كيف أثر البشر في تطور العصفور الأكثر انتشارا في العالم؟

17
كيف أثر البشر في تطور العصفور الأكثر انتشارا في العالم؟
كيف أثر البشر في تطور العصفور الأكثر انتشارا في العالم؟

أفريقيا برسالصومال. يعتبر طائر “عُصفُور الدُّوري” الذي يُعرف باسم “عصفور المنزل” الطائر البري الأكثر انتشاراً في العالم، إذ يمكنك العثور عليه في مختلف القارات، باستثناء القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا).

كما أن هذا العصفور قد يكون النوع الأكثر ارتباطاً بالمساكن التي يقطنها الإنسان سواء في الحضر أو الريف. ولا يزال هذا الطائر رمزا مهما في ثقافة العديد من دول العالم، رغم أن أعداده تتراجع تدريجياً في شتى أنحاء الأرض، وبوتيرة متسارعة في بريطانيا.

ومن المشاهد المألوفة والمحبوبة كذلك في المملكة المتحدة رؤية رفرفة أجنحة هذا الطائر داخل أجَمَة، أو على شجرةٍ، وكذلك مرآه وهو جاثمٌ فوق أحد حواف أسطح المنازل، أو وهو يمرح في إحدى البرك ناثراً حوله قطرات الماء.

ولذا فمن المستغرب أنه لم يكن لدينا – حتى وقتٍ قريب – سوى معلوماتٍ شحيحةٍ للغاية بشأن التاريخ التطوري لهذا النوع من الطيور. فقد كان يُعتقد أنه ظهر للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط ثم انتقل منها إلى مختلف أنحاء أوروبا وآسيا، قبل أن يُجلب لاحقاً إلى كلٍ من استراليا وأمريكا الشمالية.

ومن المحتمل أن يكون يوجين شيفلين – وهو الرجل الذي حاول جلب كل الطيور التي ورد ذكرها في مسرحيات الشاعر الإنجليزي وليام شكسبير إلى أمريكا الشمالية في أواخر القرن التاسع عشر – هو المسؤول عن إحضار طائر عُصفُور الدُّوري إلى الولايات المتحدة.

الآن حان الوقت للتعرف على مارك رافينيت، وهو عالمٌ متخصصٌ في الأبحاث الخاصة بتطور الكائنات الحية في جامعة أوسلو؛ بدأ اهتمامه بقصة أصل هذا الطائر الذي يُعرف علمياً باسم “باسَّر دوميستيكوس”، بعدما أدرك أن مسألة تطوره لم تُعالج بشكلٍ كافٍ أو صحيح.

وفي بحث جديد نُشِر في دورية “ذا رويال سوسيتي”، سلط هذا الرجل الضوء بشكل مركز على تاريخ تطور وتكيف هذا الطائر، وقد خَلُصَ البحث الذي أجراه في هذا الصدد إلى نتيجتيْن مدهشتيْن.

بدايةً كان من الواضح من الأصل أن عصفور المنزل ربما يكون قد تأقلم وتكيّف على العيش بجانب البشر، وذلك بسبب الارتباط الذي استمر بينهما عبر الزمن. ويقول رافينيت في هذا الشأن: “إذا نظرت إلى خريطة توزيع طيور عصفور الدُوري خارج نطاقها الأصلي، فستجد أنها جُلِبَت إلى أمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا واستراليا”.

ولن يستغرق الأمر كثيراً من الوقت للوصل بين النقاط التي تشير إلى أماكن وجوده، وإدراك أن من جلبوه (إلى تلك المناطق) كانوا أُناساً عاشوا في العصر الفيكتوري، في فترة توسع الإمبراطورية البريطانية”. وأضاف بالقول إن البريطانيين فكروا في هذا الطائر باعتباره رفيق الحدائق الذي سيجعلهم يشعرون بأنهم لا يزالون في وطنهم حتى خلال وجودهم خارج البلاد.

وقد اختبر الفريق البحثي الذي يقوده رافينيت – وللمرة الأولى رسمياً – صحة نظريةٍ تفيد بأن هذا النوع من الطيور انتشر مع زيادة رقعة الأراضي المزروعة.

ويقول رافينيت: “لن أصل إلى حد القول إن ورقتي البحثية أثبتت ذلك (صحة هذه النظرية) على نحوٍ قاطع، ولكنها بالتأكيد أشارت بقوة إلى أن هذا هو ما حدث، أي أن تلك الطيور انتشرت مع الزراعة”.

وتمثلت المهمة التالية لفريق البحث في مقارنة الحمض النووي “دي إن آيه” لذلك الطائر مع نظيره لنوعٍ بريٍ متفرعٍ منه، يُطلق عليه اسم “بكتريانوس سبارو”.

ويقول رافينيت في هذا السياق: “عندما تخيلت ذلك، تصورت أنهما سيكونان متشابهيْن بالفعل. ظننت أنه سيكون هناك بعض الاختلافات، ولكنها ستظل رغم ذلك محدودةً نسبياً”.

ويضيف قائلاً: “كان من الصادم أن أرى اختلافاً كبيراً بين هذه الذرية المتعايشة مع الإنسان ونظيرتها البرية. كان هذا هو المؤشر الأول على أن هناك أمراً ما مذهلاً ومثيراً للاهتمام يجري في هذا الصدد”.

واستطرد الرجل بالقول: “قادنا ذلك إلى الطريق الذي بدأنا فيه نتحقق ونتقصى بقدرٍ أكبر من التفصيل حول ما الذي يمكن أن يكون قد حدث” وشكّل عاملاً أفضى إلى مثل هذا التباين الكبير.

وفي ية باردة حالكة الظلام جلس رافينيت خلالها في مكتبه ليبدأ تحليل هذا الأمر، وجد أن هناك جينينْ (مورثيْن) مختلفيْن.

ويروي الباحث قصة ما حدث بعد ذلك قائلاً: “لجأت إلى محرك البحث غوغل لأستقي مزيداً من المعلومات حول الجين الأول، وأدركت أنه يلعب دوراً في تحديد شكل الجمجمة وهيئتها وبنيتها ومظهرها الخارجي، وهو ما أفعمني بالحماسة بحق”.

أما الجين الثاني فقد تعرفت عليه بمجرد رؤيته لأنه موجودٌ لدى الكلاب والبشر. تفحصت نوعاً من الكائنات الحية وثيق الصلة (بهذه الطيور) ووجدت هذين الجينيْن مختلفيْن تماماً. وأشار ذلك إلى أن شيئاً ذا طبيعة خاصة ربما يكون قد حدث (في سلسلة تطور) طائر العصفور الدُوري”.

لكن رافينيت لم يكتف بالفحص والتحليل الأول، بل عاود التحقق والفحص، ثم كررهما ثانيةً في الصباح، قبل أن يخبر زملاءه عما اكتشفه.

ويطلق على الجين الأول الذي اكتشفه هذا الباحث اسم ” COL11A”، وهو ينظم مسألة نمو الجمجمة ومنطقة العظام الموجودة تحت بشرة الوجه. أما الجين الثاني فيحمل اسم ” AMY2A”، وهو جزءٌ من أسرة جينات الـ” أميلاز” التي رُبِطَ بينها في السابق وبين تكيف البشر والكلاب مع النظام الغذائي ذي النسبة العالية من النشا.

ومن هذا المنظور، ربما يكون تطور جمجمة طيور “عصافير الدُوري” لتصبح أكثر قوةً ومتانةً وسمكاً مرتبطاً بتحولٍ في النظام الغذائي ليصبح مؤلفاً من الحبوب، التي تنمو في الأراضي الزراعية.

وفي هذا الإطار، يقول رافينيت: “نعلم أن من المرجح أن يكون الشكل الذي تتخذه الجمجمة، هو عبارة عن تكيفٍ مهمٍ (للتوافق) مع طبيعة التغذية”.

ويضيف بالقول: “معظم عصافير الدوري تتغذى على الحشرات عندما تكون في فترة رعاية صغارها، وتميل للتغذي على الحبوب طوال العام، باستثناء فترة التكاثر”.

وبينما يقول رافينيت إنه “من الصعوبة بمكان بلورة فكرةٍ عن الشكل المحتمل لحياة العصفور الدوري البري”، فإنه يشير إلى أن الغذاء في هذه الحالة ربما تمثل في البذور البرية والأراضي العشبية أو المراعي.

ولم تكن النتائج التي خَلُصَ إليها رافينيت وفريقه سوى بدايةٍ لمشروعٍ أكبر بكثير، إذ ينخرط هؤلاء الباحثون في الوقت الحاضر في إجراء دراساتٍ لمتابعة ما توصلوا إليه والتحقق منه.

وفي هذا السياق، يعكف أحد الطلاب الباحثين في إطار هذا الفريق على إجراء عمليات “تصوير مقطعي حاسوبي” أو “أشعة مقطعية” لنحو مئة جمجمة لتحديد الاختلافات فيما بينها من حيث طبيعة تشكلها وهيئتها وبنيتها وتكوينها. كما سيقوم رافينيت بتحديد سلاسل الجينوم “مجموع الجينات” لكل الأنواع المختلفة لطيور “عصفور الدوري”.

ومع أن الدراسات التي أجراها مارك رافينيت وفريقه لا تزال في مراحلها المبكرة، فقد كانت كفيلة بأن تجعلنا نفكر على نحوٍ مختلفٍ في عصفور الدُوري المنزلي؛ ذلك الطائر شائع الوجود والمألوف بشدةٍ الذي ربما تراه الآن خارج نافذتك، وأن تدفعنا للتأمل كذلك في الكيفية التي يتشابك بها تاريخ تطورنا نحن بني البشر وهذه الطيور، بشكل وثيق للغاية.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here