في أحوال الصومال .. وغيرها

22
في أحوال الصومال .. وغيرها
في أحوال الصومال .. وغيرها

أفريقيا برسالصومال. ذرّت مفاعيل الصوملة (التفكّك الإداري والسياسي وتعدّدية مراكز القرار والتنافس القبلي) قرنها على دولٍ معروفة في مشرقنا أخذت تسير حثيثا على طريق الصوملة، تحت وابل من أفخم الشعارات، غير أن مشكلات الصومال هي نفسها المشكلات العربية، وبخاصة في دول المشرق، بل تبدو أقل حدّة. ولم يبتدع الصوماليون ما هو جديد ونوعي من إخفاقات وتجاوزات عربية جسيمة. ولهذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تنافس مفاهيم اللبننة والعرقنة والسورنة بجدارة مفهوم الصوملة، بل تتفوق سلبيا عليه… وحتى سمعة القرصنة البحرية التي التصقت بالصوماليين قبل أعوام، فواقع الحال يفيد بأن شركاتٍ أجنبية للصيد البحري كانت تسطو على مئات الأطنان يومياً من الثروة السمكية في المياه الإقليمية الصومالية، فانبرى عدد من أبناء ذلك البلد بوسائل استطلاع متواضعة، وبخبرات فطرية، إلى مهاجمة سفن أجنبية، دفاعا عن ثروات بلدهم. ومع الاعتراف الدولي بأصل هذه المشكلة، والتوقف عن التعدّي على الحقوق الصومالية، فقد انطوت صفحة القرصنة.

قبل أيام، شهدت العاصمة الصومالية مقديشو انفجارا في مقهى على مقربة من معسكر للتدريب العسكري، أودى بحياة 11 جنديا وأصاب 16 آخرين. ومثل هذه الأخبار معهودة عن الصومال، كما أن الجهة التي ترتكب هذه الجرائم معروفة، وهي حركة الشباب التي نشأت في العام 2004 متأثرة فكريا بتنظيم القاعدة، وقد تعاظم تأثيرها إلى درجة السيطرة على مناطق من مقديشو والتسبّب بشللها، إلى أن تم طردها في العام 2011، وبجهد غربي، وأميركي خصوصا، وهي منذ ذلك الحين تحتل مناطق من الريف، وتتسلّل، بين وقت وآخر، إلى العاصمة.

لا يجد السياسيون المتنازعون في الصومال تراثا أو مرجعية لدولة مركزية يستلهمونه ويعودون إليه

من المثير أن هذا التفجير قد تزامن مع انتشار مليشيات مسلّحة تتبع لزعامات سياسية، بل إن عناصر من الجيش لا تتوانى عن القيام بأعمال تمرّد. فعشية هذا التفجير، الاثنين 13 سبتمبر/ أيلول الحالي، سيطرت مليشيات على أحياء في العاصمة، وكان الهدف ليس التهيئة لانقلاب، بل الضغط على رئيس البلاد محمد عبد الله فرماجو كي يرحل، فقد ذكر قائد عسكري موال لرئيس الوزراء السابق حسن علي خير أنه سيطر على منطقتين في العاصمة، إلا أن هذه المليشيات تكتفي، إلى حينه، بالقيام باستعراضات قوة، ولا ترتكب أعمال عنف جسيمة، فالسياسة على الطريقة الصومالية تجيز ذلك!

وإلى جانب معارضة مسؤولين سابقين (الرئيسان شيخ شريف وحسن شيخ) رئيس البلاد، على خلفية تمديده لنفسه عامين آخرين، وعلى الرغم من تراجعه تحت الضغط عن هذا القرار، إلا أن ذلك البلد يشهد انقساما آخر بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء محمد روبلي، وسط حالة من الضياع في تحديد صلاحيات المناصب العليا، وكانت النتيجة أنه أصبح هناك وزيران للأمن الداخلي ورئيسان للمخابرات في البلاد، بعدما أقال رئيس الحكومة مدير المخابرات فهد ياسين، على خلفية شكوكٍ بوفاة موظفة في قسم الأمن السيبراني، وهي إكرام تهليل (25 عاما)، بعد اختفائها، وقد جرى توجيه الاتهام لحركة الشباب بأنها أقدمت على تصفيتها، إلا أن الحركة نفت ذلك.

لا يجد السياسيون المتنازعون تراثا أو مرجعية لدولة مركزية يستلهمونه ويعودون إليه. ويحظى رئيس الوزراء بشعبيةٍ متزايدة، من غير أن يتمكّن من بسط سيطرة الدولة، وتعود شعبيته إلى تمسّكه بمأسسة العمل الحكومي، وتشبثه بخيار الانتخابات التي يُفترض أن تجري قبل نهاية هذا العام، وفق مخرجات مؤتمر تشاوري، عقد أخيرا، وضم زعامات اجتماعية وسياسية، غير أن البلاد ليست مهيأة لوجستياً من ناحية الإدارة والأمن والمال لإجرائها (بعض المناطق لا يمكن الوصول إليها إلا بالطائرات)، وتنتظر دعما أفريقياً وغربياً للتمكّن من تنظيمها. وكما هو معلوم وملحوظ، فإن دعماً عربياً لا يذهب إلى أي جهة تزمع تنظيم انتخابات.

بتفحّص أحوال الصومال يتبدّى أنها على ضعف البلد ليست أسوأ من أحوال بلدان عربية عديدة

لقرون خلت، كانت الصومال بحُكم إمبراطورية مترامية الأطراف، قبل أن يقتطع منها الاستعماران البريطاني والإيطالي أراضيَ منحت لدول أخرى، مثل كينيا ومالي وإثيوبيا. وسبق لها أن غزت إثيوبيا عام 1977، في محاولة لاسترجاع إقليم أوغادين، وسيطرت على مناطق واسعة في الإقليم، وكادت تنجح في بلوغ هدفها، لولا تدخل الاتحاد السوفييتي آنذاك نصرةً للحليف هيلا مريام. وبعيد استقلالها في العام 1960 عن التاج البريطاني، شهدت الصومال حكما مركزيا، بقيادة زياد بري، لكنه كان حكما عسكريا. وقد نجح في الحد من الأمية المتفشّية، لكنه ألب القبائل عليه، وسدّ الطريق إلى الديمقراطية والفصل بين السلطات. وقد أدّت المقاومة الشعبية لهذا الحكم إلى ما يشبه حربا أهلية تواصلت حتى العام 1990، بالتزامن مع توقف الحرب الأهلية في لبنان التي كانت أشد ضراوة. وبانتهائها، أعلنت منطقة أرض الصومال انفصالها وتأسيسها نظام حكم مستقلا في الشمال (حدث مثل ذلك في جنوب السودان). ويُحاجج زعماء هذه المنطقة بأنهم أعلنوا استقلالهم مع استقلال البلاد قبل 30 عاما، إلا أنهم ارتضوا الوحدة مع إخوانهم في الجنوب، غير أن الإخوة الجنوبيين استأثروا بمقدّرات الحكم وامتيازاته، فاضطروا لإعلان الانفصال (حدث مثل ذلك في اليمن في تسعينيات القرن الماضي). ولا تحظى دولة أرض الصومال بأي اعتراف دولي بها، لكنها لا تشكو من مشكلات حادّة. ولا تنشط حركة الشباب مثلا على أراضيها. وبينما تدير الإمارات ميناء بربرة في أرض الصومال، فإن تركيا تدير ميناء مقديشو ومطار آدم عبد الله في جمهورية الصومال. وإلى جانب أرض الصومال هناك ولاياتٌ تطالب بحكم ذاتي واسع يقترب من الاستقلال.

وسط الضبابية التي تعيشها البلاد، تتطلع الأنظار إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة تضع حدّا لمحاولات الاستئثار بالحكم وتأبيد الحاكمين

وسط الضبابية التي تعيشها البلاد، تتطلع الأنظار إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة تضع حدّا لمحاولات الاستئثار بالحكم وتأبيد الحاكمين، والشروع في حل مشكلات البلاد الاقتصادية والأمنية المتفاقمة. وبين مترشّحين كثر لرئاسة البلاد، تبرز المترشّحة فاطمة الحاج آدم، التي ترى نفسها، وهي وزيرة سابقة للخارجية، أنها مؤهلةٌ لإخراج البلاد من أزماتها، وذلك بتفعيل قانون الأحزاب الصادر في العام 2016، والتوقف عن إجراء انتخابات على أساس قبلي، وفق قاعدة 4.5، فهناك أربع قبائل كبيرة تختار مرشحيها، بحصةٍ معلومةٍ وكبيرةٍ لكل قبيلة، بينما تحظى القبائل الأخرى مجتمعة بنصف حصة، وتدعو إلى التفاوض مع حركة الشباب، ووقف المواجهات العسكرية التي تستنزف خيرات البلاد، وأولها الثروة البشرية. وتذكر في حوار إعلامي أن حركة الشباب لم يسبق أن اعترضت على تولي امرأة مقاليد الحكم، لكنها لم تأت على ذكر موقف شيوخ القبائل وزعمائها من هذه المسألة.

وبتفحّص أحوال هذا البلد العربي في القرن الأفريقي، يتبدّى أن أحواله على ضعفها ليست أسوأ من أحوال بلدان عربية عديدة، إذ يتوفر على أمن غذائي ذاتي مثلا، وذلك خلافا للانطباع السائد الذي يجعل من الصومال مضرب المثل في تدهور الأوضاع العامة.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here