في سر الاهتمام بموانئ القرن الأفريقي

21
في سر الاهتمام بموانئ القرن الأفريقي
في سر الاهتمام بموانئ القرن الأفريقي

أفريقيا برس أرض الصومال. تحظى موانئ دول القرن الأفريقي، وخصوصا الصومال، باهتمام خليجي ودولي في الفترة الأخيرة، حيث إن عودة الاستقرار الأمني والسياسي على نحو تدريجي في هذا القطر الأفريقي العربي جعلته محط أنظار العالم مجدّداً، ويفتح شهية دول عربية وخليجية، فمنذ انسحاب مقاتلي حركة الشباب من العاصمة مقديشو أواخر عام 2011، بدأت خيوط الاهتمام العالمي والإقليمي تزيد في الشأن الصومالي، سياسياً وأمنياً، فبينما تركّزت سياسات دول الغرب وأميركا في فرض السلام، والحد من تهديدات الجماعات الراديكالية، انشغلت دول عربية وخليجية في الشأن السياسي الصومالي، وذلك بعد انتخاب حسن شيخ محمود رئيساً للصومال عام 2012، حيث انتقلت الصومال في فترة حكمه من الفترة الانتقالية إلى الحكم الدائم، ونالت اعترافاً من الولايات المتحدة عام 2013، ما أعطى ضوءا أخضر لدول عديدة في التغلغل أكثر في البيدر الصومالي.

السؤال المطروح في أصعدة مختلفة، ما هو سر كل هذا الاهتمام بموانئ الصومال؟ بعد سنوات عانى خلالها ويلات الحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي، فضلاً عن أزمات إنسانية متكرّرة، هذا إلى جانب أن شواطئ الصومال التي تقع على مساحة 300 كلم شمالاً وجنوباً باتت مكبّا للنفايات، ومحيطاً للصيد الجائر، ما أدّى إلى ظهور القراصنة الذين ملأوا شاشات العالم بتهديدهم أمن الملاحة الدولية وتجارة النفط في الخليج، فضلاً عن مشكلاتٍ سياسيةٍ أعاقت إمكانية أن يستغل الصومال من موانئه وثرواته الطبيعية والبحرية.
سر الاهتمام العربي، وخصوصا الخليجي، يتجلى في محورين: أولهما أن الصومال لم يعد دولةً تقبع في مستنقع الأزمات الأمنية، على الرغم من أنها مزدحمة بجدول من المشكلات السياسية، مثل دول عربية كثيرة تعاني إرثاً ثقيلاً من الدكتاتوريات، وهو ما يدفع أميركا والدول الأوروبية إلى فتح قواعد عسكرية في الصومال، جديدها القاعدة البريطانية العسكرية في مدينة بيدوا (عاصمة إقليم جنوب غرب الصومال الفيدرالي)، ناهيك عن الحضورين العسكريين، الأميركي والتركي، في كل من مقديشو وإقليم شبيلى السفلى، بينما تشغل شركة موانئ دبي الإماراتية ميناءي بوصاصو وبربرة على الرغم من الرفض الصومالي، وخصوصا إدارة مقديشو، أما قطر فقد تعهدت ببناء ميناء هوبيو (إقليم جلمدغ)، ما يتيح لها أن تحظى بموطئ قدم في حرب الموانئ المشتغلة في القرن الأفريقي. ثانيها أن القرن الأفريقي يعد الحديقة الخلفية للأمن القومي العربي، وخصوصا في منطقة شبه الجزيرة العربية ككل، فمن دون استقرار سياسي وأمني للصومال، بعد هذه الفترة الطويلة من الحروب والأزمات، يتهدد أمن الملاحة وكذا تجارة النفط في الخليج العربي، وأزمة اليمن الراهنة التي يبدو أنها أصبحت غصة في حلق الرياض دليل كاف على أن أزمات الدول المحيطة بالخليج لن تكون في منأىً عن صراعاتها السياسية والأمنية، وهو ما يدفع تلك الدول إلى التحرك نحو اتجاه حلحلة أزمات كل من اليمن والصومال، ما ينطبق عليه المثل الصومالي “احذر من جريان المياه قبل أن يغرقك”.

وتتوسع دول كثيرة، منها الصين، كقوة صاعدة اقتصادياً في المشرق الأفريقي، وتتخذ من جيبوتي بوابة العبور إلى القارّة الأفريقية، لتنافس دولاً كثيرة، مثل الإمارات التي تتوسع شركتها، موانئ دبي، في مناطق مختلفة من القارة، فضلاً عن الصراع الاستراتيجي بين قطبي الاقتصاد العالمي، الصين وأميركا، وتركزهما في القرن الأفريقي عسكرياً (أميركا) واقتصادياً (الصين)، وهذا ما يشعل تنافساً دولياً في منطقةٍ تعج بمشكلات انعدام الأمن الغذائي، فجيبوتي يئن شعبها من طأة اقتصادٍ مترهل، بينما المجاعة تهدّد سكان الصومال أي أن نحو أربعة ملايين إنسان في القرن الأفريقي مهدّدون بالموت جوعاً، بينما الثروة الطبيعية في الدولتين لم تستغل بعد، والفساد يحرم صوماليين كثيرين من حقوقهم الاجتماعية.

يوحي تحويل مطار بربرة من قاعدة عسكرية إماراتية إلى مطار مدني للرحلات الجوية بأن أبوظبي تراجع سياساتها في الدول التي تقع في خلفيتها الاستراتيجية، فكما انسحبت جزئياً من اليمن عسكرياً، لا سياسياً، يبدو أنها تلملم أوراقها من الصومال، بعد أن تعرّضت لانتقادات كثيرة من الصوماليين، فمن دولة صديقة للصومال، ومساهمةٍ في بناء مدارس تعليم ودور أيتام ومستوصفٍ للأمهات في مقديشو، إلى دولة تعادي بلادهم، وتمزّق كيانهم الضعيف في أنظار كثيرين من المجتمع الصومالي، فضلاً عن حالة ضجر في صومالاند من البرلمان المحلي والشعب الصومالي.
ويذكر أن أهمية البحر الأحمر برزت في خضم الاستعمار الغربي للصومال (اتفاقية برلين عام 1984)، حيث تمركزت تلك الدول الأوروبية في شريط الساحل الصومالي مدخلا لها لاحتلال القارة السمراء، وبرز الاهتمام المصري بالمنطقة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، غير أن هذا الدور العربي تراجع في أعقاب التسعينيات، ومع بروز الرأسمالية واستئثارها بالاقتصاد والسياسة العالميين. وخليجياً، تحرّكت الإمارات لتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي، على الرغم من أنها تتحرّك للوراء يوما بعد آخر، ولكن الاهتمام بموانئ الصومال ازداد بعد اندلاع الحرب اليمنية، ما يعكس أن سياسات الدول العربية، سيما الخليجية، لم تكن هذه البقعة الاستراتيجية والقريبة منها في دائرة اهتماماتها، ما يفرض عليهم حالياً تبني سياسات خارجية مغايرة تتماشى مع التحولات الجيوسياسية في القرن الأفريقي، وأن لا تقع مجدّداً في سياسة التغافل، أو البقاء في غرفة الاستجمام السياسي.

السياسة الدولية الرامية إلى التموضع أكثر في القرن الأفريقي منبعها التنافس العالمي بين عمالقة الاقتصاد وصعود سياسات الدول العربية نحو القرن الأفريقي. ويضع عدم التكافؤ في الفرص والحضور في المنطقة لكل دولة مقدارها واستثماراتها في هذه البقعة الجغرافية ذات الثروة الطبيعية الهائلة، فضلاً عن مكانة موقعها وأهميتها في التجارة العالمية. وفي هذا الصدد، تحظى قطر بفرص واعدة، مثل الرياض التي تعزز حضورها في جيبوتي، بعد تراجع الإمارات إثر نزاعها مع السلطات الجيبوتية بعد فسخ عقدها عام 2018. ويعود تضارب المصالح والتنافس الخليجي الراهن في المنطقة بخفي حنيْن، ما لم تكن هناك رؤية موحدة ومشتركة، على أساس أن مصالح دول الخليج تأتي ضمن سياق خليجي واحد. وهذه السياسة الواحدة هي التي تقدر على دخول تنافس استراتيجي مع أقطاب عالمية كبرى، بينما الفرقة والتمزق يضعفان جهود صياغة توجهٍ خارجي خليجي، مهما كان حجم هذا الاهتمام المتنافر فيما بينهما، اقتصادياً وسياسياً، و”رحم الله عبداً عرف قدر نفسه”.