار (الملفقة غالبا) التي تواكب تطورات هذه الأزمة. ووجدت فيها بعض الصفحات والمواقع وبعض المؤثرين كذلك، فرصةً للظهور ولكسب التفاعل من خلال الترويج لمحتويات حول البلدين، من دون حساب نتائجها الوخيمة التي قد تلقي بآثارها على الشعبين في الدرجة الأولى. من خلال تكريسها لخطاب كراهية يركز على الخلافات السياسية وتبادل الرسائل العداء بين مواطني المغرب والجزائر.
وهذا التوجه غير المسؤول سيكون له بالتأكيد ثمن فادح على الأمَدَيْن المتوسط والبعيد، من الصعب تقدير نتائجه الوخيمة على الشعبين الآن.
قبل 2019، كان الشعار السائد بين البلدين—رغم كل الأزمات السياسية— هو: “لا تلعنوا المستقبل!”.. عبارة كنا نسمعها على ألسنة السياسيين ووسائل الإعلام في الجزائر. والمعنى أنه لا ينبغي نشر مشاعر العداء بين الشعبين، لأنه مهما طال الزمن ستنتهي الخلافات والمنازعات إلى حل ينهيها، لكن سوف يكون من شبه المستحيل استئصال الحقد الذي سوف يبقى دفينا في نفوس الشعبين. بيد أن عقال المستقبل انفلت على حين غرة، وبات من شبه المستحيل العودة به إلى الوضع السابق.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس