علي باي العباسي، الجاسوس الإسباني الذي كاد أن يحكم المغرب!

260

بقلم : مصطفى واعراب

أفريقيا برسالمغرب. اسمه الحقيقي دومينغو فرانثيسكو باديا. وصفته جاسوس إسباني. تسلل إلى المغرب في 1803 متنكراً في هيئة “شريف” عباسي من آل البيت بعد أن لقب نفسه باسم “علي باي”. كان مخططا له من أعلى دوائر القرار في إسبانيا أن يسعى إلى كسب ود السلطان العلوي محمد بن عبد الله والتأثير عليه من أجل منح إسبانيا امتيازات في المغرب، وفي حال فشل في ذلك، قضت الأوامر أن يقوم الجاسوس بتحريض شخصيات مناوئة أو قبائل على التمرد حتى يمنح إسبانيا مبررا للتدخل عسكريا واحتلال المغرب. لكن ما لم يكن مخططا له هو أن هذا الأمير العباسي المزور قد تمكن سريعا من كسب حب السلطان وجزء من رعيته في آن، حتى بلغ مسافة قريبة جدا من أن يحكم المغرب! هذه سيرة أغرب من الخيال لملهم الجواسيس المعاصرين ومعلمهم الأكبر.

خلال السنين الأولى من القرن التاسع عشر، كان المغرب تحت حكم السلطان سليمان (1766-1822) يلملم الآثار الوخيمة لوباء الطاعون الكبير الذي ضرب البلاد في 1799 وقضى على كثير من السكان بينهم خيرة الأطر المتمرسة في تسيير شؤون الدولة. وعلى خلفية ذلك كان البلد يعيش تفاعلات سياسية داخلية كبرى سمتها الأبرز مواجهة “المخزن” للتمردات المتتالية لقبائل ومدن على طول المغرب وعرضه، مع صراعات سليمان الخفية والظاهرة التي لا تنتهي، مع إخوته وأبناء عمومته

المغرب بؤرة للأطماع الأوروبية

لقد أعطى ذلك الوضع للإمبرياليات الأوروبية الناشئة (إنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا وهولندا) الطامعة في خيرات المغرب انطباعا بضعف السلطان وهشاشة الوضع في البلاد؛ وأثار بينها سباقا محموما على السعي إلى احتلاله. ومما دعم لديها ذلك الاعتقاد أن السلطان سليمان الذي نشأ على تربية دينية صارمة كان ذا طبع خجول وبلا طموح سياسي (عكس إخوته وأبناء عمومته)، وبالنتيجة لم يكن مستبدا في اتخاذ القرارات مثل أسلافه، ولا طالب ثروة مثلهم. حيث تجمع شهادات الدبلوماسيين الغربيين الذين التقوا به وكذا تقارير الجواسيس وعلى رأسهم علي باي الذي نحن بصدد سيرته، على تواضع حياة سليمان الذي كان مثلا «يرقد على سرير عادي ويجلس على حصير متواضع».

بعبارة مختصرة كان سليمان أكثر سلاطين سلالته سلفية، يسير البلاد على سبيل الواجب لا بدافع الرغبة في السلطة والجاه، حتى أن تحكيم الشرع الإسلامي كان أسبق لديه على المصلحة الوطنية أحيانا. وجعله ذلك تحت سلطة علماء الدين الذين كانوا يساهمون في اتخاذ القرارات الكبرى، بل وكثيرا ما كانوا يملونها عليه بكل بساطة.
ومن تلك القرارات الخطيرة التي أوعز علماء الدين لسليمان بها مثلا، سماحه للمغاربة باقتناء السلاح تحسبا لكل عدوان قد تشنه القوى الإمبريالية الأوروبية، التي كان نشاطها الملاحي العسكري قد تنامى بشكل خطر في مضيق جبل طارق. ورغم ما كانت تشكله هذه الخطوة من خطورة على الوضع الداخلي غير المستقر أصلا فإن السلطان استكان لرأي العلماء. وكذلك كان رأيهم ضاغطا عليه بقوة في اتجاه وقف التجارة مع البلدان الأوروبية، وفي غيرها من القرارات المصيرية الأخرى التي علا فيها رأي تغليب الشرع الإسلامي على المصلحة الوطنية.

جاسوس في قناع أمير عباسي

في سياق ذلك وعلى المستوى الأوروبي، أثر وصول نابليون إلى الحكم وتسمية نفسه إمبراطورا على فرنسا في 1799 كثيرا في العلاقات الأوروبية. ففرض على العاهل الأسباني شارل الرابع إعادة تسمية الوزير السابق (كودوي) رئيسا للحكومة للحاجة الفرنسية إليه في مواجهة إنجلترا، وقد منحت فرنسا (كودوي)لقب/صفة “أمير السلام” فأعلن الحرب على البرتغال التي كانت حينها الداعم الوحيد لإنجلترا في أوروبا. ونتج عن صراع الامبرياليات ذاك تحرك غير عاد للأساطيل الحربية الأوروبية في السواحل الشمالية للمغرب، ما جعل المغاربة يراقبون الوضع بقلق بالغ وفي جو من التعبئة تحسبا لأي عدوان طارئ محتمل يطول بلادهم.

في ظل هذا المناخ المتوتر بين ضفتي البوغاز، قفز إلى سطح الأحداث على الضفة الشمالية مغامر أسباني مغمور يدعى (دومنغو باديا ليبليخ). كان شابا طموحا ألحقه والده الضابط العسكري بالمدرسة الحربية، فدرس الطب والفلك وعلم المعادن والنبات والرياضيات وتعلم عدة لغات أوروبية إضافة إلى العربية. كان (دومنغو) ذا ذكاء كبير وأبدى مبكرا اهتماما كبيرا بشمال أفريقيا، حتى أنه عرض في العام 1801 على “أمير السلام” خطة تقضي بإقامة مستوطنة أوروبية في صحراء أنكاد على الحدود بين المغرب والجزائر، تسمح في الوقت نفسه بتواجد جالية أوروبية في شمال أفريقيا وفي “نشر الحضارة في تلك الربوع المتوحشة”.

حظيت الخطة بترحيب (كودوي) لكن دون سعي إلى إقرارها. فتقدم باديا بعدها بخطة أخرى لرحلة يقوم بها عبر عدة بلدان ويبدؤها من المغرب، يدرس خلالها طبيعة الأرض وخصائص شعوب البلدان التي يزورها. لكن الأكاديمية العلمية التي تلقت عرضه رفضت تمويل رحلته، فعرض عليه “أمير السلام” بدلا عنها أن يقوم بالتسلل إلى المغرب للقيام بمهمة تجسسية وسياسية خطرة.

قبل (دومنغو) العرض وأخذ يعد العدة للمغامرة. فرحل إلى فرنسا وكان في سن الثلاثين، حيث ربط علاقات صداقة بعلمائها. ولم يلبث (تاليران) وزير نابليون الشهير أن علم بما يخطط له (دومنغو) فاستقبله وشجعه وأوصى به ممثلي فرنسا بالمغرب أن يمدوا له يد المساعدة.

ومن فرنسا عبر إلى إنجلترا وقد أملى عليه ذكاؤه وخياله الواسع قرار بتغيير هويته إلى شخص مسلم، فسمى نفسه «علي باي» وانتحل صفة تاجر حلبي شهير، فادعى بأنه سليل الخلفاء العباسيين وأن أباه هو الذي أرسله من حلب إلى إسبانيا كي ينهل من المعارف الأوروبية ليعود في ما بعد وينفع بها أهله وأبناء ملته.

ولأن (دومنغو)/علي باي كان حريصا على أدق التفاصيل في التماهي مع الشخصية التي تخيلها، فقد سعى خلال مقامه في لندن إلى تعميق معرفته بتراث الشرق وتنمية قاموسه اللغوي العربي. كما اشترى لنفسه ثيابا عربية من تاجر شامي بعد أن اختتن لدى طبيب يهودي وأطلق لحيته. فصار أقرب في هيئته إلى عربي مشرقي. ومن لندن انتقل (دومنغو باديا) الذي أصبح (علي باي)إلى باريس وربط صلات قوية بوزارة العلاقات الخارجية الفرنسية، وبمعهد الأبحاث العلمية، فتقدم لبعض المسؤولين باسمه العربي كاشفا لهم عن نيته القيام برحلة استكشافية إلى المغرب، وأبدى استعداده لمدهم بما يحتاجون إليه من معلومات “علمية” وأخبار حول هذا البلد، من دون أن يكشف لهم طبعا عن حقيقة المهمة السرية التي كلف بإنجازها.

لقد كانت بلدان أوروبا والعالم تعيش مع بداية القرن التاسع عشر، مرحلة مخاض جديد لن تحسم نتائجه سوى حروب المصالح المتضاربة، التي تلعب المعلومة دورا أساسيا في كسبها. وهكذا، وعلى خلفية احتدام الصراع بين الانجليز من جهة والفرنسيين (مع حلفائهم الإسبان) من جهة أخرى من أجل لسيطرة على طرق التجارة المعروفة في العالم آنذاك وعلى بلدان العالم الإسلامي، كان على باي يعد العدة لانطلاق رحلته من محطتها الأولى: المغرب الأقصى.

التسلل إلى المغرب

عاد دومنغو باديا إلى إسبانيا في شهر إبريل 1803، وقد أصبح (علي باي)، فحصل من “أمير السلام” على ما يلزمه من مال ولوازم للقيام بمشروعه “العلمي”، في الظاهر لكن التجسسي في حقيقته، ومعها آخر التعليمات. فقد كان من ضمن الأهداف التي أوكل إليه تحقيقها، الاتصال بسلطان المغرب سليمان، ليقنعه بأن يجعل تحت نفوذ إسبانيا مرسيين من المراسي المغربية التي تقع على المحيط الأطلسي، وأن يمنحها كذلك امتيازات تجارية خاصة في مقابل وعد بأن تسانده في القضاء على أعدائه والمتمردين عليه.وأوعز (أمير السلام) إلى علي باي من جهة أخرى، بأن يحاول، في حال ما لم يجد «تقديرا» لدى السلطان سليمان، التقرب من أوفر المناوئين له حظا ويعرض عليهم دعم إسبانيا، ويرتب معهم خطة للاستيلاء على حكم المغرب الأقصى.

ثم حمل “أمير السلام” هديا قيمة للسلطان سليمان، ومعها رسائل لقناصل الدولة الإسبانية (بالبلدان المتواجدة في أفريقيا وآسيا) التي تقرر أن يزورها علي باي، يحثهم فيها على رعاية الجاسوس، ومساعدته على القيام برحلته “العلمية”.

من الواضح أن المهمة كانت تنطوي على مغامرة غير محمودة العواقب، سيما في بلد مثل المغرب. لكن علي باي كان متحمسا كثيرا لخوضها. وهكذا وبعد انصرام أسابيع قليلة فقط على عودته إلى بلاده، غادرها مجددا في 29 يونيه 1803 في اتجاه المغرب، حيث استقل مركبا من ميناء طريفة باكرا في الصباح. وبعد أربع ساعات وصل مرسى طنجة وقدم نفسه وجوازات السفر للسلطات، باعتباره علي باي التاجر الحلبي الشريف العباسي الرافض لاحتلال الترك العثمانيين لبلده.

في أعقاب استنطاق ودي استغرق وقتا، سمح له المسؤولون المغاربة في المرسى بالنزول وقد أبهر الجميع بمظهره وحاشيته الذي يشي بكونه شخصا عظيم القيمة. حتى أن باشا طنجة منحه بيتا يقيم فيه. ومن فرط حماسه، باشر علي باي سريعا خطته بأن حضر صلاة الجمعة الموالية، وسعى إلى لفت الانتباه إليه من خلال المبالغة في التصدق على المحتاجين بواقع اثني عشر متسولا كل يوم. كما واظب على الصلاة في مسجد طنجة وبنى “سقايات” كنوع من الصدقة الجارية، ما دفع أكابر المدينة إلى التسابق إلى كسب وده.

خلف قناع الرجل التقي، كان علي باي يتجول كل يوم في أرجاء طنجة فيحصي تحصينات المدينة ويدقق في ملاحظة حال المدافع والجنود، عددهم في كل مكان ودرجة تسليحهم كما كان يرسم لمعالم المدينة والناس لوحات وتصاميم، ويلبي غريزة الفضول الهائلة لديه فيتعرف إلى مزاج سكانها وعقليتهم دون أن يثير حوله شكوكا. وكان يدون مذكراته ليلا ثم يمارس هواياته في تصنيف عينات من النبات والمعادن التي جمعها، ويدون ملاحظاته حولها، ثم يستسلم لمراقبة الكواكب والنجوم عبر المناظير التي جلبها معه ويقوم بحسابات حول الظواهر الفلكية.

وفي سياق ذلك، ومن أجل مزيد من إبهار العامة والخاصة، أعلن من حوله بأن كسوفا شمسيا سوف يقع يوم 17 أغسطس 1803، فشغل الناس أياما بالأحاديث والتكهنات، حتى إذا حل الموعد وكسفت الشمس لم يبق موضع احترام وتقدير لتقواه وسخائه فحسب، بل صار مهاب الجانب كذلك لامتلاكه القدرة على التنبؤ بظواهر تدخل حسب المغاربة في علم الغيب !

شهران بعد حادث الكسوف، زار السلطان سليمان طنجة من أجل البحث عن مفاوضة الإنجليز على صيغة لتحرير القرصان (لوباريس) الذي كان واقعا في أسرهم. فتلقى علما بوجود علي باي الشريف العباسي والشخصية المثيرة للإعجاب والدهشة في المدينة. ويبدو أن ما وصل إلى علم السلطان حوله كان كله إطراء وإعجابا إلى درجة أن السلطان بمجرد أن دخل طنجة طلب مقابلة علي باي. فقد بنى الجاسوس لنفسه سمعة قوية كعالم متمرس في العلوم الصعبة وكمسلم تقي من نوع فريد.

يحاور علماء القرويين!

عندما استقبل سليمان علي باي قبَّل هذا الأخير يده، وقدم إليه الهدايا التي شملت أنواعا من البنادق والبارود للاستعمال في الحرب وللصيد، وكذا أثوابا حريرية ومجوهرات وعطورا فاخرة، ومظلا ملكيا جميلا.فسر لها السلطان، وسرى تبار المودة مسرعا بين الرجلين، حتى أن السلطان عندما هم بمغادرة طنجة أشار على (علي باي) بمرافقته، ولما اعتذر ألح عليه السلطان بضرورة اللحاق به في مكناس، وترك تحت تصرفه فرقة من الجند لحراسته.

وبعد أيام، وتحديدا في 5 أكتوبر 1803 غادر (علي باي) طنجة في موكب شبه رسمي ليلحق بالسلطان في مكناس ثم فاس، حيث استقبل بحفاوة كبرى وتسابق علماء الدين وكبار الأعيان إلى لقائه وكسب وده لما لاحظوه من مودة عظيمة يحظى بها لدى السلطان. وفي فاس، كانت لعلي باي ندوات ومسامرات مع علماء القرويين، باعتباره “شريف النسب” ومرجعا بارزا في الدين. وفي مذكرات رحلاته التي نشرها سنوات طويلة بعد ذلك، يزعم أنه إنما كان يسعى إلى إقناع علماء فاس بأن أحكامهم خاطئة وبأن اهتمامهم كان منصبا فقط على أمور تافهة، وأن قصده بالتالي من محاورتهم إنما كان التأثير عليهم وحملهم على تصحيح طريقة تفكيرهم.

لقد تهافت “شرفاء” فاس على الخصوص المدعون للانتساب إلى الرسول (ص) إلى لقاء الجاسوس المقنع، وتتبع أخباره من خلال ملاحقة خدمه بأسئلة لا تنتهي. أما السلطان الذي لم يتوقف إعجابه به حتى صار يناديه بعبارة “ولدي”. لكن العاطفة الزائدة لم تله الجاسوس الإسباني عن مهمته، إذ عاود رحلاته التجسسية في مدن المغرب ومراسيه ورسمها وتدوين ملاحظاته حولها، فزار سلا والرباط في فبراير 1804 ودرس تحصينات العدوتين وحالة الجيش ودرجة تسليحه.

وفي مستهل فصل الربيع دخل (علي باي) مراكش، حيث كان سليمان ينتظر قدومه بلهفة. فأهدى إليه السلطان قصر السملالية، الذي كان من أشهر قصور مراكش وملَّكه إياه بوثائق رسمية، في محاولة منه لإقناعه بالاستقرار إلى جانبه. كان القصر شاملا لبساتين وحدائق فضلا عن سكن فخم يليق بالملوك والأمراء.

المؤامرة

في كل مكان مر منه (علي باي)، كان يبحث عن ناقم أو ناقمين على السلطان من الأمراء وكبار الدولة والأعيان وتابعيهم، ليحرض ويدعو إلى الثورة على السلطان سليمان دون تحفظ يفرضه عليه واجب الضيافة. كان الأمر في غاية اليسر أمامه إذ لم يكن الحانقون على السلطان سليمان والطامحون إلى تغييره قليلين، فنسج علي باي من بينهم شبكة جواسيس ينقلون إليه ما يحتاج إليه من أخبار القصر وكبار الدولة مع متابعة لنوايا الناقمين وأعمالهم.
بيد أن الجاسوس لم يكن يلقى الإعجاب فقط، فقد أثار عطف السلطان الزائد عليه حنق كثيرين أيضا، منهم الصدر الأعظم [رئيس الوزراء]محمد السلاوي فضلا عن ممثلي البلدان الأجنبية الذين اشتبهوا في وضعه منذ البداية.

مكث علي باي في مراكش نحو السنة، لم ينقطع خلالها من التقرب إلى السلطان بمناظيره الفلكية وأحاديثه الطويلة محاولا من حين لآخر أن يستدرجه إلى عقد اتفاق مع إسبانيا تحصل بموجبه على امتيازات. ولما باءت محاولاته بالفشل، طلب وألح في الطلب على السماح له بمواصلة سفره إلى الحج، لكن السلطان ضغط عليه ليبقى له مؤنسا.حتى أنه اقترح عليه مرارا تزويجه، فكان يرفض بدعوى أنه عاهد الله أن لا يتزوج إلا بعد أداء مناسك الحج، ما دفع سليمان إلى أن يهبه عبدة سوداء تؤنس وحدته.

طلب (علي باي) من “صديقه” السلطان أن يسمح له بالسفر إلى الصويرة بزعم توق نفسه إلى زيارة المدينة والصلاة عند قبر مؤسسها محمد بن عبد الله (والد السلطان سليمان)، والدعاء له. فوافق هذا الأخير وابتهج لذلك. وفي الواقع كان الجاسوس قد تلقى دعوات سرية متكررة من قنصل إسبانيا في الصويرة يستعجله القدوم لأمر هام وطارئ.

أمر السلطان باشا الصويرة أن يبالغ في رعاية ضيافة (علي باي)، كما راسل كلا من قايد سوس والشياظمة وأمرهما أن يلحقا في جنودهما بعلي باي في الصويرة. لقد كبر طموح الجاسوس حد التضخم وصار يرى في نفسه “رجلا انطلق ليحتل إمبراطورية”. وزاد غروره عن الحد عندما استقبل في الصويرة استقبال الملوك، بالفرسان المسلحين وضربات الطبول والمدافع.

لم يجد علي باي صعوبة في تجنيد قائدي الشياظمة وسوس إلى صفه وتحريضهما ضد سليمان، وحبك معهما فصول تمرد مسلح يدبره ويكونان مع قواتهما قواده. فحدد لهما تاريخا لانطلاق الثورة ووعدهما بأن تعتني بهما إسبانيا. وعندما ذهب علي باي إلى قنصل بلاده في الصويرة ليلا متنكرا في هيئة متسول، وجده منبهرا من نجاحات الجاسوس المبهرة، واتفق معه على تاريخ ومكان إنزال السفن الأسبانية للسلاح. وأخبره القنصل بأنه عقد اتفاقا مع بعض أثرياء اليهود الصويريين على أن يهربوا السلاح إلى الصويرة وسط السلع التي سوف يجلبونها من إسبانيا.

انكشاف المؤامرة

وعندما غادر علي باي الصويرة عائدا إلى مراكش، جرى توديعه كما لو كان ملكا، حيث وقفت طوابير من الجيش مسلحة لتحيته. وكان الناس على طول الطريق إلى مراكش يسارعون إلى لقائه مهللين “الله يبارك في عمر سيدي”، بينما النساء يزغردن له في مخابئهن. والأغرب أنه كان يسير في كوكبة من الحراس والمرافقين محفوفا بمظلة ملكية، كأنه سلطان آخر!

كان علي باي يعتقد بأن تحركاته سرية، بينما في الواقع كان تهوره وسوء تصرفه قد لفتا إليه أنظار نواب الدول الأجنبية في المغرب وعلى الخصوص منهم نائب انجلترا، بالقدر الذي أثار من حوله شكوك بعض رجال الدولة، فكثرت التساؤلات والتكهنات عن حقيقة أمره. وبعد سفره إلى الصويرة أيقن خواص الملك، ولاسيما الصدر الأعظم محمد السلاوي بأن “الشريف العباسي” كان يدبر مكيدة، فجرى تتبع خطواته في السر. وبمجرد عودة علي باي إلى العاصمة مراكش أبلغه جواسيسه بأن السلطان سليمان يعيد تجميع جيش البخاري المشتت في المدن سرا ولغاية مجهولة.

فقرر الجاسوس الأسباني أن الظرف يفرض عليه إعداد رجاله باستعجال للموعد المضروب للتمرد، وشرع يحلم بأن يأخذ مكان سليمان على العرش. لكن موعد انطلاق الثورة حل ولم يأت السلاح. فخاب أمل المتآمرين المغاربة مع الجاسوس وسلموا أمرهم ورقابهم لرجال السلطان، واعترفوا بفصول المؤامرة. فتم وأد التمرد في المهد دون أن يمس الجاسوس بسوء بأمر السلطان.

والذي جرى بحسب المصادر التاريخية الإسبانية أن ملك إسبانيا شارل الرابع لما بلغ إلى علمه ما خطط له “أمير السلام” مع (على باي) لإشعال فتيل التمرد المسلح في المغرب رفض إرسال السلاح للمتمردين، وبرر رفضه بأنه لم يكن على (على باي) أن يقبل صداقة سلطان المغرب من البداية، لأن استغلال ثقة الغير للغدر به أمر مدان، وأنه (ملك إسبانيا) كمسيحي لن يقبل به من جهة لأن ضميره الديني لا يسمح ومن جهة أخرى لأنه سيبدو سخيفا أمام الأمم والتاريخ إن وافق.

ورغم ذلك، رقى الملك شارل الرابع (على باي) إلى رتبة ضابط عسكري كبير وأصدر إليه أمرا بمغادرة المغرب فورا، لمتابعة رحلته نحو المشرق.الإسلامي. وكان علي باي في غضون ذلك تلقى تحذيرات من عيونه وأذانه بأن عليه الإسراع بمغادرة مراكش بأسرع ما يستطيع بعد أن ظهر غدره. وهكذا غادر مراكش متوجها إلى الجزائر عبر فاس، وفي التاسع من شهر يونيه 1805 دخل وجدة مع أسرته الصغيرة وبعض المرافقين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى تلمسان

بسبب الحرب التي كانت مستعرة. وبقي منتظرا فرصة للعبور إلى أن لحقت به كوكبة من العسكر قوامها 30 فارسا بعث بها السلطان سليمان. فأخذته بالقوة غربا إلى مرسى العرائش، ومن هناك أركب مركبا شراعيا تركيا كان بالمرسى، حمله إلى طرابلس.

المراجع:
– محمد المنصور – المغرب قبل الإستعمار
– رامون مايراتا – علي باي العباسي مسيحي في مكة
– Voyages d’Ali Bey el Abbassi tome 01
– Voyages d’Ali Bey el Abbassi tome 02
– Joseph Fr. Michaud,Louis Gabriel Michaud-Biographie universelle ancienne et moderne ou Histoire…, Volume 57