مصطفى واعراب
أفريقيا برس – المغرب. يتابع العالم، بالكثير من الاهتمام والأسئلة المعلقة والذهول، ما يجري من أحداث متسارعة في القطر السوري، منذ حوالي أسبوعين. فسوريا التي تتربع على قلب الشرق الأوسط، لعبت منذ أكثر من نصف قرن دورا محوريا في ما عاشه العالم العربي من أحداث ورهانات، لعل في مقدمتها أدوارها المختلفة في الصراع العربي الإسرائيلي. لكن على الرغم من أن مجريات الأحداث الحالية تعتبر مفصلية، من حيث كونها مقدمات لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط “الجديد”، إلا أنه من الصعب تفكيك ما يلابسها من غموض شديد.
واعتبر محللون سياسيون مغاربة، اتصل بهم “أفريقيا برس”، بأنه ما يزال من المبكر استشراف آفاق الوضع السوري غير المستقر والضبابي. وبالتالي لا يمكن بعدُ فهم الآثار التي سوف تترتب على ما يجري بالنسبة للمغرب والمنطقة، سيما بعد سقوط نظام آل الأسد وانخراط المئات من المقاتلين المغاربة في صفوف فصائل سورية مسلحة، ومغادرة بعضهم الآخر للسجون السورية.
وفي انتظار انقشاع الضباب تماما، يقترح التقرير التالي بعض عناصر الفهم التي تكشف خلفيات ما يجري…
في أول موقف رسمي مغربي بشأن التطورات التي أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، قال وزير الخارجية ناصر بوريطة في تصريح مقتضب، بأن المغرب الذي قطع علاقاته بالنظام السوري منذ 2012، ردا على القمع الوحشي الذي عَرّض له شعبه، “يتابع عن قرب التطورات المتسارعة والهامة التي تشهدها سوريا، ويأمل في أن تجلب هذه التطورات الاستقرار للشعب السوري وما يحقق له تطلعاته”.
وأضاف بوريطة، أن “مواقف المغرب كانت دائما ثابتة مع الحفاظ على الوحدة الترابية لسوريا، والسيادة الوطنية لهذا البلد ووحدة الشعب السوري”.
الثورة السورية و”الشارع” المغربي
على مستوى الأحزاب والفاعلين السياسيين، التزم غالبيتهم حذرا مفهوما. فحتى المعروفون منهم بالالتزام إلى صف “محور المقاومة”، وجدوا أنفسهم في حرج من الدفاع علنا عن نظام الأسد، بعد انكشاف فظائع السجون السورية. بينما ترددت بالمقابل الهيئات والشخصيات الإسلامية، في التعبير عن تضامنها مع الفصائل السورية التي وصلت إلى سدة الحكم في سوريا، من منطلق أن الوضع ما يزال غير واضح لاتخاذ موقف مما يجري.
وقد شكل سعد الدين العثماني، القيادي في حزب العدالة والتنمية الإسلامي ورئيس الحكومة السابق ووزير الخارجية الأسبق، استثناء بهذا الصدد. فقد دافع في تدوينته على حسابه الشخصي على منصة فيسبوك، على هجوم “ردع العدوان” الذي أطلقه مقاتلو هيئة تحرير الشام بالعاصمة الاقتصادية لسوريا حلب، معتبرا إياه “مشابها لعملية طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل”.
وبرر العثماني دفاعه بالقول إن “موقف النظام السوري من قضية الصحراء المغربية مرتبك جدا، وأحيانا يميل إلى الانفصاليين [الصحراويين]، حيث عبر الممثل الدائم لسوريا عن ذلك صراحة في مجلس الأمن. بينما المعارضة السورية صاحبة موقف يحترم المغرب وسيادته، دون تردد. وبما أن قضية الصحراء هي النظارة التي نزن بها مواقفنا من الآخرين، فهذا معطى مؤثر لديه”. وتعرض العثماني للهجوم بسبب موقفه هذا حتى من قبل محسوبين على حزبه، حيث عابوا عليه دعمه لفصائل لدیها “ماضٍ إرهابي”.
أما على المستوى الشعبي، فعلى غير العادة، لم يشهد المغرب خروج مظاهرات تضامنية لا مع الثورة السورية، ولا مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، الذي يعتبر القوميون العرب من المغاربة أنه دفع “ضريبة” وفائه لمحور المقاومة.
لكن التفاعل الشعبي مع الحدث السوري الأبرز كانت ساحاته الحقيقية افتراضية، على الشبكة العنكبوتية. فحتى قبل أن يتم الإعلان عن سقوط نظام بشار الأسد في وقت مبكر من صباح يوم 8 دجنبر 2024، تفاعل الرأي العام المغربي مع التطورات المتسارعة في سوريا في اتجاهات شتى. فقد عَجَّت شبكات التواصل الاجتماعي الأكثر استعمالا (واتساب، وفيسبوك، وتيكتوك وإكس) بمنشورات مختلفة، تحضر فيها سوريا في علاقاتها بالمغرب. هكذا ظهر مقاتلون سوريون مسلحون ─مثلا─ في أشرطة فيديو، وهم يرفعون راية المغرب وبعضهم يحمل صورة الملك محمد السادس، معبرين عن شكرهم للمساندة التي حظيت بها “الثورة” واللاجئين السوريين من المملكة. وقد ختموا المحتوى الرقمي بعبارة “الصحراء مغربية”، كنوع من “رد الجميل” للمغرب.
وبالمقابل، التزم القوميون العرب صمتا رسميا ثقيلا، وهم الذين لم يتوقفوا طيلة 15 شهرا عن التظاهر تضامنا مع غزة ومحور المقاومة. واكتفى بعضهم بنشر منشور على الشبكات الاجتماعية المغربية، يدافع عن سوريا الأسد بالقول: “سوريا هي الدولة الوحيدة في الوطن العربي التي كانت تأكل مما تزرع، وتلبس مما تصنع. وكانت الصحة والتعليم للجميع بالمجان، وكانت تصنع الأدوية والملابس الفاخرة، وكانت دكتوراه في الطب البشري تعادل دكتوراه من أعرق جامعات العالم الأول. وكانت تملك اكتفاء ذاتيا من كل شيء. ولم تكن أبدا تتعامل مع صندوق النقد الدولي، ولا مع أي صندوق استعماري. وكان العربي يدخلها ببطاقة تعريفه الشخصية دون أي رسوم. وكانت لا تساوم أبدا فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل. هذه هي سوريا التي أسقطت قبل 13 عشر سنة”.
كما بارك رواد مغاربة نجاح اسقاط الأسد لمقاتلين من الفصائل السورية المسلحة، وللاجئين وبعض السوريين المقيمين في المغرب، في تعليقاتهم على منشورات على منصات التواصل الاجتماعي.
سوريا الجديدة وقضية الصحراء
كانت سوريا من الدول العربية القليلة– إلى جانب اليمن الجنوبي [سابقا] والجزائر وليبيا وموريتانيا – التي قامت بدعم جبهة بوليساريو وساندتها منذ تأسيسها في السبعينيات، واعترفت بـ “الجمهورية العربية الصحراوية” في مطلع الثمانينيات. وفعل ذلك الرئيس السابق حافظ الأسد.
وبعد اندلاع احتجاجات الربيع العربي في سوريا في 2011، تحول نظام بشار الأسد إلى أحد أكثر الأنظمة العربية دعما لمطالب جبهة البوليساريو، في سياق مواجهة الموقف المغربي الداعم للمعارضة المسلحة السورية. فاحتضن المغرب اجتماعات “مجموعة أصدقاء الشعب السوري”، التي ضمت أكثر من 120 دولة.
وحتى آخر رمق، ظل نظام بشار الأسد وفيا في دفاعه عن “الجمهورية الصحراوية”، ومصرا في مواقفه من قضية سيادة المغرب على الصحراء الغربية، متجاهلا كون قضية الصحراء تهم الشعب المغربي قاطبة وليست قضية نظام أو حكومة مغربية فقط.
فبتاريخ 16 أكتوبر 2024، احتفت قيادة جبهة البوليساريو، من خلال “وكالة الأنباء الصحراوية” المتحدثة باسمها، بكلمة ممثل سوريا أمام اللجنة الرابعة ضمن أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي صرح فيها بأن “روسيا لا تعتبر أراضي الصحراء الغربية جزءا من التراب المغربي”.
ونقلت “الوكالة” عن الدبلوماسي السوري السابق قوله، إن “قضية الصحراء الغربية أدرجت على قائمة الأقاليم غير المحكومة ذاتيا في عام 1963، وكانت ولا تزال مثار نقاشات مطولة في هذه اللجنة وغيرها من المحافل الدولية”.
ولم تتوقف جبهة البوليساريو خلال السنوات الماضية، عن استحضار الدعم الديبلوماسي والعسكري الذي حصلت عليه من نظام الأسد. وخلال العام الجاري نوهت مرارا بمشاركة وفود سورية في لقاءات داعمة لطرح تشكيل دولة مستقلة عن المغرب.
لكن، وبعد أسابيع فقط على نشر الجبهة، عبر منصاتها الإعلامية، لمضامين مداخلة ممثل سوريا لدى الأمم المتحدة، التي عبر فيها عن دعمه لمطالب جبهة البوليساريو، فضلت قيادة البوليساريو تجاهل سقوط الأسد.
ويشير تأكيد وزير الخارجية المغربية لدعم المغرب لسيادة سوريا ووحدتها الترابية، في تصريحه، إلى بعث الرباط رسائل إلى بعض الأطراف التي قد تطمع في اقتطاع أو التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، في وقت تمكنت إسرائيل من التوغل في مناطق داخل سوريا في صمت عربي ومن “الثوار”، بمبرر تحييد الخطر وأن هذا التوغل “مؤقت فقط”.
وتوقعت العديد من التحليلات السياسية التي تناولت قضية الصحراء في سوريا ما بعد الأسد، أن يساهم سقوط نظام بشار الأسد في خلق علاقات متينة بين الرباط ودمشق، بخلاف العلاقات التي كانت سائدة في عهد الأسد الأب والابن. وهي توقعات تسندها تصريحات سابقة لبعض رموز المعارضة السورية، اعترفت صراحة بمغربية الصحراء ودعت إلى إعلان جبهة بوليساريو “منظمة إرهابية”.
مغاربة الجماعات المسلحة
شهدت الحرب في سوريا، التي أعقبت احتجاجات سياسية في 2011، توافد أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب من كافة الدول، بما في ذلك العربية، بدعوى “الجهاد العالمي لحماية السُّنّة” في سوريا، في مواجهة القمع الوحشي الذي مارسه النظام السوري. لكن أعداد المسلحين المغاربة المنخرطين في الصراع السوري تظل مع ذلك غير مؤكدة، حيث تتضارب بين الإحصائيات المغربية الرسمية، وكذا تلك التي تنشرها وسائل الإعلام أو مراكز الدراسات المتخصصة. وهكذا، فخلال الفترة بين أبريل 2011 ويناير 2017 [التي مَثّلت أوج الحرب على سورية]، أفادت التقارير بأن حوالي 3100 مغربي انضموا إلى التنظيمات المسلحة في سوريا، باعتبارهم “مقاتلين أجانب”، قُتل منهم 1050 شخصًا وفُقِد 110 آخرون، من بينهم 11 امرأة.
بالمقابل، يشير تقرير رسمي حديث صدر عن بعثة الاستطلاع المؤقتة، التي كلفها مجلس النواب المغربي في ديسمبر 2020 بالتحقيق في أوضاع الأطفال والنساء والمواطنين المغاربة بمناطق النزاع بسوريا والعراق، إلى أن 1659 مغربيا غادروا بلادهم للقتال. وأن 290 امرأة و628 من القاصرين توجهوا أيضاً إلى هذه المناطق. وتأتي هذه البيانات من شهادات تم جمعها من موظفي الحالة المدنية، ووزراء مغاربة، والمنظمات الدولية، فضلا عن المعتقلين وعائلاتهم.
وكشفت أرقام كشف عنها المكتب المركزي للتحقيقات القضائية [بسيج]، المكلف بالتحقيق في قضايا الإرهاب بالمغرب، بأن من بين 1664 مقاتلا مغربيا منخرطين في القتال بسوريا والعراق، كان 929 ينتمون إلى تنظيم داعش، و100 آخرون ينتمون إلى “هيئة تحرير الشام”، (جبهة النصرة سابقا)، [التي تولت قيادة العمليات العسكرية التي أسقطت نظام الأسد]. وهي تعد أقوى فصيل مسلح حاليا في سوريا. ووفقا للمصدر الرسمي نفسه، فإنه منذ بداية الحرب في سوريا، قُتل 569 مقاتلا مغربيا، فيما تمكن 213 آخرون من مغادرة مناطق القتال.
ورغم العدد المتواضع نسبيا للمقاتلين المغاربة في سوريا، مقارنة بمواطنيهم الآخرين الذين قاتلوا في العراق أو أفغانستان تحت راية تنظيم القاعدة، إلا أن وجودهم كان كبيرا منذ عام 2013. وقد حفز ظهور هيئة تحرير الشام، التي قاد بعض فرقها معتقلون مغاربة سابقون في سجن غوانتانامو بجزيرة كوبا، حفز العديد من المغاربة على المشاركة في القتال في سوريا.
بحسب تقارير متقاطعة، فإن “مغاربة سوريا” ليسوا في السجون فقط بسبب مشاركتهم سابقا في الحرب الأهلية إلى جانب الجماعات السورية المسلحة، بل ما يزال بعضهم “نشطا” حاليا في صفوف الفصائل المسلحة. وفي هذا الصدد، انتشر منذ أيام مقطع فيديو على الشبكات الاجتماعية المغربية، لشاب مغربي مسلح مرتديا لباسا عسكريا يبدي سعادته بـ “الفتح” و”النصر المبين” الذي حققته الجماعات المسلحة على نظام الأسد.
ويسود ترقب بأن ينتج عن فك الحصار الأمني، الذي كان مضروبا على تلك المخيمات، هروب جماعي للمئات من النساء والأطفال، وهم من بقايا أسر مقاتلين في صفوف الجماعات المتطرفة إما قتلوا أو وقعوا في الأسر. وكان بعضهم قد دفعوا لمهربين حتى يمكنوهم من التسلل إلى تركيا، للاتصال بالسفارة المغربية هناك طلبا لتسهيل عودتهم إلى المغرب. وفي غياب أرقام مُحَيَّنة حول أعدادهم، تفيد تقارير بوجود عدة مئات من النساء وأطفالهن في مخيم الهول ذائع الصيت وحده.
ومن بين الأسئلة الكبرى الكثيرة التي يطرحها الوضع السوري الراهن، سؤال المصير الذي ينتظر هؤلاء الذي تتردد السلطات المغربية (وبعض الدول الأوروبية كذلك) في استقبال الراغبين منهم في مغادرة سوريا.. هل سيتم لهم السماح بالعودة إلى بلدانهم الأصلية، أم أنهم سيتفرقون في ربوع القطر السوري أو في بؤر توتر أخرى..
ومن خلال التدقيق أكثر في ملامح هؤلاء المقاتلين، نفهم أكثر لماذا تتزايد مخاوف أوروبا مع كل مرة يشتعل النزاع في سوريا. فوفقا لدراسة نشرها “مرصد الشمال لحقوق الإنسان (ONDH)” المغربي، فإن منطقة أقصى شمال غرب المغرب يشكل مصدرا لثلث المقاتلين المغاربة المتواجدين في سوريا والعراق، خصوصا مدينة تطوان. ويوضح التقرير، تبعا لذلك، بأن نحو 500 مقاتل ينحدرون من الشريط الساحلي الذي يشمل مدن تطوان والمضيق والفنيدق، ولا يزيد طوله كما نعلم عن 40 كيلومترا. ونوضح من جانب آخر بأن مدينة الفنيدق تقع على مرمى حجر من مدينة سبتة، التي تحتلها إسبانيا منذ قرون. ولعل ذلك يفسر سر قلق إسبانيا من الأحداث الجارية في سوريا، وخشيتها من عودة محتملة للمقاتلين المغاربة إلى مدنهم الأصلية!
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس