متى يعود السودان إلى أهلِه؟

16
متى يعود السودان إلى أهلِه؟
متى يعود السودان إلى أهلِه؟

أفريقيا برس – السودان. لنتّفق مع المتّفقين على أن استرداد رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قصر الرئاسة في الخرطوم، من قوةٍ لـ”الدعم السريع” كانت تحتلّه، حدثٌ تنعطف فيه الحرب الأهلية في السودان إلى منعرجٍ آخر، يُؤمل أن يكون انتهاءَ هذه الحرب تماماً، وهي التي لم تكن، في تفاصيل كثيرة لها، حرباً بالمعنى التقليدي، وإنما جولاتِ تقتيلٍ في المدنيين وترويعٍ للناجين، واغتصاب نساء، وضربٍ في الأسواق والمنشآت الحكومية، ونهب منازل، فضلاً عن التدمير الأعمى، والتخريب المتمادي. وإذا كانت قوات الدعم السريع من اقترفت القسط الأكبر من هذه المصائب، في عاميْن من هذه الحرب، المجنونة حقّاً في واحدٍ من نعوتها المستحقّة، فإن في سجل الطرف الآخر، الجيش السوداني، ارتكاباتٍ وفظاعاتٍ مشهودةً في الأثناء. ولأن آذاننا لم تقع بعد على إعلانٍ حاسمٍ أن الحرب انتهت، وأن الشرعية السودانية تمكّنت من الإجهاز على القوات المتمرّدة، وأن الأخيرة جهرت بتسليمها بانتكاستها، إنْ لم نقل هزيمتَها، فإن القلق يصير أكثر من مشروعٍ ووجيه، بل وضرورياً أيضا، من أن يكون تصوير البرهان متجوّلاً في القصر الرئاسي المُستعاد، ببزّةٍ عسكريةٍ ومتمنطقاً مسدّساً، إيحاءً مشهدياً بنصرٍ مؤكّد، كما مشهد هبوط طائرة الرجل نفسه، وهو رئيسُ البلاد وقائد جيشِها في مطار الخرطوم، المُستعاد أيضاً من قوات الدعم السريع التي كانت تسيطر عليه، فيما الحادث أن الحرب لمّا تضع أوزارَها بعد. ويبيحُ إعلان قوات الدعم السريع أمس، غداة تحرير الخرطوم منها، إنها لن تتراجع ولن تستسلم، هذا التقدير، وافتراض جولاتٍ للحرب مرتقبةٍ في أطرافٍ ومحافظاتٍ في السودان الشاسع.

استهلك خطاب قوات الدعم السريع الذي أشاعته لمّا أشعلت الحرب (أو أشعلها الطرف الآخر؟) في رمضان قبل عامين، نفسه، بسرعةٍ قياسيةٍ، فلم يكن مقنعاً لجمهرةٍ عريضةٍ من السودانيين أن هذه المليشيا التي نهضت على حظوةٍ أحرزتها من الرئيس المخلوع، عمر البشير، وبارَك وجودَها عبد الفتاح البرهان، توسّلت مقاتلة الجيش لإقامة الديمقراطية في السودان، وتحرير السلطة من الإسلاميين الذين يهيمنون على صناعة القرار في الدولة، بعدما تمكّنوا من هذا في ظلال البرهان ورفاقه. ولم يكن مقنعاً، في المقابل، أن قيادة الجيش كانت تدافع عن شرعيةٍ مستهدفةٍ، للمضي في مسار سياسيٍّ انتقاليٍّ يكتمل بتسليم السلطة لحكومةٍ مدنية، فليست منسيةً جولة أكتوبر (2021) الانقلابية إيّاها على حكومة عبدالله حمدوك، والإجهاز على ما كان قد جرى التوافق عليه مع قوىً مدنيةٍ في البلاد، في يوليو/ تموز 2019، وبعث على تفاؤل كثيرين، منهم صاحب هذه الكلمات، فقد اشتمل على تنظيم تقاسمٍ مدنيٍّ وعسكريٍّ في الحكم، للعبور من هذه المحطّة الانتقالية إلى هيكليّةٍ لنظامٍ سياسيٍّ جديد، ينهض بالسلام والأمن في السودان، ويهيئ لإنقاذٍ اقتصاديٍّ ما أمكن، غير أن ما تدحرجت إليه الوقائع تالياً كشف كم أن هذا البلد مُبتلى بنقصانٍ في قدرة نخبه، وبناة مؤسّساته، عن بناء تصوّر وطني جامع، تتعايش في إهابه التمايزات العريضة فيه، وينظّم إدارة الخلافات بين القوى التي تتدافع في ما بينها باتجاه إحراز السلطة، فيتخفّف المجتمعُ من وطأة الأهواء الأيديولوجية، ويتحرّر السياق العام من هوس العساكر بالسلطة وبالحكم الشمولي.

كتب الراحل منصور خالد كتاباً سمّاه “النخبة السودانية وإدمان الفشل”، نشرَه في 1993، أظنّ أن أكبر قيمةٍ فيه عنوانُه الذي ما زال صالحاً لرمي النخبة السودانية الراهنة بالفشل المُدمن عليه، عندما وقعْنا فيها على من ناصر قوات الدعم السريع في تجريد الحرب على الجيش، وعلى من توطّن فيه الاعتقاد بأن أي خيار مشروع، ويمكن الأخذ به، للإجهاز على “الكيزان المُفسدين” (الإخوان المسلمون وغيرُهم من إسلاميين في أعراف خصومهم). ومع ثناءٍ مقدّرٍ لكل الدعوات والمطالبات التي تتابعت في الأشهر الأخيرة لوقف الحرب، وبأيّ كيفيّةٍ، إلا أن تسمية الأشياء (وهي ليست أشياء طبعا) بأسمائها قليلا ما صودفت في هذه المبادرات.

ولأن أولوية الأولويات تبقى إنقاذ السودان من فشل عسكره ومدنييه الذي يرتدّ البلد القهقرى في تسارعٍ مضطرد، ولأن قوىً ودولاً عربية وغير عربية مطالبةٌ بأن تكفّ عن نصرة “الدعم السريع”، وأخرى مطالبةٌ بالضغط على قيادة الجيش لأن تتعهّد بمغادرة الحكم بعد “وقفٍ لإطلاق النار” مُشتهى، فإن لا شيء يمكن طرحُه في هذا المختَتم سوى تدخّل عربي وأممي ضاغط من أجل أن تتخلّص الرؤوس الحامية مما تبقّى في أوهامها، عن نصرٍ قد تُنجزه، فيما النصر هو أن يعود السودان إلى أبنائه، ما أمكن، وهذا استحقاقٌ عسير، للأسف.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن السودان عبر موقع أفريقيا برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here