مقديشو.. الانتخابات المحليّة الأولى منذ نصف قرن

0
مقديشو.. الانتخابات المحليّة الأولى منذ نصف قرن
مقديشو.. الانتخابات المحليّة الأولى منذ نصف قرن

عبد الرحمن آدم – المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الصومالية

أفريقيا برس – الصومال. انتخابات الإدارة المحلية “البلديات” التي جرت الخميس 25 ديسمبر/كانون الأول 2025 في العاصمة الصومالية مقديشو، بعد نصف قرن كامل من الغياب، جاءت نقلة سياسية مهمة تستجيب لرغبة الشعب الصومالي، الذي استمر لعقدين من الزمان أسيرا للمحاصصات القبلية، والعمليات السياسية التي كانت تحمل ثغرات تتيح لسلوكيات الفساد أن تؤثر في تشكيل الواقع في البلاد، كما أظهرت مقدار النضج سياسيا واجتماعيا الذي بلغه الصوماليون، محولة عقودا من الفوضى والانقسامات إلى لحظة تاريخية تعبر عن إرادة جماعية قوية.

فهذه الانتخابات، التي شهدت مشاركة واسعة رغم التحديات الأمنية واللوجيستية، لم تكن مجرد إجراء شكلي، بل هي دليل حي على تحول الشعب الصومالي من ضحية للظروف إلى صانع لمصيره، حيث أثبت أنه قادر على تجاوز الصراعات القبلية والحروب الأهلية التي أعاقت تقدمه لعقود.

ويمكن القول إن هذه الخطوة الجريئة ستؤدي إلى أن يدرك العالم أجمع أن الصوماليين قادرون على انتخاب قياداتهم بسلام وشفافية، وإدارة أنفسهم بكفاءة دون الحاجة إلى تدخلات خارجية مستمرة، وصنع ما هو جدير بمستقبل أجيالهم القادمة من خلال بناء مؤسسات قوية وفعالة، وذلك في زمن يسيطر فيه التنميط على صورة الصومال عالميا.

ولذا يأتي هذا الحدث ليعيد رسم الخارطة السياسية، مظهرا أن الشعب قادر على إنتاج قيادات محلية تمثل إرادته الحقيقية، وتعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عاصمته التاريخية.

كما تكسر هذه الانتخابات أعداء النجاح الوطني، وحملة الأفكار المتطرفة وكل من هو معارض لتقدم البلاد، إذ تبدد آمال المتطرفين الذين سعوا لاستغلال الفوضى لأغراضهم، بإجراء التصويت في قلب مقديشو دون حوادث كبرى، ليرسل الصوماليون رسالة حاسمة إلى الإرهابيين والمتمردين المتطرفين، بأن عصر التحالفات الهدامة قد انتهى، وأن الشعب الصومالي قد اختار درب السلام والحكم الرشيد.

وذلك النضج الشعبي، المدعوم بجهود الحكومة الفدرالية، يفتح وسيفتح آفاقا جديدة للوحدة الوطنية، ويشجع المجتمع الدولي على دعم حقيقي بدلا من التدخل، ممهدا لمرحلة ازدهار يستحقه الصومال بعد سنوات المعاناة الطويلة.

جهود تؤشر إلى نجاح أعمال إعادة بناء الدولة

وقد جرت هذه الانتخابات بفضل الجهد الدؤوب والإرادة الطيبة التي بذلتها الحكومة الفدرالية، للوصول إلى التغيير الحقيقي في بلد يعاني من عقود من الفوضى، وإجراء الانتخابات في البلاد وإحداث تحول جذري نحو الاستقرار، وانطلاق العملية الديمقراطية ممثلة بالتصويت المباشر.

إذ لم يكن هذا الإنجاز مصادفة، بل نتاج رؤية إستراتيجية شملت إعداد دستور محدث يضمن حقوق الجميع وينهي النزاعات القبلية، مما مهد الأرضية القانونية لعملية انتخابية شاملة بعد نصف قرن من التدهور السياسي.

كما شُكلت لجنة الانتخابات المستقلة بجهود وطنية بحتة، تجاوزت الخلافات السياسية لتصبح نموذجا للشفافية، حيث عمل أعضاؤها بدأب لتسجيل الملايين من الناخبين رغم قلة الموارد.

أما التكاليف الطائلة لتلك العملية، فقد تحملتها الحكومة الصومالية من خلال مواردها الوطنية دون مساعدة دولية مباشرة، مما أظهر استقلاليتها المالية في مواجهة أي من الضغوط الخارجية والداخلية، وعزز ثقتها بقدراتها الذاتية، وإضافة إلى ذلك، فقد تم التحضير والتدريب للانتخابات دونما دعم خارجي، من خلال برامج تدريبية محلية غطت آلاف العاملين في مراكز الاقتراع، معززة الوعي المدني والكفاءة اللوجيستية في هذه الظروف الاستثنائية.

ولم يكن هذا الإنجاز ممكنا إلا في ظل بروز هدوء العاصمة أثناء العملية الانتخابية كإنجاز أمني يستحق الوقوف عنده، حيث نجحت القوات الأمنية في ضبط أمن العاصمة مقديشو رغم التهديدات السابقة والمتكررة من قبل الإرهابيين، وسمحت بتصويت نصف مليون حاصل على بطاقة ناخب هناك بسلام تام، في مشهد يعكس السيطرة الكاملة على الشوارع وثقة الشعب في الدولة، ما يجعل هذه الجهود الشاملة ليست مؤشرا على نجاح أعمال إعادة بناء الدولة في الصومال فحسب، بل ترسل رسالة عالمية بأن القيادة الوطنية قادرة على صنع التاريخ بيدها، ممهدة لمرحلة جديدة من الازدهار والوحدة.

إنجاز محسوب للرئيس الحالي

لم تخلُ مراحل الإعداد للانتخابات التاريخية في مقديشو، من بروز عقبات سياسية عميقة، نتيجة لترسخ نظام الانتخابات غير المباشرة منذ عام 2004، وما حمل في طياتها من تكريس عدم المساواة بين فئات الشعب الصومالي، وكذلك تسهيل ممارسة الفساد السياسي، من قبل أطراف مختلفة للتأثير في عملية اختيار ممثلي الشعب الصومالي، إلا أن تلك المرحلة تم تجاوزها ببراعة من قبل إدارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، عبر الدعوات المتكررة التي تقدم بها للمعارضين للحكومة، ليدلوا بدولهم فيما يرونه مناسبا لإجراءات ومراحل الإعداد للانتخابات وتنفيذها بنجاح وبالشكل الذي يضمن عدالتها وشفافيتها.

لقد أتاحت إدارة الرئيس للمعارضة سواء كانوا أفرادا مؤثرين سياسيا أو أحزابا، أن يساهم الجادون منهم في القيام بأدوار كبيرة ومؤثرة في صياغة المراحل التمهيدية، في حين أبقى الرئيس الباب مفتوحا أمام مجموعة “كيسمايو” حتى آخر لحظة للالتحاق بركب العملية الانتخابية، وإبداء ملاحظاتهم عليها، وكذلك تقديم المرشحين الممثلين لكتلهم، ليمكن غلق الباب أمام العقبة الأولى التي تكمن في اعتياد البعض إثارة التوترات السياسية المزمنة، والكشف عن أن الباعث الحقيقي لبعض المعارضين على عرقلة أي عملية انتخابية، لا يعدو رغبتهم الشخصية في الحفاظ على نفوذهم القبلي والإقليمي.

لكن الإدارة الحالية وانطلاقا من إدراكها هذا، أبقت أبواب الشراكة مفتوحة، مما دفع بالعديد من الكتل والشخصيات السياسية إلى الانضمام لداعمي إجراء انتخابات عادلة، ما حقق تحولا ينهي عقودا من التصعيد والانقسامات التي أدت إلى انهيار الدولة سابقا، ومع ذلك شدد الرئيس الصومالي على أن الرغبة في الحوار دائمة وأن “الباب مفتوح”، ولكنه اعتبر عدم احترام رغبة الشعب في تحقيق التقدم السياسي خطا أحمر، تلك الرغبة التي أظهرتها المشاركة الكثيفة في الانتخابات، كما أعلن الرئيس حسن عدم إمكانية العودة إلى الوراء.

ومن خلال هذا النهج السياسي القائم على توازن الحوار المفتوح والمبادئ المعلنة، تم تجاوز عقبة الاستقطاب السياسي القبلي/المناطقي، ما حول المخاطر إلى فرصة للوحدة الوطنية، وإظهار قدرة القيادة على استيعاب الخصوم دون تنازلات جوهرية، وبهذه الطريقة لم تكن الانتخابات مجرد تصويت لمئات آلاف الناخبين، بل هي انتصار سياسي يعيد صياغة المشهد الصومالي، منهيا عصر المعارضات القائمة على التشدد والتصعيد، وممهدا لديمقراطية شاملة تستوعب الجميع.

الصومال ينهض!

لن يكون من المبالغة اعتبار أن انتخابات الإدارة المحلية في مقديشو يوم 25 ديسمبر/كانون الأول 2025 تمثل نقطة تحول حضارية في مسيرة الصومال نحو الاستقرار والازدهار، حيث جمعت بين نضج الشعب الذي تجاوز عقود الفوضى القبلية، وجهود الحكومة الفدرالية الدؤوبة في إعداد الدستور واللجان والأمن دون تدخلات خارجية، وبراعة الرئيس حسن شيخ محمود في استيعاب المعارضين وإغلاق أبواب الاستقطاب والتشنج السياسي.

لذا فإن هذا الحدث الديمقراطي لم يكن مجرد تصويت لملايين الناخبين بسلام تام، بل هو انتصار شامل يكسر سلاسل الإرهاب والفساد، ويعيد رسم صورة الصومال عالميا كأمة قادرة على انتخاب قياداتها وإدارة شؤونها بكفاءة ذاتية، من خلال ما تم من تحمل التكاليف وطنيا، وتدريب آلاف العاملين محليا، وتأمين العاصمة رغم التهديدات.

لذا فقد أثبتت القيادة أن إعادة بناء الدولة ليست شعارا بل واقعا ملموسا يتحقق، بما يفتح آفاق الوحدة الوطنية ويشجع المجتمع الدولي على تقديم مساندة حقيقية تعتمد الشراكة لا الوصاية.

وبناء على كل ما سبق، فإنه اليوم وبعد نصف قرن من الغياب، يقف الصوماليون على أعتاب عصر جديد يجمع بين الحوار المفتوح والمبادئ الثابتة، محولين التحديات إلى فرص، والانقسامات إلى تماسك، مدركين أن هذه اللحظة التاريخية ليست نهاية الطريق، بل بداية مسيرة ديمقراطية شاملة تنتج تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، وتكرس السلام كأساس لأجيال قادمة تستحق مستقبلا مشرقا خاليا من أشباح الماضي، معلنة للعالم: الصومال ينهض، وقادر على العيش بكرامة وتقدم.

المصدر: الجزيرة نت

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصومال عبر موقع أفريقيا برس