جاءت عائلة الفلسطيني محمود البركة وأصدقاؤه وجيرانه في اليوم الموعود، وانشغلت جميع المقاعد حول منصة مغطاة بستار، في حين ظلت العيون تترقب بلهفة أن تدق الساعة المحددة للكشف عن سيارة طالت فترة صنعها.
وبعد أربعة أشهر من العمل المتواصل ليلا ونهارا، ها هو محمود بركة (54 عاما) من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة يكشف عن تحفته الفنية التي لازمت أحلامه منذ 33 عاما.
سيارة الأحلام التي رآها لأول مرة في يافا المحتلة عام 1948، عندما كان يعمل هناك عام 1986.
دهشة
انتابت الدهشة عيون الحاضرين مع رفع الستار عن المركبة، وتقدم العشرات من الرجال والأطفال صوب التحفة ذات الألوان الزاهية ليلتقطوا معها الصور أو ليجربوا الجلوس داخلها، فمن النادر أن ترى مركبة كلاسيكية بهذا الشكل في قطاع غزة.
وخطفت السيارة الكلاسيكية القديمة قلب بركة منذ عشرات السنوات دون حتى أن يعلم اسم العلامة التجارية الخاصة بها، لكنه لم ينس الخريطة الصغيرة التي رسمها لأطوال ومقاسات السيارة وشكلها يوم شاهدها في منزل أحد التجار الفلسطينيين في حيفا.
وقال بركة “بقيت أعمل في مجال الحدادة في يافا المحتلة وطيف السيارة الكلاسيكية الجميلة التي تعود لعام 1917 ينتابني دائما وتقدمت بالعمر وافتتحت ورشة في قطاع غزة وبقيت أحلامي شابة حتى جاء وقتها”.
ويعمل محمود بركة “مهندس الماكنات” -كما يطلق على نفسه- في مجال الحدادة الذي يشهد ركودا كبيرا بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية في غزة، مما أفسح المجال له للاهتمام بحلمه الخاص.
أدوات الصنع
يقول بركة متحدثا عن رحلة جمع الأدوات والقطع اللازمة لهيكل السيارة “بدأت بجمع جميع الأدوات والقطع اللازمة بعد أن وضعت خطة للعمل، فاستخدمت محرك بسعة 1300 سي سي ومقاعد تعود لسيارة من طراز فيات الإيطالية وأشرفت على ميكانيكا السيارة وجميع تفاصيلها بنفسي”.
وأعاقت محدودية دخول البضائع والأدوات من الجانب الإسرائيلي والمصري عمل بركة، غير أنه حاول قدر المستطاع التغلب على ذلك ببدائل محلية أو بانتظار وصول المواد في أحيانٍ أخرى.
ورغم أنه لا يعلم الطراز الحقيقي لسيارة أحلامه التي كانت تعمل بمحرك فحم -كما يقول- فإنه وضع عليها شعار سيارة “مرسيدس” لحبه لتلك العلامة التجارية الفارهة.
ويرى بركة أن تحفته التاريخية تظهر تمسُّك الشعب الفلسطيني بذاكرته وأرضه، مشيرا إلى أنه أصر على وضع علم فلسطين على السيارة وكتابة صنع في فلسطين على لوحتها، لتبقى ذاكرة يافا حاضرة معه أينما تنقل وحل.
ويعاني سكان قطاع غزة من انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة خلال اليوم تصل إلى ثماني ساعات، بسبب عدم وصول الوقود الكافي لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، إضافة إلى نقص كبير في البضائع والأدوات نظرا للحصار الإسرائيلي المطبق منذ عام 2007.
أحلام البسطاء
يعيش محمود بركة مع تسعة أبناء في منزل بسيط في منطقة متواضعة تسمى “بني سهيلا”، وعندما يمر بمركبته الغريبة صباحا يطاردها الأطفال الخارجين من أزقة المخيمات الصغيرة بفرح فيتناوبون على الجلوس على مقاعد السيارة وسط مشاعر الانتصار والبهجة.
وتحقق حلمُ بركة الصغير لكن الأمر لم ينته عنده عند ذلك الحد، ويقول “بعد أن صنعت السيارة الكلاسيكية ونجحت، بدأت أفكر في أن أجعل الأمر مصدرا للرزق فالكثير من الناس تحدثوا معي عن تكلفة الصناعة ورغبتهم في اقتناء مركبة مشابهة لذلك أحلم بتطوير الأمر”.
ويضيف مازحا “إنتاج سيارات كلاسيكية في غزة هي سقف أحلامي ومنقذ لي ولعائلتي من تدهور الأوضاع الاقتصادية وتراجع عملي بشكل كبير”.
ويعيش في غزة أكثر من مليوني فلسطيني على 365 كيلومترا مربعا، ويحاول جميعهم محاربة البطالة والفقر بأفكار جديدة تفتح لهم أسواق عمل في ظل الأوضاع الإنسانية والاقتصادية الصعبة، منها ما يرى النور ومنها ما ينتظر.