مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. الحكاية ليست جديدة، فمنذ 2019 يتداول الإعلام ونخبة المحللين وكبار متقاعدي الجيش في إسبانيا، شائعات وتحليلات كثيرة حول وجود نية أمريكية في إغلاق قاعدتين عسكريتين بالجنوب الإسباني، وإعادة نشرهما في المغرب؛ دون أن يحدث ذلك.
لكن في الشهور والأسابيع القليلة الأخيرة، تواترت مؤشرات جدية على القلق لدى الحكومة الإسبانية حول شروع فعلي (مفترض) في التخلي عن القاعدتين، في إطار استراتيجية جديدة لواشنطن لإعادة نشر قواتها؛ مع ما قد يترتب عن ذلك على المستويات العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية بالنسبة إلى مدريد.
فما هي حكاية هذا “القلق” الإسباني القديم- الجديد؟ وما الذي قد يدفع البنتاغون أصلا إلى نقل قواعده من إسبانيا؟ وإلى أين؟ وبأي شكل من شأن ذلك أن يعيد ترتيب موازين القوى في المنطقة؟
حكاية قديمة- جديدة
كل شيء بدأ مع وزير الخارجية الإسباني الأسبق خوسيه مانويل غارسيا مارغالو، الذي كشف في كتابه “مذكرات سياسي من أقصى اليمين غير التقليدي” الذي صدر عام 2019، أن إدارة الرئيس جورج بوش سبق أن درست مشروع نقل قاعدتيها العسكريتين (روتا ومورون) الموجودتين على الأراضي الإسبانية إلى المغرب.
وفي صيف العام 2020، قالت صحيفة “إل إسبانيول” بأن وزيرة الدفاع مارغريتا روبليس كشفت جلسة استماع في مجلس الشيوخ في مايو 2020، بأن المغرب عرض استضافة بعض السفن الحربية الأمريكية التي تبحر في البحر الأبيض المتوسط، في قاعدة القصر الصغير. وهو الاقتراح الذي أثار جدلا واسعا في صفوف قيادات الجيش الإسباني، وفق المصدر نفسه.
ثم عاما واحدا بعد ذلك، وتحديدا في 2 يوليو 2021، زعمت قناة i24News الإسرائيلية، نقلا عن “مصادر إسبانية” لم تكشف عنها، أن الحكومة الإسبانية “تشعر بقلق بالغ إزاء احتمال نقل القاعدة البحرية الأمريكية في روتا جنوب إسبانيا إلى المغرب”. فتلقف الإعلام الإسباني الخبر، واستفاض محللون عسكريون في تحليل خلفياته وانعكاساته المحتملة على بلادهم؛ وأعربوا عن خشيتهم من أن يتم نقل القاعدتين العسكريتين الأميركيتين، في “روتا” (بمدينة قادس) و”مورون دي لا فرونتيرا” (مدينة إشبيلية) إلى حليفها المميز المغرب.
وما منح الخبر مصداقية أن توقيت هذا العرض، الذي لم يكن مطمئنا بالنسبة للإسبان، تزامن مع انتهاء اتفاق التعاون العسكري الذي كان يربط مدريد وواشنطن منذ الأول من ديسمبر 1988، والذي كان من المقرر أن ينتهي في مايو 2021. والأمر الأكثر إثارة للقلق تمثل في أن الولايات المتحدة لم تقدم حتى ذلك الوقت طلبا رسميا لتمديد وجودها في قاعدة روتا.
كانت الحكومة الإسبانية قد أثارت هذه القضية مع إدارة ترامب في عدة مناسبات. بداية في قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت يومي 3 و4 ديسمبر 2019 في لندن، حيث اقترح رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز على الرئيس دونالد ترامب تمديد إطار التعاون العسكري الذي كان سينتهي في مايو 2021. ومع انتخاب جو بايدن (في 2020) رئيسا للولايات المتحدة، أصبحت هذه القضية محور المناقشات بين المسؤولين من البلدين، في أكثر من مناسبة. كانت إسبانيا ترغب في تمديد الاتفاقية لعدة سنوات أخرى، بينما وزير الدفاع الأمريكي حينها لويد أوستن منشغلا بإعداد خطة لإعادة نشر القوات الأمريكية في الخارج.
لكن من دون ضجة كبيرة، مددت الولايات المتحدة وإسبانيا وجود الجنود الأميركيين في قاعدتي روتا ومورون لمدة عام آخر في مايو 2021، وأعلن عن ذلك قائد القوات المسلحة الأميرال تيودورو كالديرون. ومر الخبر مرور الكرام، باستثناء بعض وسائل الإعلام في الإسبانية التي أوردت الخبر بشكل عادي.
إنذار ترامب يقض مضاجع مدريد
غير أن الحديث عن نقل القاعدتين إلى المغرب عاد ليقلق الإسبان مجددا في مارس 2023، عندما حل الجنرال مارك ميلي في أول زيارة له للقارة الإفريقية، كرئيس لهيئة الأركان المشتركة للولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب. واجتمع على رأس وفد أمريكي هام في 5 مارس 2023 بالرباط، بالوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني عبد اللطيف لوديي، وكبار المسؤولين العسكريين المغاربة. ثم انتقل إلى جنوب إسبانيا قادما إليه من المغرب، دون أن يلتقي بالمسؤولين العسكريين الإسبان، حيث اقتصرت لقاءاته على المسؤولين الأمريكيين بقاعدة روتا وزيارة حاملة طائرات كانت راسية بها. فأعاد ذلك الجدل في الجارة الشمالية حول وجود نية أمريكية في نقل القاعدتين الأمريكيتين إلى المغرب، حتى أن السفارة الأميركية في الرباط اضطرت إلى تكذيب تلك المزاعم، حيث أصدرت في 28 يونيو 2023 مذكرة توضيحية، أفادت بأن “الولايات المتحدة ليس لديها نية لنقل قواتها ومعداتها من قاعدة روتا البحرية في جنوب إسبانيا إلى قاعدة القصر الكبير المغربية”. وأضافت المذكرة، التي نشرت بعد نشر تقارير صدرت بهذا الشأن في العديد من وسائل الإعلام المغربية، بأن “الولايات المتحدة لم تتلق أي عرض من المغرب، لنقل القاعدة البحرية الأمريكية من روتا إلى القصر الكبير”، وخلصت إلى أن” التقارير التي تفيد بأن الاتفاق بين البحرية الأميركية وشركة روتا سينتهي قريبا غير دقيقة”.
غير أن القلق الإسباني أصبح خوفا حقيقيا منذ مطلع السنة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عكسه الجدل الذي تجدد بقوة أكبر بسبب ظهور مؤشرات على تغير الموقف فعليا بخصوص القاعدتين. ونقل الإعلام الإسباني عن “خافيير رويز أرانا” عمدة مدينة روتا، قلقه من حالة عدم اليقين المتزايد بشأن مستقبل القاعدة بمدينته، منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، “بعد 70 عاما من التعايش السلمي بين مدينته والقاعدة البحرية الأمريكية”. وكشفت تقارير أن الوضع في قاعدة الجوية أضحى مثيرا جدا للقلق، في ضوء عمليات التسريح المتتالية للمستخدمين الإسبان، حيث تم فصل أكثر من 400 إسباني يعملون في القاعدة واستبدالهم بمحترفين أو عسكريين أمريكيين. ولا تتوقف تداعيات الوضع الجديد فقط على الخوف من مئات المستخدمين الإسبان الذين يشتغلون في القاعدتين الأمريكيتين، بل على الأمن القومي الإسباني نفسه.
فقد سبق أن حذر الرئيس الأميركي دونالد ترامب دول حلف شمال الأطلسي، التي لا تخصص ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، من أنها لن تحصل على الدعم العسكري الأميركي في حال دخولها في حرب. وإسبانيا هي واحدة من الدول الثماني الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي تحبس أنفاسها حاليا، لأنها لم تحقق الهدف الذي حدده ترامب، وهو ما قد يكون له عواقب كبيرة على إذا تحققت تهديداته. وقد يعجل ذلك ─إلى جانب أسباب وحيثيات أخرى─ بنقل القاعدتين إلى خارج إسبانيا.
إعادة انتشار في الأفق
لقد كانت قاعدة مورون الجوية مع قاعدة روتا البحرية، من بين أربع قواعد عسكرية أمريكية أَقيمت في إسبانيا في عام 1953، بعد التوقيع على “ميثاق مدريد” بين الرئيس الإسباني فرانكو والأمريكي دوايت أيزنهاور. كانت إسبانيا حينها تكتسي أهمية استراتيجية لدى الولايات المتحدة، في أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة لعقود طويلة بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. لكن هذه الأهمية الاستراتيجية تراجعت بشكل واضح خلال العقد الأخير، حيث يرى محللون إسبان بأن أهمية بلدهم تراجعت بمقابل تزايد الأهمية الاستراتيجية للمغرب. ويتوقعون بالإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، أن يحتضن القاعدتين الأمريكيتين في روتا ومورون في سياق إعادة نشر القوات الأمريكية. خصوصا وأنه حليف قديم لواشنطن، كما تقدم صحراؤه الغربية موقعا متقدما قريبا من منطقة الساحل والصحراء، التي باتت أخطر بقعة على وجه الأرض وفقا لآخر التقارير. وتساعد علاقات الرباط المميزة بقادة دول الساحل الجدد في التنسيق معها، لشن حرب مركزة على الجماعات المسلحة، التي باتت تتحرك في شكل جيوش صغيرة مسلحة بأسلحة متطورة.
وفي سياق ذلك، يقول الخبراء إن المشهد الإقليمي المتغير، يجبر الولايات المتحدة على تغيير موقفها وإعادة نشر مواردها العسكرية، لمواجهة التحديات المتعددة القادمة من منطقة الساحل. وفي هذا الإطار، يظهر المغرب كشريك موثوق، حيث يستضيف سنويا منذ 2007 مناورات “الأسد الأفريقي”، وهي واحدة من “أكبر المناورات وأكثرها تعقيدا في العالم”، بتعبير قادة البنتاغون، حيث يشارك فيها بشكل مباشر آلاف الجنود من ثماني دول على رأسها المغرب والولايات المتحدة، بالإضافة إلى مراقبين من الجيوش المشاركة. وتجري أطوارها في مناطق متفرقة من جنوب ووسط وغرب المغرب، على سيناريوهات معارك مفترضة تدور تحديدا مع مجموعات مسلحة، بما في ذلك مواجهة تهديدات الحرب الكيماوية والنووية.
وتعززت العلاقات بشراكة عسكرية استراتيجية تنظمها ترسانة قانونية هامة، من بينها على الخصوص “خارطة الطريق للتعاون في مجال الدفاع للفترة ما بين 2020 و2030″، الموقعة في أكتوبر 2020 بمناسبة زيارة وزير الدفاع الأمريكي للمغرب، والتي سمحت للرباط باقتناء أسلحة أمريكية (وإسرائيلية) متطورة جدا، مكنت من قلب موازين القوى لفائدة المغرب.
وضمن واقع التحولات الجارية على مستوى المنطقة والعالم، يتوقع محللون إسبان بالإضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، أن يحتضن المغرب القاعدتين الأمريكيتين في روتا ومورون في سياق إعادة نشر القوات الأمريكية. خصوصا وأنه حليف قديم لواشنطن، كما تقدم صحراؤه الغربية موقعا متقدما قريبا من منطقة الساحل والصحراء، التي باتت أخطر بقعة على وجه الأرض وفقا لآخر التقارير. وتساعد علاقات الرباط المميزة بقادة دول الساحل الجدد في التنسيق معها، لشن حرب مركزة على الجماعات المسلحة، التي باتت تتحرك في شكل جيوش صغيرة مسلحة بأسلحة متطورة.
القصر الصغير والصحراء المغربية؟
المعروف أن احتضان قواعد عسكرية للقوة العسكرية الأولى في العالم، يمنح الدولة المحتضِنة أهمية استراتيجية وقوة ردع كبرى. ولذلك ظلت إسبانيا لعقود طويلة تستقوي على المغرب باحتضانها قواعد أمريكية، وعضويتها في حلف الأطلسي. ويفسر ذلك سر التوجس الإسباني، حيث أصبحت القاعدة البحرية الخامسة في القصر الصغير، منذ أن شرع المغرب في بنائها في عام 2008، مصدر قلق للحكومة والمؤسسة العسكرية في الجارة الشمالية. خصوصا وأن القاعدة التي استغرق تشييدها وتوسيعها وتجهيزها قرابة عقد من الزمن، باتت مجهزة بأحدث تجهيزات المراقبة والتدخل على مسافة كيلومترات من التراب الإسباني.
ويتجلى هذا القلق بوضوح في التغطية الإعلامية الهجومية المتواصلة، لهذا الموضوع في السنوات الأخيرة. وقي إطار “منافسته” المزعومة لإسبانيا حول احتضان قواعد أمريكية، ولكي يمنح نفسه كل فرص النجاح، زعمت تقارير إسبانية نقلا عن “مصدر عسكري مغربي” لم تذكر من هو ولا صفته، بأنه “ضاعف أربع مرات مساحة قاعدة القصر الصغير البحرية، إلى درجة أنها أصبحت قادرة على استيعاب الغواصات والبوارج الضخمة”. ويأتي هذا التوسيع بعد زيارة قام بها ضباط أميركيون كبار إلى موقع بناء القاعدة، لتقييم قدرتها على استقبال السفن التابعة للبحرية الأميركية.
وما يجعل القاعدة المغربية أقرب بديل، أنها لا تبعد عن القاعدة البحرية الأمريكية في روتا الإسبانية سوى مسافة 100 كم، بينما تتميز القاعدة المغربية بموقع استراتيجي أفضل مقارنة بقاعدة روتا[أنظر الخريطة]. وتوفر قاعدة القصر الصغير الواقعة في أقصى شمال المغرب، بموقعها الاستراتيجي عند مدخل مضيق جبل طارق بين مدينة طنجة وسبتة المحتلة، سيطرة أكبر على المضيق بالنسبة للولايات المتحدة، في حين تقوم الرباط بإنشاء ثلاث قواعد عسكرية أخرى في ككل من كَرسيف وجبل العروي والناظور، مشكلة طوقا يحاصر مدينة مليلية المحتلة. بالإضافة إلى الحصول على معدات عسكرية متطورة جدا من الولايات المتحدة. وتشير تقارير إعلامية في هذا الصدد، إلى أن المغرب عرض على البنتاغون استضافة بعض السفن الحربية الأمريكية، التي تبحر في البحر الأبيض المتوسط في القصر الصغير. وهو الاقتراح الذي أثار جدلا واسعا في صفوف قيادات الجيش الإسباني.
وكان موقع “هسبريس” الإخباري المغربي- الإماراتي الشهير، كشف قبل خمس سنوات استنادا إلى مصادره، عن “وجود مفاوضات لنقل أحد فروع القيادة العسكرية الأمريكية من أوروبا إلى الصحراء الجنوبية للمغرب”، بالتزامن مع إطلاق مشاريع استثمارية أمريكية كبرى في المغرب، متوقعا أن يتم ذلك بالتزامن مع فتح قنصلية أمريكا في مدينة الداخلة، التي يتم ربط إنشائها بلعب دور اقتصادي كبير في المنطقة. لكن يبدو أن هذا المشروع قد تم تجميده خلال ولاية الديمقراطيين برئاسة جو بايدن.
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، عاد الحديث عن ترقب عودة الروح إلى مشروع نقل القيادة العسكرية الأمريكية ومعها القواعد الأمريكية إلى المغرب. وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “لاراثون” الإسبانية المعروفة بارتباطها بالمخابرات العسكرية في بلادها، بداية شهر مارس الحالي، بأن المغرب يدرس، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، تشييد مطار عسكري في أقصى جنوب الصحراء، تتمثل مهمته في شن ضربات جوية باستخدام طائرات بدون طيار وطائرات مقاتلة ضد قواعد الجهاديين في منطقة الساحل. فالمعروف أن التفكيك المتلاحق لخلايا إرهابية خطيرة من طرف الاستخبارات المغربية، كشف بأن البلاد باتت في بؤرة استهداف تنظيم داعش، بسبب كونه يعتبر من بين الدول الفاعلة في مجال مكافحة الإرهاب عبر تفكيك خلايا ومساعدة الولايات المتحدة ودول أوروبية في ذلك.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس