نازك سابا يارد بصوتِها.. شاهدةٌ على أكثر من عصر ومدينة

7
نازك سابا يارد بصوتِها.. شاهدةٌ على أكثر من عصر ومدينة
نازك سابا يارد بصوتِها.. شاهدةٌ على أكثر من عصر ومدينة

أفريقيا برس – المغرب. وُلدتُ في القدس في 11 نيسان/ إبريل 1928. ولولا تكرار الرقم 1 مرّتَين لكانت ولادتي يوم كذبة نيسان. أمّا اسم ‘نازك’ فكان اسم أعزّ صديقات الماما، نازك حمدان عبد الملك. وقد كرهتُ هذا الاسم في طفولتي ومراهقتي. أوّلاً لأنّه كان اسماً غير مألوف في بيئتنا. وأكثر من ذلك، أصبح اسماً تندَّر به رفاقي الألمان حين دخلتُ المدرسة الألمانية في السادسة من عمري. ‘الأنف’ بالألمانية ‘نازيه’ (Nase)، فكانوا يهتفون به لإغاظتي: (Nasek, Nase, lange Nase) أي ‘نازك ذات الأنف الطويل’. لم يكن أنفي طويلاً، ولكن أزعجني جدّاً أن يُقرن اسمي بالأنف. ولم يقِلّ كرهي لاسمي إلّا حين أصبحتُ في مصر، حيث كان اسماً شائعاً؛ إلى أن بدأتُ أعتزّ به لأنّه اسمٌ نادر، ولأنّه اسم الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة”.

هذا صوت نازك سابا يارد، الروائية والباحثة والأكاديمية الفلسطينية اللبنانية التي غادرت عالمنا أوّل أمس الخميس. وهذه الكلمات من كتابِها السيَري الصادر عن “دار الساقي” عام 2008 بعنوان “ذكرياتٌ لم تكتمل”، وتحديداً من فصل عنوانُه “سنواتي الأُولى”، خصّصته لاستعادة ذكريات طفولتها في فلسطين، والتي تُخبرنا أنّها لم تُفكّر فيها كثيراً قبل شروعها في كتابة سيرتها، و”من ثمَّ، لم أعِ تماماً كم كنتُ محظوظةً بأن أتمتّع بمثل هذه الطفولة”.

ومن تلك السنوات الأُولى، تكتب نازك أنّها لا تتذكّر سوى ذلك البيت الحجري في حيّ الطالبية حين كانت تسكن مع أسرتها؛ بيت “حجارتُه من هذا اللون الذهبي الجميل الذي لم أشاهده على غير حجارة بيوت القدس”، وتكتب أيضاً أنّ ولادتها “اقترنت مع أحداث جسام قرنت حياتي منذ بدئها بتاريخ مسقط رأسي”. ففي حزيران/ يونيو من تلك السنة، عُقد في القدس المؤتمر الوطني الفلسطيني السابع، وفي أيلول/ سبتمبر حاول رؤساء الدين اليهود تغيير الاتفاق الذي كان سارياً منذ قرون بين اليهود والمسلمين على حائط البراق. فعُقد المؤتمر الإسلامي في تشرين الثاني/ نوفمبر للمطالبة بحماية الملكية للمسلمين في البراق الذي “كان موقعاً مقدّساً لديهم ولدى اليهود أيضاً. ونتجت من الصراع بين الطرفين تظاهرة واضطرابات نظّمها الصهيونيون اليمينيون عام 1929 أدّت إلى مقتل عدد من اليهود والفلسطينيّين”.

كانت سابا يارد في الثمانين من عمرها حين صدور هذه السيرة الذاتية التي كَتبَت، في تمهيدها، أنّ ما شجّعها على تدوينها هو عدم معرفة أولادها وأحفادها المنتشرين في بلاد الدنيا شيئاً عن ماضيها؛ أي عن جُزءٍ من ماضيهم هُم. أرادت، عبْر كتابة سيرتها، أن يعرف الأولاد والأحفاد (وبالتأكيد القرّاء) عنها أكثر، فإذا بها تعرف عن نفسها أكثر: “مَن لا يعرف ماضيه لا يعرف نفسه حقّاً. وقد اتّضحَت لي صحّة ذلك لدى النبش في ماضيَّ أنا، إذ اكتشفتُ عن نفسي أموراً لم أكُن أعيها، ولم تكن قد خطرت لي ببال”.

ومن التاريخ الشخصي والذاتي والخاصّ والحميمي، تُطلّ نازك سابا يارد على التاريخ العامّ والجماعي؛ تاريخ العائلة والبلدَين. تكتب: “أيّاً كانت القيمة الفنّية لسيرتي الذاتية، تبقى لها، بكلّ تأكيد، قيمةُ الأمانة في النقل والصدق تجاه الذات والآخر، وقيمةُ إلقائها ضوءاً على الحياة الاجتماعية والسياسية في الحقبة التي عشتها. وتكون لها، فوق ذلك، قيمة تدوينها جزءاً من تاريخ عائلتي التي هي نموذجٌ من عائلات عاشت بين فلسطين ولبنان في القرنين العشرين والحادي والعشرين”.

تبدأ نازك فصول سيرتها بوالدتها؛ حلا خطّار معلوف، المولودة في قرية دير الأحمر البقاعية عام 1899، حين كان لا يزال لبنان تحت الحُكم العثماني. ترسم لها صورة امرأة “جميلة جدّاً. قامتها متوسّطة الطول، ممتلئة، لكن الجمال كان جمال وجهها الذي لم تمسه المساحيق طوال حياتها، ولا شوّهته التجاعيد حتى موتها”. لكنّها تتساءل: “متى وعيتُ وجود هذه الأُمّ، وكيف وعيته، وكم كان عمري آنذاك؟”، لتجيب: “لا أعرف، وما أندم عليه ندماً لا حدّ له هو أنّي لم أهتمّ بعد ذلك بمعرفة المزيد عنها حين كانت على قيد الحياة، فلم أسألها، لم أستنطقها، وعليَّ الآن أن أعتمد على ما أتذكّره ممّا عشته وروته هي لي، وعلى ما قرأته من الرسائل القليلة التي تركتها لنا بعد وفاتها”.

سنعرف أنّ هذه الأُمّ نشرت مقالات في بعض الصحف والمجلّات، وروايةً قصيرة بعنوان “الجانية” عام 1922، وترجمت “أغنية الميلاد” لتشارلز ديكنز ووضعتها في قالب مسرحي عام 1926، وظلّت تعمل في “المطبعة الأميركية” حتّى قرّرت الزواج من رجُل فلسطيني من القدس. “كيف تعرّفَت إليه، وأين؟”، تسأل نازك مجدّداً وتجيب أيضاً: “لا أعرف، ولم يخطر لي أن أطرح عليها هذه الأسئلة قبل أن تموت. كانت بيننا وبين والدينا مساحةٌ لم تسمح بطرح أسئلة حميمة عليهما”.

وهذا الفلسطيني اسمُه اسكندر خليل سابا، وهو من مواليد الناصرة عام 1887، لأسرة يعود أصلُها إلى آل الصايغ في اللد. تُخبرنا نازك أنّ ما تعرف عن ماضي أبيها أقلُّ بكثير ممّا تعرفه عن ماضي أُمّها، لكنّنا سنعرف منها أنّه تلقّى دراسته الابتدائية في “مدرسة المسيح الإنجيلية” بالناصرة، وعمل (محاسباً) عدداً من السنين في السودان، قبل أن يعود إلى فلسطين ويتزوّج، وأنّه كان مُحافظاً وصارماً ووطنياً: “من والدي ورثتُ هذا الإحساس الوطني الذي دفعني إلى حُبّ اللغة العربية والتخصّص بها وبآدابها”، وكان “سبب نيلي البعثة إلى جامعة فؤاد الأوّل في القاهرة (جامعة القاهرة اليوم)”؛ إذ “لم يكن في القدس جامعات. وكان المرحوم أحمد سامح الخالدي، مدير الكلّية الوطنية في القدس، من أصدقاء والدي، وكان يعرف أنّي متفوّقة في المدرسة وأطمح إلى متابعة دراستي الجامعية. فحين عرضت عليه جامعة فؤاد الأوّل عام 1944 منحتَين لطالبتين فلسطينيّتَين، اختارني أنا ويسرى البربري من غزّة، فتحقّقت أمنيتي”. سنعرف أيضاً أنّه رحل بعد عام من نكبة فلسطين متأثّراً بذبحة قلبية، وأنّ الاحتلال الإسرائيلي كان قد اعتقله، في نيسان/ إبريل 1948، مع زوجته وابنته الأُخرى هدى وعدد من العرب الذين ظلّوا في القدس.

في السادسة من عمرها، ستلتحق نازك يارد سابا بـ”مدرسة البروبست” الألمانية. وسبب اختيار مدرسة ألمانية هو أنّ “عدد المدارس الحكومية في فلسطين كان قليلاً جدّاً. فمعظم المدارس كانت خاصّة (…) استبعدت المدارس الطائفية، ومنها الفرنسية، لأنّ والدي لم يكن طائفياً، والمدارس الإنكليزية لأنّه كان يكره الإنكليز”. بعد سنتَين من ذلك، التحقت بـ”المدرسة الألمانية في القدس” حيث درست لثلاث سنوات أُخَر، ثمّ بالقسم الإنكليزي في “مدرسة القدّيس يوسف للراهبات”، بعد أن أغلق الإنكليز المدرسة الألمانية إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثمّ كلّية الآداب في “جامعة فؤاد الأوّل” بالقاهرة التي حصلت منها على درجة الليسانس في الفلسفة عام 1949. وفي صيف تلك السنة ستحطّ بها طائرةٌ آتية من القاهرة بمطار بيروت، لتتزوّج بعد أشهر قليلة من إبراهيم يارد؛ زميلها اللبناني في الجامعة.

بعد سنوات من التدريس، ستتابع نازك دراستها في “الجامعة الأميركية” ببيروت؛ حيث ستنال درجة الماجستير، ثمّ درجة الدكتوراه عام 1976 عن أطروحة عنوانها “الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة” (صدرت في كتاب عن “نوفل” عام 1979)، تناولت فيها أدب الرحلة لدى العرب خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين بوصفه “أهمّ الفنون التي صوّرت احتكاك العربيّ بالغرب، وما نجم عن هذا الاحتكاك من مؤثّرات صدمت الذهنية العربية والمجتمع العربي، وأدّت إلى صراع سياسي واقتصادي وفكري وحضاري لا يزال من الأسباب التي تُقلق الهوية العربية حتى اليوم”.

ولمناسبة الهوية، كتبت نازك سابا يارد، في “ذكريات لم تكتمل”، ما يُشبه تعريفاً موجزاً بهويتها: “لا نستطيع أن نختار هويّتنا ولو كان بإمكاننا أن نختار انتماءاتنا. هوياتي متعدّدة وانتماءاتي متشابكة ومعقدّة. فأنا فلسطينية الأب والمولد، لبنانية الأُمّ والجنسية، وأنا عربية ومسيحية في عالم يقرن العروبة بالإسلام ويتجاهل، أو يجهل، وجود مسيحيّين عرب حتى قبل مجيء الإسلام. وبسبب ثقافتي، وبفضلها، أشعر أنّني أنتمي إلى العالم، شرقه وغربه، إلى عالم لا تفصل في ما بينه حدودٌ ثقافية، وإن فصلت في ما بينه حدودٌ جغرافية وسياسية، عالم يضمّني كما يضمّ غيري من البشر، ولكنّي أشعر بغربة في كلّ هذه الانتماءات”.

بين الكتابة البحثية والأدبية

بعد كتابها الأوّل “الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة” (1979)، وضعت نازك سابا يارد، خلال 1981 و1983، مقدّمات نقدية وتحليلية لكُتب جبران خليل جبران العربية والمعرَّبة التي أصدرتها “دار نوفل”، وألّفت عدداً من الدراسات حول شعراء عرب قدامى ومحدثين؛ مثل: “ابن الرومي: شاعر الحسّ والعاطفة والخيال” (1980)، و”أحمد شوقي: لحن المجتمع والوطن” (1982)، و”كلُّ ما قاله ابن الرومي في الهجاء” (1983)، و”حماد عجرد: شاعر عباسي” (1983)، و”في فلك أبي نواس” (1992).

في عام 1983، أصدرت باكورتها الروائية “نقطة الدائرة”. وعلى خلاف هذه الرواية التي تذكر، في كتابها السيَري، أنّها لقيت صعوبةً في إيجاد ناشر لها، بسبب أنّها عُرفت أوّل الأمر في مجال الكتابة البحثية لا الأدبية، لم تلق صعوبة في إيجاد ناشر لروايتها الثانية “الصدى المخنوق” (نوفل 1986) التي صوّرت فيها تفكُّك العائلة اللبنانية خلال الحرب الأهلية، والتي تلتها روايةٌ ثالثة بعنوان “كان الأمس غداً” (1988) تناولت فيها الواقع اللبناني بأسلوب رمزي؛ من خلال قصّة أخوَين يتسبّب شجارٌ يشبّ بينهما في إحراق فندقٍ يرمز إلى لبنان نفسه.

وفي السنوات اللاحقة أصدرت روايات أُخرى؛ هي: “تقاسيم على وتر ضائع” (1992)، و”الذكريات الملغاة” (1998)، و”الأقنعة” (2004)، و”أوهام” (2012)، و”اللعنة” (2014)، و”فقدان” (2017)، و”عبء الزمن” (2019). وفي أدب الأطفال والناشئين، صدرت لها روايات: “بيروت، هل نعرفها” (1994)، و”في ظلّ القلعة” (1997)، و”بعيداً عن ظلّ القلعة” (1998)، و”أيام بيروت” (2000)، و”سامر” (2009).

إضافةً إلى ذلك، ألّفت، بالاشتراك مع نهى بيومي، كتاب “الكاتبات اللبنانيات: بيبليوغرافيا 1850 – 1950” (2000) الذي عرّف بكاتبات لبنانيات منسيات، كما صدر لها في 2002 كتابٌ باللغة الإنكليزية بعنوان “Secularism and the Arab World”، أضاءت فيه حضور العلمانية في الفكر العربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، في محاولة لتبيان مدى التقهقر الذي أصابه في أزمنة لاحقة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب عبر موقع أفريقيا برس