أفريقيا برس – السودان. عندما تدير محرك سيارتك لفترة، ستلاحظ ارتفاع حرارته، أليس كذلك؟ نفس الأمر ينطبق على التلفاز والحواسيب والهواتف ومصابيح الإضاءة وأغلب الأجهزة التي نستخدمها في المنازل والمصانع.
وفي عالم تعتصره أزمة طاقة متصاعدة، يبرز سؤال جوهري، هل يمكن استعادة جزء من تلك الحرارة الهائلة المهدرة كل يوم في مليارات الأجهزة حول العالم؟
الحرارة مهدرة في كل مكان، وتبقى بلا استخدام تقريبًا. لكن دراسة جديدة، منشورة في دورية “كوميونيكيشنز فيزيكس” التابعة لمؤسسة “نيتشر” العلمية، تكشف عن اقترابنا من تغيير هذا الوضع جذريا، وبطريقة قد تُعيد رسم حدود فيزياء الحرارة التي عرفناها خلال القرنين الماضيين.
يقول أحمد قاسم، الباحث في قسم الكيمياء بجامعة فرجينيا كومنولث الأميركية، وغير المشارك في الدراسة: “نهدر يوميا كميات هائلة من الطاقة. فمثلا محرك سيارتك يفقد حوالي 60% من طاقته على شكل حرارة من خلال العادم والمبرد. وعلى مستوى العالم، نهدر سنويا ما يعادل إجمالي استهلاك طاقة 15 دولة!”.
لكن المشكلة ليست في هذا الهدر الحراري فحسب، بل في العجز الفيزيائي العميق عن استعادتها بكفاءة. فكل محرك حراري في الكون، من المحركات البخارية إلى محطات الطاقة النووية، يخضع لقيد فيزيائي صارم يسميه العلماء “حدّ كارنو”.
كفاءة محركاتنا بدائية
وُضع حدّ كارنو عام 1824 على يد المهندس الفرنسي “سادي كارنو” ليحدّد أقصى كفاءة ممكنة لتحويل الحرارة إلى حركة مفيدة، يشرح قاسم: “ينص مبدأ كارنو على أن الكفاءة القصوى لأي محرك حراري تعتمد فقط على درجتي الحرارة”، أي أنه بناء على فرق درجات الحرارة بين المصدر الساخن والبارد، يمكن تحديد كفاءة المحرك، ولا يمكن لأي محرك، مهما كان تصميمه، أن يتجاوز هذا الحد.
بمعنى آخر، حتى لو كانت الحرارة هائلة، فمعظمها يصبح غير قابل للاستخدام، لأنه يتحول إلى اهتزازات عشوائية للذرات لا يمكن تحويلها إلى عمل. محرك السيارة مثلا يحرق الوقود ليرفع درجة الحرارة، ثم يستخدم انتقال الحرارة من الساخن إلى البارد لإنتاج حركة (شغل) من خلال دوران المحرك وتحرك السيارة.
يحدث هذا من خلال احتراق الوقود داخل الأسطوانة ويرتفع الهواء ويتمدد بسبب درجات حرارة الاحتراق العالية جدًا. هذا الهواء الساخن يتمدد ويدفع المكبس بقوة، وتتحول حركة المكبس إلى دوران، وينتقل هذا الدوران للعجلات فتتحرك السيارة. لكن لا تتحول كل الحرارة الناتجة إلى حركة. في الحقيقة، معظم الحرارة تضيع، وهنا يظهر حدّ كارنو.
فمحرك السيارة لديه منطقتان مهمتان منطقة ساخنة جدًا حيث يحترق الوقود داخل الأسطوانة، ومنطقة باردة تستمد برودتها من درجة حرارة الهواء الخارجي أو ماء التبريد الذي يضاف من الخارج للسيارة.
انتقال الحرارة من الساخن إلى البارد هو ما يحرك المكبس، لكن كفاءة هذا الانتقال الحراري في عالمنا الحقيقي ضعيفة جدا، حيث تهدر سيارتك حوالي 70-80% من احتراق البنزين على شكل حرارة، مما يجعل كفاءة المحركات تحت سقف لا يمكنها تجاوزه أبدًا.
كل ما يحاول المهندسون فعله في صناعة السيارات لعقود هو زيادة الفارق بين الساخن والبارد، فكلما كان الفرق بينهما أكبر، تزيد الكفاءة، وكلما صغر الفارق، قلت الكفاءة.
لكن المشكلة تكمن في أن المحرك إذا أصبح ساخنا جدا ولم يتم تبريده، تقترب حرارة “البارد” من حرارة الاحتراق بسبب ارتفاع حرارة السيارة ككل، فيقل الفرق، وتتوقف قدرة المحرك على توليد الحركة، وقد يتوقف المحرك!
لهذا السبب تحتاج السيارات إلى مشعّ التبريد معروف باسم “الرادياتير” أو المبرد، ومروحة، وماء التبريد، ودورة تبريد كاملة لمنع ارتفاع حرارة الجزء الذي يفترض به البرودة، لأن اقتراب حرارة الساخن من البارد أو العكس يقلل الفارق، بالتالي يقلل الكفاءة بشكل مباشر، وفق حدّ كارنو.
اختراق الحاجز الكوني
طوال 200 عام، لم تستطع أي تقنية، تقليدية أو متقدمة، أن تتجاوز حدّ كارنو. لكن الدراسة الجديدة تقدّم مفاجأة هائلة عبر فيزياء الكم التي قد تسمح أخيرًا بفعل ذلك.
تكمن الثورة في استخدام الباحثين حالة كمومية خاصة تسمى سائل توموناغا-لوتينجر، وهو طور فريد يحدث عند تحرك الإلكترونات في بُعد واحد فقط، مثل السير على طريق ضيق لا يسمح بتجاوز السيارات بعضها بعضا.
يشرح قاسم: “عند إضافة الحرارة، تتبدد الطاقة بسرعة في معظم المواد وتصل الإلكترونات إلى توازن حراري عشوائي. لكن في سائل توموناغا-لوتينجر، لا تستطيع الطاقة الانتشار عشوائيا، وإنما تبقى منظمة بشكل استثنائي”. هذا التنظيم يمنع تحوّل الحرارة إلى “ضوضاء حرارية”، ويبقيها في هيئة قابلة للاستخدام.
ليس هذا فحسب، بل إن الإلكترون ذاته يتفكك إلى جزأين مستقلين، شحنة ولف مغزلي، كل منهما يسير بسرعة مختلفة، مما يحافظ على “طبقات” منتظمة من الطاقة غير المختلطة.
يقول توشيماسا فوجيساوا من قسم الفيزياء بمعهد طوكيو للعلوم في اليابان، في تصريح حصلت الجزيرة على نسخة منه: “تشجعنا هذه النتائج على استخدام السائل الكمومي كمصدر طاقة غير حرارية في تصميمات جديدة لحصاد الطاقة”.
يضيف قاسم عن السائل الكمومي: “الأمر أشبه بدلو من الماء، إذا سخّنت أحد جوانبه في مادة عادية، ينتشر الدفء خلال مياه الدلو سريعًا. أما في الحالة الكمومية (توموناغا-لوتينجر)، يبقى الماء مُنقسمًا إلى طبقات ساخنة وباردة. ويمكن استغلال هذا الفرق المنظَّم في إنتاج شغل أكثر بكثير من الماء الدافئ المتجانس”.
محرك طاقة بحجم الذرّة
لتحويل الطاقة المنظمة إلى كهرباء، استخدم الباحثون نقطة كمومية، وهي جزيء نانوي يعمل كمرشّح فائق الدقة للطاقة. ويوضح قاسم: “النقطة الكمومية تعمل كمحول طاقة مجهري، مثل عجلة مائية متناهية الصغر تعمل فقط مع قطرات الماء الفردية. فهي تسمح فقط للإلكترونات ذات الطاقة المحددة بالمرور، وهذا ما يجعلها فعّالة جدا في التقاط الطاقة من الحرارة المهدرة”.
فعندما تضرب الإلكترونات “الساخنة” النقطة الكمومية، تلتقطها ثم تطلقها مرة أخرى بطاقة أقل، ويتحوّل الفرق في الطاقة مباشرة إلى جهد كهربائي. بمعنى آخر، النقطة الكمومية تعمل مثل بطارية مجهرية تُشحَن بالحرارة.
ولاختبار فعالية نهجهم، قارن الباحثون حالتيْن باستخدام نفس كمية الحرارة المهدرة، حالة حرارية عادية حيث الطاقة عشوائية، والحالة الكمومية المنظمة.
وكانت النتائج مهمة، ففي الحالة الحرارية العادية لم يتخط الجهد الكهربائي المتولد الـ50 ميكروفولتا، بينما في الحالة الكمومية المنظمة، وصل الجهد الكهربائي إلى 130 ميكروفولتا، أي زيادة بمعدل 160% في الجهد الكهربائي، وارتفاع ملحوظ في الكفاءة يتجاوز حدّ كارنو التقليدي!
يقول فوجيساوا: “أشارت نتائجنا إلى إمكانية تحويل الحرارة المهدرة من الحواسيب الكمومية والأجهزة الإلكترونية إلى طاقة قابلة للاستخدام من خلال حصاد الطاقة عالي الأداء”.
ويصف قاسم النتائج بما يشبه إيجاد ثغرة في أحد أهم قوانين الفيزياء الأساسية، ويقول: “كأن الباحثون لم يكسروا حدّ كارنو، بل عملوا في نظام لا ينطبق عليه حدّ كارنو أصلا”.
تغيير خريطة الطاقة
إذا أمكن تطوير التقنية على نطاق كبير، فإن الاستخدامات المحتملة هائلة، وقد تشمل محركات السيارات وأنظمة العادم، حيث يمكن استعادة جزء من الـ70-80% من الطاقة التي تُهدر كحرارة. كما قد تستخدم في رقائق الحاسوب والأجهزة الإلكترونية حيث تضيع الطاقة على شكل حرارة ترتفع معها تكاليف التبريد.
كما قد ننجح في خفض الهدر الحراري الذي يصل في بعض محطات توليد الطاقة الكهربائية إلى أكثر من 60%. يقول قاسم: “إذا نجحنا في استعادة جزء من الحرارة المهدرة، يمكننا تقليل استهلاك الطاقة العالمي وانبعاثات الكربون بشكل كبير”.
ورغم ما تمثله هذه الدراسة من تطور فيزيائي لافت، فإنها لا تقدم تحسينا تدريجيا، وإنما اختراق مفاهيمي يفتح الباب لعصر جديد من المحركات والمولدات الحرارية، يختتم قاسم رؤيته بلهجة تجمع بين التفاؤل والحذر: “ما زلنا في المراحل الأولية، لكن إذا نجح تطوير هذه التقنية، فقد نكون أمام لحظة مفصلية في تاريخ الطاقة. لحظة تشبه الانتقال من الفحم إلى الكهرباء، أو من الآلات البخارية إلى المحركات الحديثة”.
وسيعني نجاح هذا النهج بالضرورة تغير شيء أساسي لطالما رافقنا كبشر، فالعصر القادم قد يكون عصر استعادة الطاقة بدلًا من هدرها للمرة الأولى في تاريخنا البشري. وقد تدفع وفرة الطاقة عالمنا وحضارتنا البشرية إلى حدود يصعب تخيلها في اللحظة الراهنة.





