مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. منذ أن قطعت الجزائر علاقاتها مع المغرب في 24 أغسطس 2021، ما فتئت الأوضاع تتدهور بين البلدين الجارين أكثر فأكثر كل يوم.. فبعد سباق التسلح الذي بلغ مستويات غير مسبوقة ومخيفة، وبعد “الحروب” حول الصحراءين الغربية والشرقية والمطبخ والأزياء وحتى حول اسم “المغرب”.. أتى الدور على “حرب” المياه لترفع من وتيرة التراشق الذي لا يخفت، حيث يغذي موضوع “حرب المياه” الدعاية العدائية على جانبي الحدود، في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. يحصل ذلك في ظل غياب اتفاقيات واضحة بين البلدين، تنظم تدبير الأحواض المائية المشتركة بينهما..
في المشهد يظهر سد ضخم مبني من الخرسانة المسلحة، وهو يمتد بشكل عمودي عند منحدر جبلي. وخلف بناية السد، ثمة مرتفعات ذات ألوان دافئة تتراوح بين البرتقالي والبني ما يكشف الطبيعة الصحراوية للمنطقة. وعلى الجانب الأيمن من الصورة، يبرز الماء ─هذا الذهب الأزرق─ هادئا مشكلا تباينا منسجما مع الأرض المحيطة. هكذا الوضع بسد جرف التربة الذي يبعد حوالي ثلاثين كيلومترا عن مدينة بشار الجزائرية القريبة من الحدود مع المغرب.
لكن الحال تغير اليوم بعد بناء سد قدوسة على وادي كَير على الجانب المقابل من الحدود في الأراضي المغربية. منذ غابر العصور، يحمل هذا الوادي المياه القادمة من السفوح الجنوبية الشرقية لجبال الأطلس الكبير المغربي على مسافة تزيد عن 400 كيلومتر، وكانت محطته الأخيرة ─حتى سنوات قليلة مضت─ تنتهي عند بحيرة سد جرف التربة الجزائري على الطرف الآخر من الحدود. ومنذ الشروع في تشغيل سد قدوسة القريب من مدينة بوذنيب المغربية عام 2021، انخفض تدفق وادي كَير بشكل قاتل لبحيرة سد جرف التربة، الذي تم تدشينه في ستينيات القرن العشرين من طرف الرئيس هواري بومدين. وهو السد الذي كان يزود حتى السنوات الأخيرة الماضية 200 ألف ساكن من مدينة بشار وضواحيها بمياه الشرب، بالإضافة إلى ريّ 5000 هكتار من أراضي المحيط الفلاحي لسهل العبادلة، وهي منطقة حدودية لطالما طالب بها المغرب منذ فترة طويلة.
سد قدوسة في دائرة الاتهام
انطلقت شرارة الأزمة فعليا سنة 2021، بعد تدشين المغرب لسد قدوسة الذي تصل سعته التخزينية إلى 220 مليون متر مكعب. وهو ما أثار غضب الجزائر التي تتهم الرباط بتعمّد “تجفيف” المناطق الحدودية، من خلال تقليص تدفق المياه نحو سد جرف التربة الجزائري، الذي يعد واحدًا من أكبر السدود في الجزائر، وتبلغ سعته 365 مليون متر مكعب.
وتصاعدت الاتهامات الجزائرية بشكل متكرر في المحافل الدولية خلال السنوات الأخيرة، وفق تقرير لصحيفة “لوموند” الفرنسية صدر قبل أيام. فقد حملت الجزائر، التي اعتبرت نفسها متضررة، القضية إلى الساحة الدولية، أولًا في 20 مايو 2024، خلال المنتدى العالمي للمياه في بالي بإندونيسيا، حيث ندد وزير الموارد المائية الجزائري طه دربال بـ “التجفيف الممنهج للسدود ومصادر المياه في أقصى غرب البلاد”. ثم ما بين 23 و 25 أكتوبر 2024 في ليوبليانا بسلوفينيا، خلال اجتماع يتعلق باتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود، عندما اتهم دون ذكر المغرب، “إحدى الدول المجاورة، التي من خلال سلوكها غير المسؤول، أخلت بالتوازن البيئي مما أثر بشكل خطير على الحيوانات والنباتات على طول الحدود الغربية للجزائر”؛ قائلا: “تعاني المناطق الغربية والجنوبية الغربية للجزائر من آثار سلبية ناتجة عن ممارسات الدولة المجاورة، المغرب، التي تعرقل وتدمر المياه السطحية العابرة للحدود”، بحسب وكالة الأنباء الجزائرية.
ميدانيا، ووفقا للإعلام الجزائري، تسبب تجفيف بحيرة سد جرف التربة في معاناة السكان المحليين من أزمة مياه حادة، بحيث لا تصل المياه لبعض الأحياء في مدينة بشار إلا مرة واحدة كل عشرة أيام. ما تسبب في كارثة بيئية تمثلت في نفوق عشرات الآلاف من الأسماك وهجران البحيرة التي كانت محطة لتوقف الطيور المهاجرة.
وفي مواجهة هذه الاتهامات، اتخذ المغرب كالعادة موقفا رسميا بالصمت وعدم التفاعل معها، سواء على المستوى الرسمي المحلي أو في المحافل الدولية، مكتفيا بالرد من خلال وسائل إعلام توصف بكونها مقربة من الدوائر الرسمية، التي اعتبرت الاتهامات الجزائرية “عبثية” ووصفت موقف الجزائر بـ”الهوس المرضي بالمغرب”، متهمة إياها بمحاولة التغطية على الفشل في إدارة مواردها المائية الداخلية، كما ذكرت هذه الوسائل الإعلامية أن الجزائر أصبحت “تسيس كل شيء، حتى نشرات الطقس”.
رهانات متضاربة على جانبي الحدود
وإذا كانت المياه قد دخلت بدورها دائرة النزاع بين البلدين، فذلك راجع أيضا وبالأساس إلى كون القضية على جانبي الحدود تتجاوز مجرد توفير الحاجة إلى مياه الشرب للسكان. فعلى الجانب الجزائري، وفي منطقة جافة لدرجة أن “المزارعين لم يعد بإمكانهم زراعة القمح”، بحسب المهندس جمال بلعيد، تم إنشاء مشروع صناعي ضخم “سيتطلب استهلاك كميات كبيرة من المياه”. فحاليا يجري إنشاء مجمع لصناعة الصلب بالقرب من بشار، يهدف إلى معالجة خام الحديد المستخرج من منجم غار جبيلات (تندوف) في الصحراء الجزائرية. وهو منجم كانت المغرب والجزائر تفكران في استغلاله معا في سبعينيات القرن الماضي، عندما توصل الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين إلى تسوية نزاعهما الحدودي. وسيتم نقل الخام إلى بشار عبر خط سكة حديد جديد يبلغ طوله 950 كيلومترا تم بناؤه بمساعدة شركات صينية. ومن المقرر أن يكتمل العمل في أوائل عام 2026.
بينما على الجانب المغربي، تتزايد أيضا احتياجات المياه، حيث تسعى المملكة إلى تطوير إنتاج مكثف للتمور في هذه المنطقة الجنوبية الشرقية، بينما كانت زراعة النخيل متمركزة حتى الآن في الواحات القريبة من الوديان. إن نظرة سريعة على برنامج غوغل إيرث تكفي لرؤية كيف أدت مزارع النخيل الشاسعة – وأحواضها الضخمة – التي ظهرت في السنوات الأخيرة في وادي بودنيب، أسفل سد قدوسة، إلى تحويل مظهر هذه المنطقة الصحراوية القاحلة.
مبدئيا، من المفترض أن يروي سد قدوسة 4000 هكتار من أشجار النخيل، بالإضافة إلى 825 هكتارا من أراضي الواحات التقليدية غالبيتها زراعات معاشية للسكان. ولكن المشروع لم يأخذ في الاعتبار تدفق المستثمرين إلى الوادي، حيث تمت زراعة ما يقرب من 9000 هكتار حتى الآن، ولا تزال المساحة قابلة للارتفاع إلى 15000 هكتار بدل 4825 هكتارا المبرمجة أصلا. وبالتالي فإن مساهمة السد غير كافية لري كل هذه المساحات، بحسب خبراء مغاربة، ما نتج عنه اللجوء إلى استغلال المياه الجوفية غير القابلة للتجدد.
وينسجم هذا المشروع مع مخطط “الجيل الأخضر” (2020-2030)، الذي جاء عقب انتهاء مرحلة مخطط “المغرب الأخضر”، الذي تعرض لانتقادات واسعة في البلاد بسبب استنزافه للمياه الجوفية من أجل إنتاج منتجات زراعية للتصدير إلى الخارج. هي مربحة فعلا، ولكنها لا تراعي واقع المناخ المحلي وتستغل موارد المياه بشكل مفرط حتى آخر متر مكعب متاح. وللتذكير، ففي العاشر من فبراير الماضي، حذر وزير التجهيز والمياه المغربي نزار بركة من انخفاض منسوب المياه الجوفية إلى “مستويات قياسية” (تصل إلى سبعة أمتار سنويا في منطقة بوذنيب حيث سد قدوسة)!
الجفاف ليس وحده السبب!
من الناحية العلمية والتقنية، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا وأقل حدة مما يروج له الإعلام في البلدين، حيث يرى خبراء دوليون أنه قبل بناء سد قدوسة، تمكنت الواحات المغربية من تحويل 8 ملايين متر مكعب من مياه وادي كَير سنويا عبر أنظمة الري التقليدية، من أصل 60 مليون متر مكعب تتدفق في المتوسط في الوادي. ومن المفترض مبدئيا أن يتم من خلال سد قدوسة تخصيص 30 مليون متر مكعب سنويا لري الأراضي الزراعية. وهو ما يعني فقدان الجزائر هذه الكمية من المياه، في وقت يواجه البلدان تحديا بيئيا مشتركا، يتمثل في تراجع التساقطات المطرية بشكل حاد في السنوات الأخيرة، حيث تكاد تخلو المنطقة من الأمطار، ما تسبب في جفاف شديد للمياه في الأودية. وفي سياق ذلك، فإن سد قدوسة نفسه لم يتجاوز منذ افتتاحه نسبة امتلاء 10 %، ولم ترتفع هذه النسبة إلا في سبتمبر 2024، حين وصلت إلى 28 % بفضل تساقطات استثنائية نادرة.
بالمقابل، يرى الخبير بالزراعة في المناطق الجافة المهندس الفرنسي الجزائري جمال بلعيد، بأن “سد جرف التربة في الجزائر يعاني في المقام الأول من الجفاف الذي يؤثر على البلدين، ويعاني خاصة من ارتفاع معدلات التبخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى قلة الأمطار ونقص الثلوج على قمم جبال الأطلس المغربية بسبب الجفاف المتواصل”.
لقد سبق أن أدت موجات الجفاف في السنوات الأخيرة إلى حصول اضطراب في تدفق مياه وادي كَير، التي كانت تشكل الجزء الأهم من إمدادات المياه لسكان مدينة بشار. غير أنه مع تشغيل سد قدوسة توقف تدفق المياه، وجد سكان بشار أنفسهم محرومين من الماء. لذلك أمرت السلطات الجزائرية بإنجاز سريع لنقل المياه من حقل تجميع مياه قطراني، وهي منطقة غنية بالمياه. وتتم عملية النقل على مسافة 200 كيلومتر وهي أشغال جبارة وهائلة، سبق أن استعرض الوزير الجزائري للموارد المائية تفاصيلها في بشار في يناير 2024. ويشمل هذا المشروع الضخم، الذي تبلغ كلفته أكثر من 30 مليار دينار جزائري (213 مليون يورو)، حفر 26 بئر وخط أنابيب بطول 213 كيلومترا نحو مدينة بشار، وكذا إطلاق شبكة قنوات لجمع المياه من نفس الآبار بطول 57 كيلومترا، وتشييد ثلاث محطات ضخ كبيرة ستسمح بنقل كمية من المياه تقدر بـ 80.000 متر مكعب.
لقد مكّنت الأمطار الاستثنائية التي هطلت في سبتمبر 2024 من تجديد تموين بحيرة سدّ جرف التربة، خاصة بفضل مساهمة مياه وادي زوزفانة، يوضح جمال بلعيد. وأعلنت وكالة السدود الجزائرية ─حينها─ عن امتلاء “قياسي” بحوالي 250 مليون متر مكعب من أصل طاقة استيعابية تبلغ 365 مليون متر مكعب. لكن بحسب الوكالة ذاتها، فإن مستوى ترسب الطمي [الوحل]في قعر السد “دفع إلى فتح العديد من بواباته لتأمين البنية التحتية للخزان”. وبحسب مختصين جزائريين، فإن الطمي المتراكم في السد أكثر كثافة من الماء، ويمارس ضغطا أكبر من ضغط الماء ويمكن بالتالي أن يهدد استقرار الخزان.
من جانب آخر، ووفقا للأرقام الرسمية في المغرب، يبلغ تأثير ترسب الطمي على قدرات تخزين المياه في جميع سدوده 75 مليون متر مكعب سنويا، وهو ما يمثل حجما إجماليا مفقودا من المياه العذبة يبلغ 2,7 مليار متر مكعب، أي ما يعادل حقينة ثلاثة سدود كبيرة. وفي يناير 2024، كشف وزير التجهيز والماء في حكومة عزيز أخنوش نزار بركة أن المغرب يواجه تبخرا يوميا يزيد عن 1,5 مليون متر مكعب من مياه السدود. وهي كميات هائلة جدا.
هكذا، بين تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب ومشروع تصدير التمور المغربي ومشروع الصلب الجزائري، من المتوقع أن يتزايد الاحتياج للمياه في المنطقة الحدودية بين البلدين. وفي غضون ذلك، يتعين على كل من المغرب والجزائر أن يواجها عدوان مشتركان هما تبخر المياه و تراكم الطمي في سدودهما، بدل تبادل الحملات العدائية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس