جريمة غامضة تُشعل “نظرية المؤامرة” بين الجزائر والمغرب

32

بقلم: مصطفى واعراب

أفريقيا برسالمغرب. لو كان المناخ السائد بين أكبر جارين مغاربيين “عاديا”، لكان حادث اغتيال السائقين المغربيين الأسبوع الماضي في مالي مناسبة للتآزر والتضامن. لكن المناخ المتوتر أكثر من المحتمل بين الجزائر والمغرب، حوَّل الجريمة الإرهابية غير المسبوقة إلى موضوع للتشفي والاستهزاء في جانب، وإلى فرصة جديدة لتوجيه اتهام صريح إلى المخابرات الجزائرية بالضلوع في الجريمة، في الجانب المقابل.

على هذا النحو، تشغل “نظرية المؤامرة” الرأي العام في البلدين بشكل لا يكاد ينقطع: عندما اشتعلت غابات الجزائر قبل أسابيع بنيران قيل إنها بفعل فاعلين، توجهت أصابع الاتهام فوريا ورسميا صوب المغرب. وعندما اغتيل السائقان المغربيان وجرح ثالث جروحا بليغة في مالي الأسبوع الماضي، اشتعلت الشبكات الاجتماعية بقراءات متعددة مضمونها واحد يصب في اتجاه تحميل “الأجهزة” الجزائرية المسؤولية. وفي كل مرة تجد نظرية المؤامرة، عند هذا الطرف أو ذاك، ما يلزمها من “الحجج” لتفرض منطقها، يغذيها في ذلك عداء بات مزمنا وعصيا على أي كبح.

جريمة إرهابية غامضة

الزمان: الاثنين الماضي 11 سبتمبر. المكان: طريق قرب بلدة “ديديني” الواقعة على بعد 300 كلم من العاصمة المالية باماكو. الحدث: مجهولون ملثمون يطلقون وابلا من النار على شاحنتين مغربيتين، ما تسبب في سقوط سائقين وجرح ثالث ونجاة رابع. وبحسب وكالة الأنباء المغربية الرسمية، فإن المهاجمين المسلحين كانوا يختبئون خلف الأشجار على جانب الطريق، بحسب إفادة شهود عيان، وأنهم “كانوا يرتدون أغطية للرأس، وسترات واقية من الرصاص، وأجهزة اتصال لاسلكي”. وكانت الشاحنتان دخلتا التراب المالي قادمتين من الصحراء المغربية عبر موريتانيا.

للوهلة الأولى قد يبدو الحادث “عاديا”، بالنظر إلى كون مالي تعاني من فوضى أمنية خطيرة تنتج عنها بشكل يومي أعمال عنف متعددة الأوجه، خلفت آلاف الضحايا معظمهم مدنيون، منذ اندلاع تمرد قاده انفصاليون و”جهاديون” بشمال البلاد في 2012. ولم ينفع في إعادة الأمن إلى مالي، لا تدخل القوات التابعة للأمم المتحدة ولا القوات الفرنسية وقوات أخرى من بلدان إفريقية مجاورة. ولذلك تفاقم العنف بسبب نزاعات محلية وأعمال نهب في وسط البلاد، حيث تسجل غالبية الاعتداءات في حق المدنيين، بحسب قسم حقوق الإنسان التابع لبعثة الأمم المتحدة في مالي.

وفي سياق ذلك، أشارت وسائل إعلام مالية إلى أنه في ظهيرة اليوم نفسه الذي شهد حادث الاعتداء الدموي على الشاحنتين المغربيتين، اعترض “جهاديون” مسلحون على الطريق نفسها، مركبة كانت تقل خمسة أشخاص ماليين من موظفي وزارة العدل، كان بينهم قاض، كانوا متوجهين إلى باماكو. ثم سمحوا لهم بمواصلة السير دون أن يطلعوا على هوياتهم، بحسب ما أفاد مسؤول بمنظمة الاتحاد المستقل للسلطة القضائية.

لكن في حادث مقتل السائقين المغربيين لم يتضح بعد، ما إذا كان الأمر يتعلق بقطاع طرق أم بمسلحين من الجهاديين. وتمثل عمليات الاختطاف والاختفاء أكثر من 40٪ من أعمال العنف ضد المدنيين في مالي، التي سجلت في أحدث تقرير ربع سنوي صادر عن قسم حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة في مالي “مينوسما”. وتنسب 70٪ من تلك العمليات الإرهابية “للجهاديين”، بحسب المصدر نفسه.

اشتعال نظرية المؤامرة

بعيدا عن نظرية المؤامرة، وجب التذكير بأن جريمة الاعتداء على الشاحنتين المغربيتين اللتان كانتا تؤمنان نقل السلع والبضائع من المغرب إلى دول غرب إفريقيا، تزامنت بشكل غريب فعلا مع انطلاق ” المعرض الاقتصادي الأول الموجه للسوق الإفريقية”، الذي نظمته وزارة التجارة الجزائرية انطلاقا من نفس يوم السبت بولاية أدرار القريبة من الحدود مع موريتانيا ومالي. وبينما كان الإعلام المغربي يتقصى آخر أخبار الحادث الإرهابي، كان إعلام الجارة الجزائر يردد قرار سلطات بلاده بتقديم “كل أشكال الدعم للجزائريين الراغبين في الاتجار مع إفريقيا”. بل وفي خطوة رمزية تم إطلاق قافلة من الشاحنات الجزائرية، المحملة بالبضائع والمتوجهة نحو بلدان إفريقية!

إن هذا التزامن المثير للاستغراب هو الذي رسخ لدى أغلب المغاربة يقينا، بأن الأمر يتعلق بـ “استهداف واضح” و”رسالة” موجهة إلى المغرب من المخابرات الجزائرية مضمونها: «نحن قادرون على ضرب قوافلك التجارية نحو إفريقيا، وقطع الطريق عليها وجعل تغلغلك داخل القارة بطيئا جدا ومكلفا جدا»، كما كتب مدونون مغاربة مؤثرون. فالجزائر –برأي أحدهم – «تخوض حربا مكشوفة وبلا هوادة لضرب المصالح الاقتصادية للمغرب. ويكفي أن أمثل لذلك بإصدار الرئيس الجزائري، في مايو الماضي، قرار بفسخ كل العقود المبرمة مع شركات مغربية وإنهاء التعامل معها من طرف واحد، في خرق سافر لمقتضيات وأحكام منظمة التجارة العالمية. والجزائر بعد قطع علاقاتها بالمغرب الشهر الماضي، منعت الطائرات المغربية من المرور فوق أراضيها كي تزيد من تكلفة رحلاتها وتقلل بذلك تنافسيتها، خاصة وأن الخطوط المغربية مصنفة كإحدى أقوى شركات الطيران في إفريقيا. كما أوقفت الجزائر العمل بأنبوب الغاز المار عبر المغرب، لتحرمه من النسبة التي كان يحصل عليها من الغاز الجزائري. وتتحرك الجزائر أيضا بوجه مكشوف لعرقلة مشروع الغاز المغرب -نيجيري العملاق، باعتماد مخططات سياسية للتضييق على الاعدادات المتعلقة بهذا المشروع بعد فشلها في ضربه من خلال قطع معبر الكَركَرات. إذن فالجزائر مستفيدة من عرقلة التجارة المغربية ومن أي ضرب لمصالح المغرب الاقتصادية في إفريقيا”.

وعلى إثر هذه الأحداث، أطلق مغاربة غاضبون وسما على منصة تويتر حمل عنوان “#الجزائر_دولة_إرهابية”، وإلى جانبه وسم رديف: “#البوليساريو_حركة_إرهابية. وردا على هذا الوسم، أطلق جزائريون وسما مضادا حمل عنوان: “#المروك_ [أي المغرب] مفرخة_الإرهاب”. ومن خلال هذه الوسوم تأججت نقاشات حادة وهجومات كلامية بين رواد شبكات التواصل الاجتماعي، ما زالت لم تضع أوزارها بعد. ولا يُتوقّع أن تضعها حتى لو انتهت نتائج التحقيقات الجارية حول هذا الحادث الغامض.

أكثر من علامة استفهام

من الغريب أن المهاجمين اكتفوا باعتراض الشاحنتين المغربيتين لإطلاق النيران عليهما بغرض القتل فقط، ولم يقوموا بسرقة لا محتويات الشاحنتين ولا أغراض السائقين. هكذا تفيد الملاحظات الأولية التي تمت معاينتها بمكان الحادث الإرهابي، بأن حجم الطلقات النارية التي أصابت مقدمة الشاحنة كان أكبر من حجم رصاصات رشاش الكلاشنكوف، وهو الرشاش الأكثر استعمالا من قبل الجماعات المسلحة في العديد من بؤر التوتر عبر العالم. فالآثار البليغة على رأس أحد السائقين (تفجير رأسه)، ترجح فرضية استعمال المهاجمين لرشاش من عيار 12,7 لأن الكلاشنكوف والرشاشات الخفيفة لا تحدث كل هذا الضرر.

كما أن إطلاق النار لم يستهدف عجلات الشاحنتين، بل تم إمطار مقصورتيهما بوابل من الرصاص، ما يؤشر على أن الهدف منذ البداية كان هو قتل السائقين المغاربة. ثم إن الاعتداء القاتل استهدف بالتحديد السائقين المغاربة، الرغم من مرور سائقين من جنسيات مختلفة من نفس الطريق. فما هي رسالة الاعتداء إذا كان الغرض من وراء القيام به هو توجيه رسالة ما إلى جهة مغربية ما؟

ولفك ألغاز هذا الحادث الإرهابي، تم تكليف جهاز الاستخبارات الخارجية المغربية (لادجيد DGED) بالتحقيق في ملابساته، بتنسيق مع السلطات المالية. والمعروف أن “لادجيد” يتوفر –على غرار أجهزة مغاربية وغربية أخرى– على حضور ببلدان الساحل منذ سنوات، في إطار محاربته للنشاطات الإرهابية. وعلى الرغم من أن السلطات المغربية آثرت التريث لغاية ظهور نتائج تحقيقاتها، إلا أن أغلب أصابع الاتهام توجهت سريعا صوب أجهزة الاستخبارات الجزائرية. وبعد صمت رسمي دام أياما قليلة، خرجت الخارجية الجزائرية عن صمتها، لتنفي بواسطة “مصدر دبلوماسي” في تصريح لصحيفة “الشروق” المقربة من المؤسسة العسكرية في الجزائر، تلك “الاتهامات غير المؤسسة ودون فائدة والتي لا تستحق الخوض فيها من الأساس”.

لكن الموقع غير الرسمي للجيش المغربي على الفيسبوك (فارماروك)، المعروف بكونه ينشر دائما معلومات حصرية وموثوقة، أشار صراحة إلى “تورط” المؤسسة العسكرية الحاكمة في الجزائر ومعها جبهة البوليساريو في حادث الاعتداء. وتوعد “فارماروك” أن «جنود الجيش الملكي المغربي البواسل قادرون على مد خطوطهم اللوجستية إلى أعماق إفريقيا، للدفاع عن مواطنيهم”. وأضاف الموقع قائلا: “المملكة لن تسمح لأي شخص بإراقة دماء السفراء وسائقي الشاحنات على الطرق الأفريقية. ولذلك ستنتقم الأجهزة المغربية للشهداء (سائقي الشاحنتين المغاربة) الذين عوملوا بهذه المعاملة من قبل المرتزقة الجبناء».

في ضوء ذلك، يبقى الموقف الذي تطرحه هذه المرحلة الجديدة من التوتر بين البلدين مثيرا لقلق جديد، ولسؤال كبير هو: إلى ماذا ستنتهي التحقيقات الاستخباراتية القائمة في مالي؟ وعطفا عليه سؤال أكبر: كيف سيتصرف المغرب حينها؟