هل كان المغرب الكبير “اختراعا” للاستعمار الفرنسي؟

117
خريطة للمغرب الكبير (1843).
خريطة للمغرب الكبير (1843)

مصطفى واعراب

وفاء لعاداته البحثية في الموضوعات الإشكالية، ذات الصلة بماضي مجتمعات شمال أفريقيا التي ينحدر منها، يعود عالم الأنثروبولوجيا والأستاذ بجامعة كنساس الأمريكية، المفكر عبد المجيد حنوم المغربي الأصل، في كتابه الأخير “اختراع المغرب الكبير: بين أفريقيا والشرق الأوسط”، لموضوع ما يزال يثير كثيرا من الخلط والجدل، من دون أن ينال حقه من البحث الأكاديمي الرصين بلغة الضاد.

الكتاب الذي صدر (بالإنجليزية) في يونيو الماضي عن منشورات جامعة كامبريدج، هو تحقيق تاريخي أكاديمي مشوق حول أصل مفهوم “المغرب الكبير Maghreb”. وهو المصطلح الذي استنتج حنُّوم، اعتمادا على دراسته للمصادر العربية والأرشيف الاستعماري، بأن مُنَظري الاستعمار الفرنسي، قاموا باختراعه وتطويره ثم الترويج له على نحو واسع، في خدمة المشروع الاستعماري لفرنسا بالمنطقة، من خلال توظيفه في الخرائط.. بحيث ساهم هذا المصطلح الاستعماري في عزل المغرب والمنطقة عن بقية القارة الأفريقية وعن الشرق الأوسط (خصوصا مصر). فهل كان “المغرب الكبير” فكرة استعمارية؟ 

"اختراع المغرب الكبير: بين أفريقيا والشرق الأوسط"
“اختراع المغرب الكبير: بين أفريقيا والشرق الأوسط” – المفكر المغربي الأصل عبد المجيد حنوم

مقدمة تأطيرية لا بد منها

سادت إقليم المغرب الكبير (المغرب-الجزائر-تونس) حالات من الاستقلال السياسي على مدى فترات تاريخية طويلة، بخلاف مناطق الأناضول والشام العربي. فكان لسلطنة مراكش (المغرب حاليا) وضع مستقل وقوى، في وقت كانت باقي الدول الإسلامية تتعارك في ما بينها في المشرق العربي. وعضد استقلالَ المغرب ذلك الاتصال القوى، الذي قام على مدى ثمانية قرون (انتهى في العام 1492م) مع دويلات الإسلام في الأندلس. فشكل المغرب إمبراطوريات إسلامية قوية (المرابطون والموحدون) وإقليما مسلما قويا عند أقصى الجناح الغربي للعالم الإسلامي، صمدت في وجه الغرب الأوروبي الكاثوليكي.

لكن بحلول القرن 19، ضعف “داي” الجزائر(حاكمها العثماني)، و”باي” تونس (حاكمها العثماني أيضا)، وسلطان مراكش (المغرب لم يخضع أبدا لحكم العثمانيين) (ملك المغرب). فتقدمت فرنسا وحاصرت العاصمة الجزائرية وأمطرتها بالقنابل ثم احتلت الجزائر عام 1830، بعد اتفاق مع السلطات العثمانية. واحتلت تونس عام 1881، ثم أخيراً دخل الفرنسيون فاس عاصمة المغرب وقتها في عام 1912. ليقع المغرب تحت الاحتلالين الفرنسي والإسباني.

ورغم أن الاحتلال الإسباني لعب دورا مؤثرا في المغرب، كما لعب المغاربة المتعاونون مع مدريد بالمقابل دورا مهما في الحرب الإسبانية الأهلية (1936-1939)، ولاحقا في الجمهورية الإسبانية خلال سنوات حكم الجنرال فرانكو (1939-1975)، إلا أن فرنسا لعبت دورا مؤثرا سياسيا وثقافيا أكبر في كل بلاد المغرب العربي. وبعد دراسات ثقافية عميقة قام بها مثقفون فرنسيون عملوا في الجيوش الاستعمارية الفرنسية، ولاحقا تم اعتبارهم من رموز الفكر “الليبرالي” والحركة الثقافية العالمية، وجد الفرنسيون بأن شعوب الدول الثلاث (تونس-الجزائر-المغرب) ينظرون إلى خصوصيتهم الثقافية، باعتبارهم مسلمون دون إيلاء أهمية كبرى إلى العرق أو القومية.

وتفاجأت الدراسات الاستعمارية التي أنتجها “مفكرو” الاستعمار الفرنسي، بأن شعوب المغرب الكبير maghreb كانت شعوبا مترابطة، حيث وجدوا الشعب المغربي والجزائري والتونسي، أشبه بقومية موحدة تدين بدين الإسلام دون مشاكل عنصرية أو طائفية أو طبقية أو حتى عشائرية أو قبائلية. وبهذا الصدد، كشف المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل (1805 – 1859)، الذي يعد من ألمع رموز الليبرالية الفرنسية، والذي شغل منصب وزير الخارجية كما تولي منصب رئيس إقليم المانش الفرنسي، عن درجة جهل الأنتلجنسيا الباريسية (أي النخبة الثقافية في باريس) في كتابته “تقرير عن الجزائرRapport sur l’Algérie” الصادر عام 1847، حين قال: “لم تكن لدينا فكرة واضحة عن الأعراق المختلفة التي سكنت البلاد، أو عن عاداتهم. كذلك لم نكن على دراية بأية كلمة من اللغات المنطوقة هناك”. لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بأن “جهلنا الكامل تقريبا بكل هذه الأمور، لم يمثل عقبة أمام انتصارنا. لأن النصر في المعركة حليف الأقوى والأكثر جسارة، وليس الأكثر اطلاعا”.

هكذا قرر الغزاة الفرنسيون تقسيم تلك المجتمعات الموحدة إلى قوميات. فأعادوا كتابة تاريخها وفق ما يخدم أهدافهم الاستعمارية، وخلقوا قومية الأمازيغ أو البربر لتفكيك وحدة الشعوب المغاربية، على أساس أن اللغة العربية هي التي كانت سائدة في تلك الدول. وهكذا نجحوا في لعبة “فرق تسد” لإشغال تلك الشعوب عن مقاومة الاستعمار وعن التوحد في وجه أوروبا لاحقا. لتصبح دول شمال أفريقيا في حرب أهلية دائمة، وكل دولة (خصوصا الجزائر والمغرب)تنهشها حرب ثقافية واضطرابات شعبية بين قوميتين صنعهم الغرب: القومية العربية وقومية الأمازيغ. على أساس أن الأمازيغ هم أصحاب الأرض الأصليون، والعرب مجرد “وافدين”.

واجتهد مفكرو الغرب الاستعماري كثيرا في خلق صلات ما بين البربر من جهة، واليونانيين والقوط من جهة أخرى، من أجل تعميق الأصول الثقافية والعرقية للبربر، وإنتاج فكرة مفادها أن البربر هم السكان الأصليين لشمال أفريقيا والمغرب الكبير. وأنه لا يوجد بالتالي تجانس عِرقي ولا وحدة أو إثنوغرافية او أنثروبيولوجية بين كافة تلك القبائل التي يطلق عليها بربر أو أمازيغ أو طوارق. بمعني أن قبائل أو بدو شمال أفريقيا هي قبائل متفرقة، وعشائر لا تجمع بينها أصول عرقية أو قومية واحدة.. وأن أي بحث جاد في هذا المضمار سوف يصطدم بصعوبة في التوفيق، بين الجداول الزمنية والأصول العرقية والبشرية والشكل العام للغات، والأنثروبولوجيا الفيزيائية، وعلم الآثار، والأنثروبولوجيا الثقافية. لكن عندما فشلت فرنسا الاستعمارية في صناعة قومية عرقية على مقاس مصالحها، لجأت إلى التلاعب بقومية اللغة. فخلقت فرضيات علمية لم تكن موجودة قبل الاحتلال الفرنسي.

ومن أجل تفكيك تلك “الأساطير المؤسسة للاستعمار الفرنسي”، انكب عدد من مثقفي وباحثي الأجيال الجديدة من أبناء المغرب الكبير منذ عقود، على تفكيك تلك الطروحات الاستعمارية التي ما زالت منغرسة مثل إسفين مسموم، تمزق الشعوب المغاربية في ما بينها، وتفكك عرى مجتمعاتها بعد أكثر من نصف قرن على نيل الدول المغاربية استقلالاتها.

ومن هؤلاء المفكرين، نجد البروفيسور عبد المجيد حنوم، الذي يكشف العواقب التي خلّفتها -ولا تزال-السردية الاستعمارية، حول نشأة المجموعات الإقليمية في شمال أفريقيا. لأن الخطاب الاستعماري حسب رأيه، لم يكتف فقط بزعزعة الهويات والتقاليد هناك، بل خلق أخرى من العدم بحيث قد تبدو محلية أصيلة، لكنها لم تكن أبدا كذلك. ويعد مصطلح “المغرب الكبير” من أهم هذه “الاختراعات”، كما يسميها حنوم. يقول: لنتمعن في تسمية المغرب (Maghreb)التي لا خلاف حولها تقريبا. فهي تبدو عربية، بل ومحلية حتى نابعة من صلب التقاليد المنطقة. ومع ذلك فهي أيضا تسمية فرنكوفونية تم اختراعها انطلاقا من تقليد عربي مُترجَم، يخفي “نبرته الأجنبية” الاستعمارية.

لقد ساهم هذا المصطلح، الذي درسه الكاتب من خلال الأرشيف وعلى الخصوص محفوظات “المكاتب العربية (“بيرو عْرَب” Bureaux arabes) التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي، في عزل المنطقة عن بقية القارة الأفريقية وعن الشرق الأوسط.

الاستعمار هو من رسم الحدود

تم عزل المنطقة المغاربية كبناء جغرافي وتاريخي وأنثروبولوجي، من قبل منظري الاستعمار الفرنسي، عن القارة الأفريقية والشرق الأوسط على السواء.  بالطبع، كما يذكر بذلك حنوم، إن فكرة كون مصر والمغرب الكبير منطقتان متمايزتان، ليست مجرد فكرة استعمارية. فقد سبق أن ميّز الرومان والعرب مصر عن أفريقيا/إفريقية. لكنهم لم يطرحوا أبدا فكرة وجود أفريقيا “بيضاء” منفصلة عن أفريقيا “سوداء”، وهي الفكرة التي طورها الجغرافي الفرنسي “إميل فيليكس غوتييه” لاحقا، وتبناها بدوره المؤرخ شارل-أندريه جوليان.

يقترح كتاب حنوم تفكيرا حول دور التاريخ وعلاقته بالسلطة. فيلاحظ بأنه، على عكس الدول الاستعمارية، لم يطور العثمانيون كثيرا أساليب السلطة المبنية على سرد تاريخي موجه إلى المجتمعات الواقعة تحت وصايتهم. فقد أخذت الكتابات التي تصف الماضي العثماني شكل سجلات أو حوليات، لكنها لم تكن أدوات لبناء الأمم. فقد كانت الفكرة تكمن في إضفاء الشرعية على حكم السلطان العثماني، وليس في منح شرعية لرعاياه من خلال سرد تاريخي. ويُظهر حنوم بأن الحداثة الغربية لم تتميز بانتقال التاريخ إلى مرتبة العلم، بقدر ما تميّزت بمروره إلى تخصص يضفي شرعية على بناء الأمة ومباركة الدولة.

في المقابل، وكما يقول في كتابه، يبقى التاريخ في الولايات العثمانية “حتى في أعمال أحمد بن أبي الضياف، تابعا للدين وليس أداة رئيسة للبناء الوطني”. وقد تم تحقيق البناء الوطني هناك دون الانفصال عن مركزية الإسلام. ويذكر المؤلف أنه منذ القرن السابع عشر، كان يُنظر إلى النظامين القائمين في تونس والجزائر على أنهما مستقلان، وكانا يتفاوضان بالفعل على هذا الأساس مع القوى الأوروبية. أما الجهود التي بذلت لاحقا في تصوير ووصف جغرافيا حدود المغرب الكبير، فقد كانت من فعل ضباط وباحثين وأعوان استعماريين فرنسيين. وقد واصل بعد الاستقلال العديد من المؤرخين المحليين والوطنيين، تبني نماذج سرد ذات وحي استعماري، وكتابتها باللغة الفرنسية. وهنا تكمن الحقيقة المحزنة في أن الفرنسية -وليس العربية-تظل هي لغة دراسة المنطقة وتاريخها وثقافتها وسكانها، بل وحتى حياتها الجنسية الحميمة.

خريطة شمال أفريقيا في العام 1771
خريطة شمال أفريقيا في العام 1771 في الخرائط الأوروبية القديمة كانت المناطق ما بين المغرب الأقصى وغرب ليبيا الحالية تسمى “بارباريا”

“المغرب الكبير” بدعة خرائطية

هناك عدة مداخل تدعم فكرة الاختراع الفرنسي لـ “المغرب الكبير”. يجمع المدخل الأول بين الجغرافيا ورسم الخرائط، حيث تعتبر الخرائط نماذج ثقافية مصطنعة تنتجها السلطة ومؤسسات الدولة. يقول حنوم: “مثلما تحتكر الدول الإنتاج التاريخي، فهي تحتكر إنتاج رسم الخرائط كذلك”. وبالتالي، فإن خريطة المغرب الكبير هي تمثيل رسومي أنتجته القوة الاستعمارية. و”المغرب الكبير نفسه ليس مجرد ابتكار استعماري فرنسي فحسب، بل هو أيضا نتاج ومجال القوة الاستعمارية”.

لقد كان رسامو الخرائط الأوروبيون في القرن الثامن عشر يُمثِّلون على خرائط المنطقة المغاربية منطقة سموها “بارباري Barbarie”، وكانت مقسمة أحيانًا إلى وحدات متميزة (مملكة المغرب، مملكة الجزائر، مملكة تونس، مملكة طرابلس)، واستُبعدت منها مصر وأيضا “أفريقيا السوداء” (المسماة “نيغريتيnégritie “، أي ما يمكن ترجمته بـ”بلاد السود”). وإذا كانت المنطقة لم تنتظر حتى سنوات 1830 (تاريخ استعمار الجزائر) ليتم رسم خرائطها، فإن احتلال الجزائر وضمها إلى فرنسا قد خلق قطيعة مع الخرائط القديمة. فمع تقدم الغزو، كان الوجود الفرنسي في الجزائر بمثابة حجة لفرنسا لتثبت نفسها أيضا في تونس على حساب إيطاليا، وفي المغرب على حساب إسبانيا.

هكذا لم تتأخر الخرائط في إظهار منطقة شمال أفريقيا، وقد استبعدت منها ليبيا التي كانت آنذاك تخضع لنفوذ إيطاليا، ومصر التي كانت تحت النفوذ البريطاني. أي بعبارة أخرى، تعمدت فرنسا خلط أفريقيا مع “الممتلكات” الفرنسية الأخرى. ويرى حنوم بهذا الصدد، بأن “الأطالس (جمع “أطلس” وهو الكتاب الذي يضم خرائط) ليست مجرد خرائط يجب قراءة علاماتها وفك شفرتها”، فهي تمثل كذلك تعبيرا عن ميزان القوى. لذلك لم يكن الفصل الخرائطي بين شمال أفريقيا وغربها وشرقها قائما على الحقائق الأنثروبولوجية المحلية، بقدر ما كان مرتبطا بالتنافس بين القوى الاستعمارية.

“المغرب الكبير” والتلاعب بالتاريخ

يكمن المدخل الثاني في علم الآثار، الذي يُعرَّف على أنه أحد أهم التخصصات المساهمة في تشكيل الهويات الوطنية الحديثة. فيشير حنوم بخصوص الاهتمام بالآثار القديمة في الجزائر وعموم المغرب الكبير، بأنه على الرغم من أن المخيلة الاستعمارية الفرنسية شملت التاريخ الإسلامي والتاريخ الروماني على السواء، إلا أنها تَعتبر الأول على أنه “الآخر”، بينما يتوافق الثاني مع الـ”نحن”. يقول حنوم: “لقد ساهم وجود الآثار الرومانية في الجزائر والاهتمام الذي أثارته، في بناء سردية تجعل من الجزائر امتدادا لروما القديمة، وبالتالي لفرنسا بالتماثل. وهكذا، بتفضيله لعلم الآثار الرومانية، قلل البحث الاستعماري من السرديات الأخرى، أي البونيقية والعربية والإسلامية والبربرية. وهكذا اعتُبر العرب سكانا غير شرعيين للجزائر وللمغرب الكبير، لأنهم أتوا من الشرق إلى منطقة كانت -من جهتها-غربية “تاريخيا”.

ويدفع ذلك حنوم إلى صياغة مفهوم الدولة المؤرخة (historiographic state). فابتداء من عام 1870، فرضت دولة استعمارية نفسها في الجزائر، ولم تكتف بإنتاج وسائل لمعرفة المستعمرة وحكمها، بل وقامت كذلك بتغيير المستعمرة عن طريق وبفضل هذه المعرفة نفسها. لذلك، احتل التاريخ مكانة مركزية كاختصاص يضفي الشرعية على السيادة الاستعمارية. وقد أصبح هذا النظام أكثر تعقيدا بعد ذلك، بفضل مؤسسات قوية مثل جامعة الجزائر، حيث كانت تُدَرس شخصيات مهمة مثل ستيفان غْزيل وفرناند بروديل.

فحوّلت “الدولة المؤرخة” الجزائر إلى أراض فرنسية، وأنشأت الأسس الدلالية لما سمي بالمنطقة المغاربية. وفي هذا، تختلف هذه الدولة عن “الدولة الإثنوغرافية”، التي كانت الشكل الذي اتخذته السلطة الفرنسية في الأيام الأولى للغزو العسكري. فبعد عام 1870، حلّت السلطة المدنية محل السلطة العسكرية، وحلّت الدولة المؤرخة محل الدولة الإثنوغرافية. وحل المؤرخون محل الضباط الإثنوغرافيين في “المكاتب العربية”، وأصبحوا أعوان تأكيد أحقية الاستعمار بآثار الماضي. بعبارة أخرى: جعل التاريخ نفسه -كما هو الحال عموما-في خدمة متطلبات الحاضر.

تقسيم جديد للمجتمعات المغاربية  

قامت الأدلة السياحية guides touristiques للمغرب الكبير، بتعزيز فكرة كون المنطقة المغاربية تشكل وِحدة متكاملة، وأنها على الرغم من المسافة والانقطاع الجغرافي بينها وبين فرنسا، فهي تشكل استمرارية لها من خلال روابط تاريخية. فقد جرى وصف أنقاض وليل بـ”بومبي المغربية”، لربطها بحضارة لاتينية نصبت فرنسا نفسها وريثة لها. وتم رسم هذا المغرب الكبير الذي يشبه صور البطاقات البريدية الجميلة التي تظهر مواقع أثرية، في شكل أدبي من قبل روائيين فرنسيين، منذ غوستاف فلوبير وصولا إلى ألبير كامو.

ويتمثل المدخل الثالث في ثلاثية “اللغة والعرق والإقليم”. فحتى يومنا هذا، يعطي وصف المنطقة المغاربية أهمية مركزية للتمييز بين العرب والبربر. وقد تم تشكيل هذا التقسيم على أساس عرقي، مستوحى من نظرية العرق لـ “آرثر دو غوبينو”، التي هيمنت في أوروبا حتى ما بعد القرن 19. فيشير حنوم إلى أنه غداة الغزو العسكري الفرنسي للجزائر، لم يفوّت الزائرون الأوائل للجزائر -ومن بينهم “ألكسيس دو توكفيل” (مفكر سياسي فرنسي) و”لويس آدريان باربروغر” (عالم آثار) -فرصة الإشارة إلى تنوع سكانها. وقد رأى باربروغر في سكان الجزائر ممثلين عن “العرق السامي” الوحيد، فكان يعترف بأن هذا العرق يتميز بقوة تنوع مكوناته اليهودية والتركية والموريسكية والكرغلية (التركية) والبربرية والعربية.

بالمقابل، وفق حنوم فقد اختفى ابتداء من العقد التالي، أي بعد سنوات 1850، وصف التنوع العرقي من الروايات لصالح التقسيم فقط بين العرب والبربر. ويرى حنوم بأن “المكاتب العربية” هي التي كانت وراء هذا التقسيم، إذ قامت بتمييز واضح بين العرب والبربر في الجزائر أولا، ثم في المغرب بعد ذلك، مع إنشاء مصلحة شؤون “السكان الأصليين” (service des indigènes)، التي خلفت “المكاتب العربية”.

ويرى حنوم أن فكرة إقامة حاجز بين العرب والبربر، واعتبار العربية لغة غير أصلية، يختلف عن تصور عربي للغة الذي هو أكثر مرونة، إذا عدنا في ذلك إلى تعريف ابن خلدون. فقد كان هذا الأخير يميز بين اللسان واللغة، إذ إن اللغة، هي اللغة المجردة التي يتحدث بها ويكتبها جيل ما. أما اللسان، فهو تحديثٌ للغة كما يمارسها السكان في الحاضر. إنها لغة الممارسة الحية والمتغيرة بالانتقال من جيل لآخر. وقد كان لابن خلدون، الذي كان يدرك بأن اللسان قد يتغير من خلال الاتصال مع غير الناطقين باللغة العربية، مفهوم ديناميكي للغة.

من هو عبد المجيد حَنُّوم؟

البروفيسور عبد المجيد حنوم - مفكر من أصل مغربي
البروفيسور عبد المجيد حنوم – مفكر من أصل مغربي

البروفيسور عبد المجيد حنوم، الذي لا يعرفه أغلبية المغاربة ولا العرب، من مواليد مدينة مكناس المغربية في 1960. درس إلى حدود 1985 بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس، قبل أن يسافر إلى فرنسا التي حصل فيها على دكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون في 1991. وفي تلك السنة انتقل إلى أمريكا التي استقر بها إلى الآن. وبعد حصوله على دكتوراه في الفلسفة من جامعة برنستون المرموقة في 1995، اشتغل في البحث الفكري والتدريس الجامعي بكل من جامعات برنستون نفسها، وكولومبيا وكنساس.

لقد أنتج عالم الأنثروبولوجيا والأستاذ بجامعة كانساس حاليا د. عبد المجيد حنوم، أعمالا أكاديمية مهمة عن تاريخ وأساطير شمال أفريقيا. وقد أوصله عمله بالاعتماد على المصادر العربية والأرشيف الاستعماري، إلى تحليل شخصية الملكة البربرية “الكاهنة” بدقة، كما درس بعمق العلاقة بين الاستعمار والعنف والحداثة. وقد نشرت هذا العام منشورات جامعة كامبريدج، كتابه الأخير “اختراع المغرب الكبير: بين أفريقيا والشرق الأوسط”، والذي يطرح للتفكير والنقاش السؤال المركزي: هل “المغرب الكبير” فكرة استعمارية؟”.

من مؤلفاته (جميعها بالإنجليزية): “أسطورة الكاهنة: بطلة من شمال أفريقيا” (2001)، و”الحداثة العنيفة: فرنسا بالجزائر” (2010)، و”الممارسة الصوفية” (2016)، و”الحياة في طنجة: هجرات وأعراق وإقامة غير شرعية في مدينة مغربية” (2019).