بقلم: مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. تبدو كل من فرنسا وإسبانيا على الخصوص، أقرب الدول الأوروبية إلى المغرب والجزائر. لا فحسب بسبب الماضي الاستعماري، بل وأيضا بالنظر إلى أهمية المصالح الكبيرة التي لكل من باريس ومدريد في البلدين المغاربيين. ولخدمة هذه المصالح الحيوية، أطلقت فرنسا على الخصوص، عددا من القنوات الإعلامية باللغة العربية. بينما تؤثر أجهزة الدولة الإسبانية ولوبياتها السياسية من خلال صحف ورقية وإلكترونية يتابعها المغاربة على الخصوص باهتمام. لكن دولا أخرى تمتلك هي الأخرى أذرعا إعلامية نافذة، نظير قطر وروسيا والولايات المتحدة، تستثمر بواسطتها في تأجيج النزاع الجزائري المغربي أو تهدئته، بحسب ما تفرضه مصالحها.
إعلام مسموم
المعروف أن الإعلام الفرنسي العام والخاص، يعتبر أكثر ميلا إلى الجزائر منه إلى المغرب، لأسباب حار في فهمها حتى أكثر المحللين الفرنسيين حيادا. بعضهم يفسر هذه الحقيقة بكون الفرنسيين عموما، يعتبرون أكثر ميلا نحو الجزائر لكونها “جمهورية”. بينما يرى محللون آخرون بأن سر “الهوى الجزائري” الذي يسكن الروح الفرنسية، يجد جذوره في الماضي الطويل لفرنسا في “مقاطعتها” الجزائرية.
وأيا يكن السبب، فإن المتابع لبرامج الإعلام الفرنسي لا يحتاج لذكاء خارق، كي يدرك بأن الدولة العميقة في بلاد موليير تمارس التوجيه والضغط على كل من المغرب والجزائر (بحسب ما تتطلبه مصالحها). خصوصا عبر أذرعها الإعلامية النافذة، مثل قناة “فرانس24” المملوكة للحكومة الفرنسية، والتي يتابع قنواتها أكثر من 380 مليون مشاهد عبر العالم، وأيضا بواسطة بعض الصحف الواسعة الانتشار في مناطق النفوذ الفرانكوفوني عبر العالم. فالبرامج الحوارية والربورتاجات والتحقيقات وغيرها من البرامج التي تقدمها هذه القناة، لا تمل أبدا من تأجيج الخلافات السياسية والتاريخية وحتى الرياضية والثقافية بين الجزائر والمغرب. بينما تهتم وسائل الإعلام الإسبانية أكثر بالمغرب، الذي لا يسلم من حملاتها المعادية خصوصا من خلال ترويج أخبار مضللة. بينما يبدو هذا الإعلام مهادنا إن لم نقل “متفهما” في ما يخص الجزائر وربيبتها الجبهة الانفصالية.
ونفس الدور المشبوه تلعبه أذرع الإعلام الروسية الناطقة بالعربية، وخصوصا منها قناة “آر تي”RT (“روسيا اليوم” سابقا) الرسمية الناطقة باسم الحكومة الروسية، التي تعد أول قناة تلفزيونية إخبارية في العالم تصل إلى 10 مليارات مشاهدة، والمعروفة في الأوساط الإعلامية بأنها سلاح إعلامي بيد الكرملين.
إن هذه المنابر والمنصات وأخرى كثيرة غيرها، لا تكتفي بالتركيز على أخبار بعينها تخص النزاع الجزائري-المغربي بينما تهمش أخرى، وفق أساليب يفهمها كل إعلامي. بل وتتعمد تأجيج الخلافات بينهما من خلال تنظيم حفلات مواجهة عنيفة بين ضيوف من الجزائر والمغرب، وتتعمد توجيهها بعناية نحو صدام “الضيوف” بعضهم ضد بعض. وهي برامج تحظى للأسف بنسب مشاهدة عالية من مواطني البلدين المغاربيين، وتجد امتدادا لها في المعارك الكلامية على صفحات الشبكات الاجتماعية.
ابتزاز فرنسي
تمثل قناة فرانس24 (بالعربية) نموذجا غريبا في ما يتصل بمعالجتها الإعلامية للشأن المغربي. ورغم أنها يفترض أن تهتم بشؤون جميع الدول الناطقة بالعربية، إلا أنها متحاملة بشكل فج ومباشر وتكاد تحصر اهتمامها على المغرب منذ سنوات، وخصوصا عندما تتعرض المصالح الفرنسية بالمغرب للخطر. فقد لاحظنا تنظيمها حملات إعلامية معادية للمغرب، بخصوص “قضية” اتهام المغرب بالتجسس بواسطة البرمجية الإسرائيلية “بيغاسوس”، وبعدما تم تفويت صفقة بناء ميناء الداخلة لمقاولات مغربية وليس فرنسية، وبعدما ظهرت نوايا المغرب في التوجه نحو مقاولات صينية لإقامة الخط الثاني من القطار فائق السرعة بأسعار أقل بكثير من المقاولات الفرنسية، وغيرها من الأمثلة كثير. والنتيجة كانت دائما تقديم برامج “حوارية” و”ربورتاجات” وتغطيات خبرية متحاملة على المغرب، بغرض الابتزاز والضغط على أصحاب القرار في المغرب. بل إن الابتزاز بلغ مداه بنشر أخبار مضللة، تفيد بأن السلطات المغربية قد سحبت اعتماد فرانس24 بالمغرب. وهي المزاعم التي جرى نفيها بسرعة.
بالمقابل، وبعد سنوات ظلت خلالها العلاقات بين الرئيس الفرنسي وحكام الجزائر سمنا على عسل، إلى درجة أن ماكرون دافع عنهم ولم ينصف “الحراك” المطالب بدولة مدنية، أصبح نفس حكام قصر المرادية “غير شرعيين” فجأة، وتذكرت القناة أن الانتخابات التي أوصلتهم أو نُظمت تحت حكمهم مزورة، الخ… وهو ما حمل حكام المرادية على طرد فرانس24 من البلاد مطلع الصيف الماضي.
أما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، فأمثلة التناوب في التحامل على البلدين وتأجيج الخلافات بينهما تصعب على العد. ومن آخر ما رشح في هذا الباب، ما نشرته يومية “لوبينيون” الفرنسية الثلاثاء الماضي، على لسان أحد “صقور” المؤسسة العسكرية، من أن لسان حال جزء من جنرالات الجزائر يردد بأن “شن الحرب على المغرب يجب أن يتم اليوم، لأنه بعد 3 سنوات سوف يكون المغرب أقوى من الجزائر بسبب دعم إسرائيل له “. وفي المقال تفاصيل أخرى تشي بأن جيران الشرق يعدون العدة لإعلان الحرب على بلادنا، وبأنهم أقوى عسكريا من المغرب.
“تسريبات” إسبانية
تختلف الحالة الإسبانية من حيث كون المؤسسة العسكرية فيها، ما زال لها نفوذ سياسي. ويمنحها ذلك هامشا للتأثير في القرارات الهامة للدولة. ولممارسة الضغط داخليا أو خارجيا أو توجيه الرأي العام وفق رؤية المؤسسة أو أحد أجنحتها، تعمد إلى مد “تسريبات” لصحف مقربة منها أو من اليمين العنصري الإسباني، خصوصا منها “إل إسبانيول” و”لاراثون” و”إل كونفدنسيال” (أو أحيانا حتى لصحيفة “إل باييس” المقربة من رئيس الحكومة اليساري بيدرو سانشيز).
وطبعا لا تكون هذه التسريبات اعتباطية، بل إنها تتم في توقيت معين ولتحقيق غرض محدد. خصوصا أن الاعلام المغربي (والعربي بشكل أقل) أصبح أكثر متابعة في السنوات الأخيرة لما ينشره الإعلام الإسباني، خصوصا المكتوب منه.
من الصعب التشكيك في قلق الجارة الشمالية، من احتمال اندلاع حرب بين الجزائر والمغرب. وبالتالي فإن حرص الديبلوماسية الإسبانية المُعلن على القيام بوساطة، لتقريب وجهات النظر بين جاريها الجنوبيين قد تحقق منفعة أكيدة لمدريد. لكن، كيف نفهم سر التسريبات التي لا تتوفق للإعلام الإسباني بشكل يكاد يكون منتظما؟ لنأخذ مثالا قريبا.
نشرت صحيفة “لاراثون” الإسبانية في عددها لـ 5 نوفمبر الماضي، خبرا نسبته إلى “مصادر مطلعة” يقول إنه بعد مرور يومين على بيان الرئاسة الجزائرية الشديد اللهجة، الذي يتهم المغرب بقتل ثلاثة جزائريين بقصف في الصحراء، سلمت الجزائر معدات عسكرية للبوليساريو، شملت مركبات عسكرية؛ لتستخدمها الجبهة في تنفيذ “أعمال انتقامية” ضد الرباط ردا على حادث مقتل الجزائريين. وهو الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام المغربية على نطاق واسع، وألهب طبعا الحرب الدائمة بين الجزائريين والمغاربة على الشبكات الاجتماعية.
خمسة أيام بعد هذا الخبر، نقلت صحيفة “إل باييس” الإسبانية، في تقرير لها بعدد 10 نوفمبر الماضي، تأكيدات للمخابرات الإسبانية بشأن مقتل الجزائريين الثلاثة. زعمت فيها بأنه جرى استهداف شاحنتيهما بطائرة بدون طيار. فتناقل الإعلام الجزائري هذا الخبر الغريب لأنه يؤكد رواية سلطات بلادهم الرسمية، في وقت كانت الأمم المتحدة (عن طريق المينورسو) بالكاد شرعت في التحقيق في ملابسات الحادث الغامض!
وفي الإطار أجرت “أفريقيا برس” حوارا مع المحلل السياسي باهي العربي النص

‒ ما هو الدور الذي تلعبه “الأيادي الخارجية” في تأجيج النزاع الجزائري المغربي؟
في الحقيقة قد تلعب بلدان ثالثة دورا خبيثا في تأجيج هذا النزاع. وقد تجد نفسها مدفوعة إلى ذلك استجابة لإغراءين اثنين أساسا. الإغراء الأول، هو محاولة الاحتواء المزدوج لقوتين يراد تدميرهما معا. لأنهما أصبحتا تشكلان في رأي البعض تحديا، نظرا لتناميهما المضطرد الناتج عن سباق تسلح شرس، هذا السباق القائم حاليا. لكنني أستبعد أن تكون إسبانيا بينها.
قد ترى أن دق إسفين بين هذين البلدين (الجزائر والمغرب) وجعلهما يتحاربان أنه سينتج عنه نوع من الاحتواء المزدوج، على غرار ما حدث في حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. فعندما أُريد أن يحتوي البلدان بعضهما بعضا فأُجّج الصراع بينهما لهذا الهدف. هذا الهدف قد يكون في مخيال بعض الدول.
أما الإغراء الثاني، فهو بيع السلاح والذخائر للبلدين، وحتى للظفر بصفقات إعادة البناء [بعد أن تضع الحرب أوزارها] لا قدر الله. وهذا قد يُنَشّط في رأيهم اقتصاديات بلدان غنية، تعاني من انكماش اقتصاداتها نتيجة لسنوات الجائحة. فمن الوارد أن هذه الكعكة تغري البعض. لكنني أكرر أنني أستبعد أن تكون إسبانيا بينها، نظرا لقربها الجغرافي من البلدين. فمن المستحيل أن تقوم حرب بين الجزائر والمغرب دون أن تتأثر إسبانيا بها.
‒ هناك حالة غير طبيعية في هذا النزاع، إذ نلاحظ بأنه لا أحد (منظمات أو شخصيات) عرض وساطته بجدية. هل السبب وحده في التوجه الجزائري برفض أي وساطة؟
أعتقد بأن عدم الإعلان عن وساطات لا يعني بالضرورة عدم وجود هذه الوساطات ونشاطها في الكواليس. وهذا ما أتوقع، أتوقع تجري بالفعل وساطات. أقل شيء وساطة من الأمم المتحدة قبل قدوم دي ميستورا [الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء]، لأنه لا يمكن أن يقفز مجلس الأمن على التوتر القائم بين الجزائر والمغرب، ويحاول حل مشكل الصحراء دون ‒على الأقل‒ التخفيف من هذا التوتر.
وقد يكون كثير من الفاعلين الدوليين ‒كالقوى العظمى‒ ينتظرون أن تنضج الظروف المناسبة للوساطة، لتفادي أن تؤدي سخونة مواقف الطرفين حاليا إلى حرق هؤلاء الفاعلين الدوليين. وبالتالي في تصوري، إما أن الوساطات موجودة بالفعل ولا تعلن عن نفسها، أو أنها تنتظر فقط أن تخف حدة الوضع بين الجزائر والمغرب لتتدخل لإصلاح ذات البين بين البلدين.
‒ أعلنت مدريد مؤخرا أنها مهتمة بالقيام بدور وسيط لتقريب وجهات النظر بين البلدين. وما هي حظوظ هذه الخطوة؟
في تصوري، إسبانيا هي الأنسب للقيام بهذه الوساطة. لماذا؟ لأنها ببساطة أول المتضررين من هذا التوتر الحاصل. فإذا قامت حرب طاحنة على أبوابها ستطالها لا محالة شظايا هذه الحرب، لأنها توجد على مسافة كيلومترات معدودة. وبالتالي ستكون أول المتضررين، بل إنها أول من دفع حتى فاتورة هذا التشنج حتى قبل أن تقوم أي حرب بين الجزائر والمغرب، من ناحية ارتفاع أسعار الطاقة [بسبب إغلاق أنبوب نقل الغاز ‘المغرب العربي-أوروبا”]، وصعوبة الحفاظ على موقف سياسي حيادي متوازن بين جارين مهمين لها جدا جدا جدا… إلى درجة أنها أصبحت مثل راقص السيرك الذي يصعب عليه الحفاظ على التوازن على الحبل. ولذلك أتصور بأنها الأنسب إلى القيام بوساطة، إذا كانت مدعومة من قوى أخرى تستطيع الضغط على الطرفين.
‒ بصراحة، هل لمدريد مصلحة في أن يتصالح المغرب والجزائر؟
من الممكن أن تكون هناك بعض الأوساط العسكرية اليمينية في إسبانيا، قد يكون في صالحها تأجيج الموقف بين الجزائر والمغرب. لكن بالتأكيد أن هذا الرأي ليس هو السائد هناك. فأكبر سلطة عسكرية في إسبانيا الذي هو قائد الأركان العامة للجيش الأميرال ثيودورو لوبيز كالديرون، قد صرح الإثنين الماضي [29 نوفمبر] في ندوة نظمت بمدريد، قائلا بأن المغرب لا يشكل حاليا أي تهديد على سبتة ومليلية [المحتلتين]، رغم المؤشرات التي وصفها بغير المشجعة. ويعلل كالديرون كلامه بأن الخصم الحقيقي والمشكل الرئيسي للمغرب هما الجزائر وجبهة البوليساريو.
لقد كان الأميرال كالديرون دقيقا في كلامه رغم الأصوات التي تعالت بالحديث عن عداوة مغربية، وبعض الدراسات التي تصف الحالة المغربية الإسبانية بالمنطقة الرمادية. والمنطقة الرمادية بمعنى ما يقع بين السلام العادي وبين الحرب، وأن المغرب يلعب في هذه المنطقة حول سبتة ومليلية [المحتلتين]. في إسبانيا قد تكون هناك مصلحة في الحفاظ على حد أدنى من التوتر، لكن بالتأكيد ليس بهذا الشكل وليس بدفع البلدين نحو الحرب على الإطلاق.
فالإسبان قد يرون بأنه ما دام المغرب مشغولا بمشاكل مع الجزائر، فإن ذلك يحد من مطالبه حول سبتة ومليلية والجزر [المحتلة]، وغيرها من الملفات. لكنهم إذا زاد التوتر عن هذا الحد فإنهم سيكونون أول المتضررين، ففي السيناريو الأبشع ‒أي في حال اندلاع حرب بين البلدين‒ فإن إسبانيا قد تكون هي الأخرى مرحا لها، بحكم القرب الجغرافي بين البلدين.
في الحقيقة ما أثار انتباهي في الأسابيع القليلة الماضية، ليست التسريبات للصحافة الإسبانية، بل بالعكس أراها مطَمئنة. ما أثار انتباهي هو التسريبات للصحف القنوات الفرنسية والمقالات في “لوبينيون” و”لوفيغارو” و”تيفي 5″ و”لوموند”، جميعها تتحدث عن إمكانية قيام حرب وتدعي بأنه أمام الجزائر فترة قصيرة لتدارك التفوق العسكري المغربي؛ وأنها إذا لم تفعل شيئا في السنتين أو الثلاث سنوات القادمة فإن التفوق المغربي سيكون حينها مطلقا… مقالات كثيرة قد تحمل بعض الإيحاءات غير الودية تجاه المنطقة، نجدها أكثر في الإعلام الفرنسي منه في الإعلام الإسباني.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس