“المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش 20” سَبرُ أغوار الذاكرة

3
"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش 20" سَبرُ أغوار الذاكرة

أفريقيا برس – الصومال. فرض الظرف الدولي المضطرب، الذي انعقد فيه “المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش”، في ظلّ استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، طابع احتشامٍ على مجريات الدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023)، تجلّى في إلغاء أشكال الاحتفال البيّن، بما في ذلك البساط الأحمر خارج “قصر المؤتمرات”، وعروض ساحة “جامع لفنا”، بعيداً عمّا كان مُنتظراً من دورةٍ، تصادف الذكرى الـ20 (اليوبيل الفضّي للمهرجان) أنْ تتمخّض عنه من احتفالاتٍ وبرامج استثنائية. إذْ تمّ الاكتفاء بإحياء أمسية تُذكّر بأبرز وأقوى لحظات 19 دورة، زاخرة بنجوم السينما وجهابذة الخلق السينمائي فيها، الذين تناوبوا على لجان التحكيم، وبرامج التكريم، والحوارات، وغيرها.

دورةٌ تميّزت بالمكانة البارزة التي احتلتها ثيمة الذاكرة والتفكّر، في دورها الأساسي في صوغ حاضر الإنسان وعلاقته مع محيطيه القريب والبعيد، ومدى تعاطفه مع أخيه الإنسان. كأنّ مخرجي العالم يكادون يُجمعون على أن لا مخرج للإنسانية من مآزق الحروب والكراهية، بشتّى أنواعها، سوى نبذ أيديولوجيا الانطواء على الحاضر، التي تجعلها تتقوقع على تصوّرات ضيقة لمفاهيم أساسية، لضمان العيش المشترك، كالهوية والتاريخ والعلاقة بالروحانيات. وطَبع غنى برنامج “حوار مع…”، وتنوُّع الاقتراحات الجمالية للمخرجين والممثلين المشاركين، وقعاً قوياً على المهرجانيين من الشباب والأقلّ شباباً، حيث جمعت هذه الدورة أسماء لامعة، كتيلدا سوينتن، وويليم دافو، وأندري زفيغانتسيف، ومات ديلون، وسيمون بيكر، إضافة إلى المُكرَّمَين فوزي بن السعيدي ومادس ميكلسن.

المغرب وأفلامٌ أخرى أيضاً

الدورة نفسها اتّسمت أيضاً بحضور مهمّ للسينما المغربية، ليس فقط على صعيد التتويج بجوائز المسابقة الرسمية، بل في مختلف أقسام المهرجان، خاصة التكريم المؤثّر لبن السعيدي، أبرع سينمائيي جيله، وتتويجه بعرض فيلمه الأخير الاستثنائي “الثّلث الخالي”. نحن بعيدون عن فترة النقاشات الدائرة حول “ما يقدّمه المهرجان للسينما المغربية”، حيث باتت هذه الأخيرة تُقدّم للمهرجان بقدر ما تفيد منه، إن لم نقل أكثر، باعتباره واجهة ذات إشعاع معتَبر دولياً، والدور المهمّ لـ”ورشات الأطلس” في تطوير مشاريع شباب من المغرب والمنطقتين العربية والأفريقية، يقدّمونها لاحقاً في مختلف أقسام المهرجان.

شهد قسم “القارة الحادية عشرة” عرض 13 فيلماً، تحضر فيها كتابات متفرّدة، ونَفسٌ تجريبي، منها نسختان مُرمّمتان من معلمتين عربيتين: رائعة السينما السياسية “المخدوعون” (1972) للمصري توفيق صالح، المُقتبسة عن الرواية الشهيرة “رجال في الشمس” (1962) للفلسطيني غسان كنفاني، والاستعارة المذهلة بمونتاجها الفكري، وعصرية سردها المتشظّي التي أنجزها عن مآسي الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وتغربه في متاهات الخذلان؛ و”أشباح بيروت” (1998) للبناني غسان سلهب، الذي يُقارب بنفَس غوداري آثار الدمار الداخلي الذي تركته الحرب الأهلية في نفوس اللبنانيين.

بدورها، تميّزت “العروض الاحتفالية (غالا) بحضور أسماء مهمّة: ألكسندر باين مع “عطلة شتوية”، وسيدريك كان مع “مايكينغ أوف”، وماتيو غاروني الذي قدّم “أنا القبطان”: رحلة ملحمية مدهشة لصبيّين من السنغال إلى إيطاليا. هناك أيضاً “ذاكرة” لميشال فرانكو، بحضور جيسيكا تشاستن.

في فقرة “العروض الخاصة”، عرض 17 فيلماً من أفضل ما أنتجته السينما العالمية هذا العام: “عن الأعشاب الجافة”، الذي أعلن عودة نوري بيلغي جيلان إلى التّحف؛ “وداعاً جوليا” لمحمد كردفاني؛ “الوحش” لبرتران بونيلّو؛ “شرح لكلّ شيء”، فيلم مستقلّ كبير لغابور ريز ينجز عبره، بسرد فصلي وكورالي، صورة إشعاعية للمجتمع المجري، وكيف يغدو سوء تفاهم بسيط حول لباس طالب، في امتحان البكالوريا، مطية لضجة إعلامية كبرى، تُغذّي أيديولوجيا اليمين المتطرّف. اختُتمت العروض برائعة آليتشي رورفاكر، “لاكيميرا (رؤى)”: شاب إنكليزي يحتكّ بعصابات نهب قبور الحضارة الإترورية، في منطقة توسكانا شمالي إيطاليا، مستبطناً ذاكرة اختفاء عشيقته في فترة وجوده في السجن، تقاربها المخرجة الإيطالية بشعرية التفاصيل، وخيط أحمر روحاني يربط الحبيبين، وينهل من أسطورة أريادني.

المسابقة الرسمية

مرّة أخرى، أبَان حصر المسابقة الرسمية في الأفلام الأولى والثانية لمخرجيها عن وجهين: أفلام قوية، يبدو فيها جموح التجربة الأولى فنّياً، ورؤية متفرّدة للعالم؛ وأفلام لم يتوفّق مخرجوها في المزاوجة بين الشكل والمحتوى، لقول أشياء مثيرة للاهتمام، بعيداً عن الأسلوبية. في الفئة الأولى، هناك “عصابات”، للمغربي كمال الأزرق (جائزة لجنة التحكيم): مغامرة ليلية متوتّرة، تتتبّع سعي أب وابنه إلى التخلّص من مشكلة عويصة يواجهانها، عند القيام بمهمة إجرامية لفائدة زعيم عصابة، للانتقام من زعيم عصابة معادية. يعتمد الأزرق على جمالية الوجوه غير الاعتيادية، والأفلمة بالقرب من الشخصيات، مع اقتصاد في الحبكة (لا تفسير لغياب الأم مثلا)، رغم قوة الرهان. ولعل نجاح المخرج في الموازنة بين هذين النقيضين منح الفيلم جاذبية، خاصة أنّ نسق البيكاريسك، أو لقاء الأب وابنه بطيف واسع من الشخصيات المختلفة، التي تحمل كلّها بصمة مختلفة، يضفي على الفيلم لمسة تخرج به من طابع المهمة ـ البرنامج، على غرار شخصية البحّار، مُدمن الكحول، الذي يناقض بجمالية المونولوغ الهزلي والثرثرة الوجومَ المفرط في الجدّية للثنائي الرئيسي.

يقول الفيلم، بموشور العبث الحالم، أشياء أساسية عن تغلغل التّطيّر الديني في التصوّر الجماعي المغربي، حين يتوحّد بين الفينة والأخرى مع الرؤى الكابوسية للأب، ومركّب الذنب الذي يستولي عليه. هناك أيضاً تبادل مشعل السلطة بين الأب والابن في فترات الفيلم، بالتوازي مع مقاربة إخراجية خلّاقة، تنجح في محو معالم الزمن بفضل الانخراط في الشعور النسبي بمدّة المَشاهد، تعطي الانطباع بأن الأحداث تجري على امتداد ليلة لا تنتهي. أما تدبير المكان، فيدين بأصالته إلى حيلة الانتقال المتكرّر بين ضواحي الدار البيضاء ومحيطها القروي، دخولاً وخروجاً على شكل Zigzag، ينتهي بإلغاء مفهوم المكان بمعناه المعتاد، ليتوغل الفيلم في أقاصي الليل، وذاتية شخصياته المفعمة بالخواطر السوداوية، التي تجد في المشاهد النهائية وقسوتها نوعاً من التصريف والتفريغ.

مناصفةً، نال “باي باي طبريا”، للينا سويلم، جائزة لجنة التحكيم. تعتمد البنية السردية لهذا العمل، المؤثّر بصدقه وذاتيته، على جمالية لوحة البازل، التي يتمّ تركيب قطعها واحدة تلو أخرى عبر قصص صغرى لنساء عائلة في 4 أجيال، تُكوِّن الحكاية الكبرى لأرض فلسطين. اللافت للانتباه أنّ كل شخصية تحمل بُعداً تراجيدياً مختلفاً، يعطي لمحة عن وجه مختلف للمأساة المركّبة للشعب الفلسطيني. انطلاقاً من الجدّة الكبرى أم علي، التي عاشت النكبة والترحيل القسري من طبريا إلى دير حنا، وصولاً إلى المخرجة نفسها التي تعيش حالة اغتراب هوية وشتات روحي، مروراً بالجدّة الصغرى نعمت، التي ظلّت تحلم باجتماع شمل عائلتها الكبيرة، والأم هيام عبّاس، التي تحضر أمام كاميرا ابنتها مُشكّلة خيط الحكي الذي ينقلنا من قصة إلى أخرى.

تتوفّق سويلم في تفادي سؤال اللعب بمعنى “تأدية دور”، الذي لا يمكن ألّا يُطرح أمام الحضور الطاغي لعبّاس، بفضل حيلة “اللعب” بمعناه الطفولي، حين لا تخجل من “الفشل البيّن” لتمرين تصوير مقاطع، تسعى المخرجة عبرها إلى إعادة تصوير لحظات حاسمة من مسار أمها، كتقدّمها للانتساب إلى معهد التصوير، أو مصارحتها والدها بنيّتها الزواج من أجنبي “غير مسلم”، أو بفضل لحظات هزل خفيف، تجمع عباس بأختها التي عاشت في مخيّمات اللاجئين في سورية، حاملةً معها قطعة مأساة اللاجئين الفلسطينيين لفسيفساء الفيلم، أو بصديقات طفولتها.

قالت سويلم، في رسالة مسجلة بعد تسلّم هيام عبّاس الجائزة نيابة عنها، لتعذّر حضورها بسبب وفاة أحد أقارب زوجها في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة: “هذه الجائزة مهداة إلى جميع الفلسطينيين الذين يحاولون العثور على مكانهم في العالم”، داعيةً إلى “وقف الأعمال العسكرية” في القطاع.

أما جائزة أفضل إخراج، فنالتها السنغالية راماتا ـ تولاي سي عن أول روائي طويل لها “بانيل وأداما”، التي ختمت كلمتها بـ:”نحن المستقبل”. قولٌ ارتسم لها ابتسامة على محيى رئيسة لجنة التحكيم جيسيكا تشاستن، المعروفة بالتزامها النسوي. ولا شكّ أنّ جملة “لا تقولوا لجدتي أنّي مخرجة”، التي تهمس بها المغربية أسماء المدير، مُلتقطةً نفسها بكاميرا “درون” ترتفع في الأعالي، في اللقطة الأخيرة من “كذب أبيض” (النجمة الذهبية ـ الجائزة الكبرى)، لم تخطئ بدورها في لمس شغاف تشاستن. سعيٌ لافتٌ للانتباه من المدير إلى وضع كلّ سبل النجاح في صفّها، و”تأمين” كلّ الخيارات. صحيحٌ أنّه ينتهي غالباً بصنع أفلام جيّدة، لكنّه يبطل بالحركة نفسها أشياء، كالهشاشة والشّك وازدواجية الرؤى، وهذا يصنع في نهاية المطاف الأفلام الكبيرة.

اختبارات وتحدّيات

لعلّ إصرار أسماء المُدير على التعليق بصوتها الداخلي، الذي كان هنا أقلّ مباشرة من شكله في فيلمها الأول “في زاوية أمّي” (2020)، يقول الكثير عن ذكاء سينما هذه الشابة الطموحة، الذي كان وراء صنع فيلم فيه أفكار جيّدة كثيرة، وصدق والتزام بقضية المغاربة (عددهم حوالي 600) الذين قضوا تحت رصاص العسكر، بعد احتجاجهم على رفع أسعار الخبز، في 20 يونيو/حزيران 1981. لكنّه لا يفتح على أيّ شيءٍ، بعد أنْ ينقضي مفعول التدبير التمثيلي بالدّمى لعائلة المخرجة وجيرانها، ولا يمنح أيّ حيّز للتفكير والتساؤل الإيحائي عمن يقفون وراء الجريمة، ودوافع عدم محاسبتهم، أو على الأقل عدم ذكر أسمائهم إلى اليوم. ما عدا لافتة محتشمة، ومقاربة ملتبسة لعهد الحسن الثاني، من خلال صورته.

شيّدت المُدير تدبيراً جمالياً باهراً ومُفارقاً، يسعى إلى استجلاء ذاكرة الأحياء، بعيداً عن التابو والخوف، بفضل تمثّل دمى جامدة تحرّكها بحيل بسيطة كالأيدي، أو جماليات التحريك الأولية. تفعيلة فيها حِرفية إنجاز ماكيت على شكل دربها القديم، وجهد (مسار إنجاز الفيلم دام نحو 10 سنوات) ينجح في إلقاء الضوء على حلقة مظلمة من التاريخ المغربي القريب، خاصة التكريم المؤثّر الذي تسديه للطفلة فاطمة، أصغر ضحايا الانتفاضة. لكنّها لم تأخذ المسافة المناسبة في طرحها (قرب وارتفاع زاوية الكاميرا لالتقاط لقطة إعادة تمثيل الكابوس، الذي عاشه عبدالله الزويد في غرفة الاعتقال الخانقة، كمثال)، فأحكمت غلق كلّ شيءٍ، غير تاركة حيّزاً يتسلّل منه المشاهد لصنع فيلمه الخاص. كلّ ما يتركه “كذب أبيض” للمتلقّي التصفيق، خاصة عندما تنبعث موسيقى “ناس الغيوان” من أحشاء المآسي، لتقول بلغة الشعر الشعبي أشياء لم يفلح الفيلم، فعلياً، في الارتقاء إلى أعاليها.

أفلام أخرى في المسابقة نفسها انبرت لسؤال الذاكرة، وارتداداتها في الحاضر. ديكتاتورية أوغوستو بينوشيه المظلم، في “سجن في جبال الأنديز”، للتشيلي فيليبي كارمونا. استعارة، مغرقة في جمالية الأجواء ونفّاذة بصرياً، لمسؤولين عسكريين ممن أشرفوا على هذه الانتهاكات، وعلاقتهم بحراس سجن فاخر يقضون فيه فترة حبسهم. لكنّ أصداء الماضي تعود لتقضّ مضاجعهم، على شكل استهامات وهذيان عنيف، مفضيةً إلى مَشاهد مغرقة في السوريالية.

الماضي القريب للصراع بين النزعتين العلمانية والإسلامية في تركيا، في “المهجع” لنهير تونا، الفائز بجائزة أفضل تمثيل رجالي نالها الممثل الشاب دوكا كاراكاس، بينما مُنحت جائزة أفضل تمثيل نسائي للممثلة الشابة أسيا زارا لاكومدزيا، عن “نزهة”، للمخرجة البوسنية أونا كونجاك.

بانوراما السينما المغربية

مفاجأتان حملتهما عروض “بانوراما السينما المغربية”، إحداهما سارّة، قدّمها هشام العسري بعنوان “مروكية حارّة”، أعاد فيها تخيل يوميات كاتي، على منوال كبسولة الويب التي خلقت ضجة كبيرة “بيسارا أوفردوز”، حين خلطت الأوراق بين الشخصية المتخيلة وشخصية فدوى طالب، الممثلة التي أدّتها. يدفع العسري، في هذا العمل الجديد (بانتظار فيلمه الطويل المُرتقب، Happy Lovers) بالعبثية وجنون grotesque إلى أقصاه، في يومٍ عصيب تعيشه كاتي في السراديب المتوحشة للدار البيضاء. انزياحٌ يتمكّن بفضله العسري من تناول أشياء بالغة الأهمية، مثل ميزوجينية المجتمع، والنظرة التحقيرية إلى المرأة، وضيق الأفق المُتاح أمام الشباب، عبر أصدقاء تجد فيهم الشابة بديلاً لعائلتها، يقضون يومهم في تدخين القنّب الهندي، والخوض في كلّ شيء ولا شيء. الجميع ينالون قسطاً في ديمقراطية الهجاء، التي يرأسها العسري: شباب وشابات، شيوخ ونساء، طوال القامة وأقزام، عاطلون متأفّفون وأصحاب مقاولات استغلاليون، مغاربة وأجانب، متديّنون ومتحرّرون. الفيلم نال تصفيقاً وإشادة من أغلب الجمهور الحاضر، ولعلّه يكون أقرب “خلطات” العسري الجريئة إلى تحقيق النجاح في القاعات، إذْ توفّرت مقاربة توزيع وتسويق ملائمة.

المفاجأة الأخرى غير سارّة، بسبب المكانة الرفيعة التي تحتلها ليلى الكيلاني في المشهد السينمائي المغربي، بأفلامها الوثائقية، خاصة باكورتها “على الحافة” (2011)، التي خلبت ألباب السينفيليين مطلع العقد المنصرم. غابت الكيلاني طويلاً بسبب محنة صحية عويصة، أجّلت إطلاق فيلمها “شيوع” (2023). رغم وضعية أولية تغري بثنائية صراع مثيرة للاهتمام، بين أباطرة العقارات، الهادفين إلى الاستيلاء على ضيعة كبيرة في نواحي طنجة، تقع في الملكية المشاعة، وصبية تحمل همّ منظومة الطيور التي اتّخذت من محيط الضيعة الغابوي بيئة لعيشها، يسقط “شيوع” سريعاً في ثرثرة (كثير منها بصوت الفتاة التي قطعت على نفسها عهداً بعدم الكلام بعد وفاة والدتها، لكنّ صوتها الداخلي “أغرق” الفيلم) وإطناب (يتيه في حبكة ثانوية، قوامها مؤامرة تحيكها الشركة العقارية بتواطؤ مع سكان حي صفيحي، يستوطن الضيعة بدوره)، وبعض التكرار (حبكة العرس الثانوية، التي لا تجلب شيئاً لافتاً للانتباه).

أشياء غريبة على مخرجة مُرهفة اعتدنا منها، على العكس، جماليات الاقتصاد، وإحكام الإيقاع، وحساسية النظرة التي تلقيها على شخصياتها. النتيجة: فيلم بوقع لا يُحتَمل ثقله، فاقم منه اختيار “كاستينغ” غير موفّق.

تكريمان وضربة معلّم

رفع مادس ميكلسن “النجمة الذهبية” لـ”مهرجان مرّاكش” عالياً، قائلاً إنّه سيحتفظ بهذه اللفتة الرائعة طويلاً في قلبه. لم تفته الإشادة بعظمة ويليام دافو، الذي قدّم له النجمة، وتوجيه تحية إلى روبرت دي نيرو ومارتن سكورسيزي، لكونهما من الذين أشعلوا فيه فتيل الشغف بالتمثيل، موضحاً أنّ لمرّاكش الفضل في لقائه معهما، والتعرّف إليهما عن قرب.

لكنّ ضربة المعلّم، في برنامج هذا العام، كانت تكريم فوزي بن السعيدي عن مجمل أعماله. يبدو الأمر بديهياً، نظراً إلى المكانة التي يحتلها هذا المخرج المتفرّد في السينما المغربية والعربية. لكنّ التفكير في تكريمه، في أوج عطائه، ليس بديهياً البتّة، مقارنةً بما جرت عليه عادة التكريم في أغلب المهرجانات المغربية. حركة وجدت امتدادها في اختياره وقوف بعض الممثلين المخلصين له لمنحه “النجمة الذهبية”، قبل أنْ يخطف قلوب الجميع بكلمة ملهمة، تمتح من الحبر نفسه الذي يبدع به أفلامه. ولعلّ أبرز ما قاله أنّ إنجازه فيلمه القصير الأول منذ 30 عاماً، بعد معاناة وانتظار طويلين، كان بمثابة الولادة الحقيقية بالنسبة إليه. وبعملية حسابية صغيرة، يكون عمره الحقيقي اليوم ليس 55 عاماً بل 25، وسيكون بالتالي مُستعدّاً لإنجاز فيلمه الأول عن 26 عاماً بعد هذا التكريم، اقتداءً بنموذجه الأسمى أورسون ويلز. ثم خيّم صمت مطبق وخشوع على “قاعة الوزراء”، حين ختم كلمته بأبيات من قصيدة محمود درويش: “لماذا تركت الحصان وحيداً؟”.

أجمل ما قاله بن السعيدي، في ليلةٍ ستظل محفورة في ذاكرة مرّاكش، “الثّلث الخالي”، المعروض مباشرة بعد التكريم. المهدي (فهد بنشمسي) وحميد (عبد الهادي طالب) عميلان يجوبان ربوع المغرب العميق، لاسترجاع أقساط من قروض صغرى، يحصل عليها أناس بسطاء لم يعودوا قادرين على مواجهة متطلّبات الحياة، فيبتزّان منهم كل ما يستطيعان بيعه (سجادات، مواشٍ، إلخ.)، وفق أحكام قضائية مزوّرة. وضعية أولية، ربما تبدو متجذّرة في الجانب الاجتماعي. لكنّ المخرج يقاربها بجمالية الـburlesque، متلافياً الأطروحية.

المشاهد الفطن يلمح إدانة ضمنية لميكانيزمات الليبرالية المتوحشة، التي لا تجد غضاضة في طحن الفقراء وعصر المستخدمين. متواليةٌ من لوحات بلقطات ثابتة وعامة، تؤثّثها شخصيات تتحرّك في الإطار، لتقول بلغة منزاحة مفارقات تدفع منطق الربح إلى أقصاه، فتنتهي بإغلاق الأعين على كلّ معاني الإنسانية. يأخذ الفيلم منعطفاً أولياً (يُعدّنا للمنعطف الكبير المقبل)، ليقترب من الحياة العائلية للمهدي وحميد، خارج مظهر البدلة الزرقاء وربطة العنق الحمراء. لفتة إنسانية تقول إنّ كثيرين يظهرون في شخصيات سيئة، أو في وحوش، هم في العمق أناسٌ يختفون وراء قناع القسوة، فيهم هشاشةٌ وجروح عميقة.

يتوغل “الثّلث الخالي”، شيئاً فشيئاً، في فضاءات قاسية وخلّابة في آن، تؤطّر بقياس “السكوب” السهول الصحراوية الشاسعة على امتداد النظر، والهضاب الصخرية التي تُذكّر بـ”مونمنت فالي” (1939) لجون فورد. بالتوازي مع ذلك، يتحوّل الفيلم بسلاسة من كوميديا اجتماعية ساخرة إلى وسترن وجودي، مع لمسة عبثية تتوحّد مع ذاتية شخصيتَيه، لعلّ أجملها حين يرافقان موجة نزوح جماعي من القرية إلى المدينة، فيما يبدو كتحية أخرى لفورد عبر “عناقيد الغضب” (1940). يمزج الفيلم، في جزئه الثاني، جمالية الحكي الشعبي المغربي والميثولوجيا (أسطورة بينولوبي التي تنقض كلّ يوم ما نسجته بالأمس)، لمّا يفر هارب من العدالة من أيدي البطلين المضادين، فينفلت معه الفيلم من عقال الحبكة الرئيسية نحو حبكة تربك أوراق الحكي، متوغّلة في إيقاع شعري صرف، وسينما خالية من كلّ شوائب القصة.

لعلّ أوج هذا القسم الثاني المشهد الأنطولوجي، الذي يعرِج فيه الهارب ومحبوبته في السيارة، التي تجرّ وراءها سحابة من الغبار، إلى الشمس المشرقة التي تواجه الكاميرا، فيغمر ضوؤها عين المشاهد في الوقت نفسه الذي تحجب عنه الموسيقى حواراً للعاشقين، يُعاتب فيه كلّ منهما الآخر على تركه.

يعيد بن السعيدي جمع الحبكتين في أعالي فضاء برزخي، يبدو كحدّ فاصل بين الحياة والموت، في نهاية لن نكشف عن تفاصيلها، لكنها تقدّم درساً كبيراً في معاني التضحية والحبّ، في فيلم يفرغ شيئاً فشيئاً النقود من حمولتها، كقيمة تبادل تعمي بصيرة القلب قبل العين، لتصير في نهايته أقلّ شأناً من تراب الأرض عينه.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن الصومال اليوم عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here