
أفريقيا برس – المغرب. في ظل تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة تخيّم على المشهد السياسي المغربي بمختلف مكوّناته، تعود عجلة “الحوار الاجتماعي” لتدور، بعد توقف اضطراري أملته الفاجعة الطبيعية المتمثلة في زلزال “الحوز”، حين طلب رئيس الحكومة تأجيل جولة أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، دون تحديد موعد جديد لجلوس الحكومة مع النقابات الأكثر تمثيلية، من أجل معالجة الملفات العالقة و”الحارقة”، بتعبير الكثيرين.الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أفاد بأن جولة جديدة من “الحوار الاجتماعي” الذي يجمع بين حكومة عزيز أخنوش والنقابات العمالية وممثلي أرباب المؤسسات الاقتصادية الكبرى، سوف تلتئم الثلاثاء (26 آذار/ مارس)، بعدما كان مقرراً عقدها في أيلول/سبتمبر المنصرم، لكن ظروف الفاجعة حالت دون ذلك. وتبقى أولوية النقابات العمالية في الحوار، تحقيق المزيد من المكتسبات وتلبية المطالب التي تأتي على رأسها مسألة الأجور، فهي العمود الفقري لنضالات الشغيلة، فضلاً عن الضريبة وتعديلاتها.
كل ما له علاقة بالدخل سواء كراتب أو كاقتطاعات مثل الضرائب، يكون النقاش حوله ساخناً جداً، بحكم أنه يمس المعيش المباشر للطبقة العاملة، لكن هناك محاور أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، مثل حق الإضراب الذي يعتبر الجسر الأكثر أماناً لضمان حرية الاحتجاج على أوضاع غير مقبولة.وسيكون ملف “قانون الإضراب” الحاضر الأكبر في نقاشات الحوار الاجتماعي كما يتوقع عدد من المراقبين، الذين أكدوا في تحليلاتهم أن الحكومة ستحاول الاشتغال مع النقابات في إطار مقاربة تشاركية بهدف إخراج القانون المذكور من الرفوف المظلمة التي بقي فيها مدة طويلة، إلى حيز الوجود والتطبيق.ويعتبر القانون المتعلق بتنظيم حق الإضراب من الملفات “العابرة للحكومات”، حسب تعبير أحد المحللين، فهو حبيس الرفوف منذ حكومة سعد الدين العثماني، التي لم تتمكن من تمريره بعد أن عارضت النقابات المركزية بشدة مجموعة من بنوده، ليظل رهين درج المكاتب. أهمية قانون الإضراب وتفاصيل ممارسة هذا الحق تأتي بناء على تنصيص الدستور المغربي بكل نسخه السابقة منذ 1962 إلى 2011، هذا الأخير في فصله 29 يضمن حق الإضراب، كما يحدد الشروط والإجراءات التنظيمية لممارسته من خلال قانون تنظيمي. وعلى بعد خمس سنوات من ذلك أقر المجلس الوزاري عام 2016 أول مشروع قانون ينظم حق الإضراب في المغرب، لكنه ظل يراوح بين الإجراءات التشريعية اللازمة ليُصبح ساري المفعول.
علاوة على ذلك، يعدّ إصلاح أنظمة التقاعد (المعاش) من بين الملفات المطروحة على طاولة النقاش بين الحكومة والنقابات وممثلي المؤسسات الاقتصادية الكبرى، حيث ينتظر بحث سيناريوهات الإصلاح الممكنة التي تراعي مصلحة جميع الأجراء، وتضمن ديمومة صناديق التقاعد التي أصبحت تعاني عجزاً كبيراً.انكباب حكومة أخنوش على فتح هذا الملف الذي يوصف بالحارق هو إذن محاولة لتجاوز اختلالات سنوات من المماطلة في هذا الإصلاح الجوهري، ما جعل حزب “الأصالة والمعاصرة” المشارك في الأغلبية يثني على مبادرة الحكومة في هذا الاتجاه، داعياً جميع الأطراف والشركاء المعنيين بهذا الملف إلى “الانكباب بجدية ووطنية، وبتواصل شفاف ومكثف، لتحقيق الإصلاح المنشود، بعيدًا عن الخطابات المشككة أو التي تنشر المغالطات في صفوف المواطنات والمواطنين”، مثلما جاء في البيان الصادر عقب اجتماع مكتبه السياسي أخيراً. وأضاف أنه “إذ يستحضر قوة ومكانة البعد الاجتماعي في مختلف مبادئه ووثائقه ومرجعياته، لعلى ثقة واستعداد تامين للمساهمة بمسؤولية داخل الحكومة في إصلاح هذا الورش المركزي في بناء الدولة الاجتماعية، وتحقيق التوازنات الاستراتيجية المطلوبة في هذا الإصلاح المبنية على التخفيف من تكاليف تحملات الدولة مستقبلا من جهة، ومن جهة أخرى الحفاظ في الوقت نفسه على إنصاف منخرطي هذه الصناديق”.وتدارس المكتب السياسي للحزب نفسه مضمون “المعطيات المقلقة” الصادرة عن بنك المغرب، واستمع في الوقت نفسه إلى تقرير مفصل حول “التضخم” في المغرب، بارتباط وانعكاس مباشر على القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، متضمناً عدداً من الحلول والمقترحات للتخفيف من حدة هذه الأزمة ومعالجة بعض مسبّباتها، والتي يضعها المكتب السياسي رهن إشارة الاجتماع المقبل للأغلبية الحكومية، داعياً في السياق نفسه مكونات الأغلبية إلى “حوار سياسي عميق بين مكوناتها، يستهدف إنجاح محطة الحوار الاجتماعي المقبل، باعتبار نجاح هذا الأخير من مداخل بناء الدولة الديمقراطية والاجتماعية القوية”، وفق ما ورد في البيان.
بالنسبة للنقابات، فإن جدول الأعمال واضح، والملفات لا تحتاج إلى من يحركها، لأنها أصلاً حاضرة بقوة الواقع وبقوة المطالب المطروحة أمام حكومة عزيز أخنوش، وتتقدمها ملفات الرواتب والضرائب على الدخل والملفات القطاعية من تعليم وصحة وغيرهما، فضلاً عن قانون الإضراب، وكل ذلك يدخل في سياق الإصلاحات المعلقة.وموافقة النقابات على استئناف الحوار أمر مفروغ منه من طرف المركزيات الأكثر تمثيلية، لكن ليس في سبيل “الحوار من أجل الحوار” كما ورد في تصريحات الأمين العام لنقابة “الاتحاد المغربي للشغل”، ميلود موخاريق. وترى بعض النقابات أن خطوة استئناف الحوار الاجتماعي تأتي في أعقاب تعطيل عجلته بسبب تخلي الحكومة عن التزاماتها الاجتماعية الموقعة في اتفاق 30 نيسان/أبريل من العام 2022، وهو ما صرحت به نقابة “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”، معتبرة أن الحكومة أخلّت بالتزامات موقعة في اتفاق كان يقضي بالزيادة في الأجور، وتفعيل الشطر الثاني في الحد الأدنى للأجر ومراجعة أشطر الضريبة على الدخل وإحداث الدرجة الجديدة وحل النزاعات الاجتماعية واحترام الحريات النقابية، وتنزيل “ميثاق مأسسة الحوار الاجتماعي” وغيرها من المطالب.
المستجد الذي يبدو أن الحكومة تعي تفاصيله جيداً وهي تدخل “الحوار الاجتماعي”، كون النقابات الأكثر تمثيلية تعرضت لنوع من الإحراج ولم تعد ذات قوة ميدانية في بعض الملفات الحارقة مثل التعليم، وذلك ما اتضح من خلال معركة المدرّسين خلال الشهور التي مضت والتي حولت افتتاح الموسم الدراسي إلى فراغ كبير حرم خلاله التلاميذ من الفصول الدراسية بعد معركة النظام الأساسي والتعاقد، التي خاضتها “التنسيقيات” في قطاع التعليم وتبنت فيها قرارات الاضرابات، دون انتظار المركزيات التي اتهم بعضها من طرف المدرسين بـ “التواطؤ مع الحكومة في إقرار نظام أساسي غير منصف”.ورغم ذلك، تعود النقابات المركزية إلى طاولة الحوار مع الحكومة، وفي جعبة الحركة النقابية – ولو من باب التنسيقيات – “انتصار” في ملف التعليم، كان ثمرة إضرابات لم يشهد لها القطاع مثيلاً من قبل وشلّت المدارس في المغرب لمدة طويلة.وتجلت ملامح ذلك “الانتصار” في مصادقة الحكومة على مشروعي قانونين لإنهاء التعاقد في قطاع التعليم، كما صادق رئيسها عزيز أخنوش، على مشروع مرسوم يتعلق بالنظام الأساسي الخاص بموظفي الوزارة المكلفة بالتعليم، وتوصلت أيضاً إلى اتفاق مع النقابات المركزية الأكثر تمثيلية كان من أهدافه الأساسية الزيادة في أجور جميع المدرسين وموظفي التعليم.إلى جانب التعليم بكل فئاته، هناك ملف قطاع الصحة الذي يغلي على وقع الإضرابات التي قررتها نقابات الممرضين، إضافة إلى حالة الارتباك في الموسم الدراسي لطلبة الطب الذي دخلوا في موجة احتجاجية ضد ما وصفوه بـ “الأوضاع الكارثية” التي يعيشونها داخل منظومة التكوين الطبي والصيدلي في الكليات العمومية. ويعتبر هذا الملف مؤرقاً للحكومة التي لا تريد أن يتكرر مشهد الإضرابات في قطاع التعليم، وتحاول أن تجد مخرجاً للوضع الحرج الذي بلغ حد مقاطعة طلبة الطب للامتحانات بنسبة قاربت 100 بالمئة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن المغرب اليوم عبر موقع أفريقيا برس