أفريقيا برس – السودان. يدور الجدل حاليا داخل أوروبا حول إنهاء نظام رخصة القيادة مدى الحياة باعتباره تحولا جوهريا في النظرة إلى مفهوم القيادة نفسه، إذ لم تعد تصنف حقا ثابتا يُكتسب مرة واحدة ويحتفظ به إلى الأبد، بل مسؤولية اجتماعية متغيرة تستدعي تقييما دوريا.
وأشار تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية -بعنوان “القيادة ليست حقا مطلقا، بل مسؤولية جماعية”- إلى أن المشكلة الأساسية لا تكمن في وجود سائقين كبار في السن، بل في عدم إدراكهم لتدهور قدراتهم على القيادة، لأن التراجع الصحي يحدث تدريجيا، وربما لا يكون السائق يعي أثره على قدرته على اتخاذ القرار أو التعامل مع مواقف الطوارئ.
وهذا الانخفاض في الكفاءة غير الملحوظ يتسبب في عدد معتبر من الحوادث، وفق تقديرات خبراء السلامة المرورية، وهو ما جعل فكرة الرخصة مدى الحياة تبدو أقل ملاءمة لواقع أوروبي تتغير فيه البنية العمرية بسرعة.
النقاش الأوروبي
تتركز أطراف النقاش على البعد الصحي، والتفاوت التشريعي الكبير بين دول الاتحاد الأوروبي، ففي حين تفرض بعض الدول فحوصا طبية منتظمة على السائقين بدءا من سن معينة، تسمح أخرى باستمرار القيادة دون أي تقييم دوري، وهو ما أحدث فجوة تشريعية داخل فضاء واحد يفترض أن يقوم على معايير مشتركة للسلامة.
وقد جعل هذا التباين رخصة القيادة أداة غير منسقة بين الدول الأعضاء، وأضعف فعالية السياسات الأوروبية في الحد من الحوادث.
وتشير الصحيفة إلى أن الدعوة لإنهاء الرخصة غير المحدودة تأتي استجابة لضغط متواصل من منظمات السلامة المرورية التي ترى أن غياب التقييم الدوري يعرض للخطر، ويجعل من الطرق الأوروبية مساحات مفتوحة أمام سائقين من المحتمل أن يكونوا قد فقدوا جزءا من قدراتهم الأساسية.
ويبرز التقرير خطورة أخرى تتعلق بالتطور التكنولوجي في السيارات الحديثة، الذي أسهم في زيادة شعور بعض السائقين بالاطمئنان المفرط، فمع اعتماد المركبات أنظمة مساعدة ذكية، بات بعض السائقين يعتمدون اعتمادا كبيرا عليها لتعويض نقص القدرات البشرية، وهو ما يجعل أي خلل صحي، في أثناء القيادة، أكثر خطورة لأن السائق ربما لا يدرك حدود ما يمكن للتقنيات أن تقدّمه في لحظات الأزمة.
وتؤكد لوموند أن أحد الأسباب التي دفعت المفوضية الأوروبية لطرح الإصلاح هو تنامي الحوادث التي يظهر فيها بوضوح أن السائق لم يعد يمتلك القدرات الذهنية أو البصرية الضرورية، رغم امتلاكه رخصة سارية لسنوات طويلة.
ومن هنا جاءت فكرة فحص الأهلية بشكل دوري باعتباره إجراء وقائيا لا عقابيا، يساعد السائق نفسه ويحمي الآخرين في آن واحد، وهو ما يمهّد لإعادة تعريف العلاقة بين السائق والطريق، بحيث تصبح القيادة مرتبطة بمسؤولية جماعية تتجاوز الفرد وتخضع لمعايير تقييم واضحة.
الإصلاح القانوني الأوروبي الجديد
يشكّل الإصلاح القانوني الجديد الذي تبناه الاتحاد الأوروبي بشأن رخصة القيادة منعطفا حاسما في مسار تحديث التشريعات المرورية داخل القارة، إذ يهدف إلى إنشاء منظومة موحدة للعقوبات وضمان ألا يفلت السائقون من تبعات المخالفات مثلما كان يحدث سابقا بسبب التفاوت القانوني بين الدول.
فحسب تقرير يورونيوز، كان أحد أبرز التحديات التي واجهت أوروبا لسنوات طويلة يتمثل في قدرة السائقين الممنوعين من القيادة في بلد ما على مواصلة استخدامها داخل دول أخرى دون أي قيود تُذكر، مما جعل الحدود الداخلية للاتحاد تتحول عمليا إلى ثغرة قانونية تسمح بحدوث مخالفات خطيرة لها تبعات مباشرة على السلامة العامة.
ينطلق الإصلاح الجديد من مبدأ حاسم يتمثل في أن العقوبة المرورية يجب أن تكون ذات أثر شامل داخل كامل الاتحاد الأوروبي، فابتداء من دخول التشريع حيّز التنفيذ، سيصبح أي قرار يتعلق بسحب الرخصة أو تعليقها أو حتى منع مؤقت من القيادة قرارا نافذا في جميع الدول الأعضاء دون استثناء، إذ سترسل المعلومات فورا عبر نظام أوروبي موحد لتبادل البيانات مع ضمان وصولها إلى السلطات المختصة كافة.
ويعالج هذا التحول القانوني، الذي تأجل تطبيقه لسنوات بسبب الخلافات التقنية والقانونية، جميع أنواع المخالفات والفوضى المرورية داخل الاتحاد الأوروبي.
ويهدف هذا الإصلاح إلى التعامل مع العقوبات من زاوية الردع القوي، إذ يُدرجها ضمن تصور أوسع يربط بين السلامة المرورية والعدالة القانونية.
في الماضي، كانت الحوادث الخطيرة التي يرتكبها بعض السائقين، سواء بسبب القيادة تحت تأثير الكحول أو السرعة المفرطة أو التهور، تنعكس على بلد واحد فقط بينما لا تمنعهم القوانين من القيادة في بلدان أخرى، وهو ما أدى -وفق تقرير ليورونيوز- إلى حوادث دامية كان يمكن تجنبها لو كانت الأنظمة الوطنية مترابطة فعليا.
وبموجب النظام الجديد، لم يعد بإمكان أي سائق خسر رخصته في مدريد مثلا أن يقود في باريس أو برلين أو روما، لأن العقوبة أو حتى التجريد من الرخصة أصبحت قرارا أوروبيا موحدا.
وإلى جانب توحيد العقوبات، يتضمن الإصلاح تحديثا عميقا لآلية إدارة قواعد البيانات، فالاتحاد اعتمد منصة مطوّرة تربط وزارات النقل والشرطة ومراكز الرخص في الدول الأعضاء، وتسمح بالتحقق الفوري من حالة أي سائق، بما في ذلك سوابقه القانونية ونقاط المخالفات المسجلة عليه.
وقد وصفت يورونيوز هذه الخطوة بأنها ثورة هادئة، ستمنع التلاعب الذي كان يحدث باستخراج رخص متعددة أو استخدام ثغرات مرتبطة بتعدد اللغات أو الأنظمة الإدارية.
كما ستسهم المنصة في تسريع تبادل القرارات القضائية بين الدول، خاصة في الحالات التي تتعلق بحوادث مميتة أو مخالفات خطيرة تستدعي إجراءات عاجلة.
الشباب وتغيير قواعد الحصول على الرخصة
حسب بيان رسمي لمجلس الاتحاد الأوروبي، فإن النقاش حول مستقبل تعليم القيادة في القارة لم يعد منفصلا عن النقاش العام حول إنهاء الرخصة مدى الحياة، ولكنه أصبح أحد محاوره الأساسية.
فالقناعة الأوروبية الجديدة ترى أن إصلاح رخصة السياقة يبدأ من نقطة البداية نفسها: أي اللحظة التي يدخل فيها الشاب إلى عالم القيادة، وما يرافق ذلك من تقييم تربوي وسلوكي وصحي يؤسّس لمسار طويل من التزام قواعد السلامة.
ويشير البيان الأوروبي إلى أن تشديد نظام العقوبات وتوحيدها بين الدول الأعضاء سيجعل تدريب الجيل الجديد على القيادة الآمنة ضرورة ملحة، لأن السلوكيات الخطيرة أو المتهورة التي كانت تعامل سابقا ضمن إطار محلي باتت الآن تراقب أوروبيا وتترتب عليها عواقب مشتركة داخل كافة بلدان الاتحاد.
ويتجلى التحول الأبرز في إعادة تعريف مفهوم تعليم القيادة بحيث لم يعد مقتصرا فقط على إجادة التحكم بالسيارة، ولكنه أصبح يشمل مجموعة واسعة من المهارات المرتبطة بالسلامة، مثل تقدير المخاطر، والانتباه للبيئة المحيطة، وفهم الأنظمة الرقمية الحديثة داخل السيارة، إضافة إلى القدرة على اتخاذ القرارات السريعة في الظروف الطارئة.
وتعمل المفوضية الأوروبية، وفق توجهات الإصلاح، على إدخال وحدات تربوية جديدة في مدارس تعليم السياقة تتعلق بالقيادة الصحيحة والتعامل مع المشاة والدراجات، والقيادة الليلية، وهي كلها عوامل أظهرت الإحصاءات أنها تلعب دورا محوريا في نسب حوادث السائقين الجدد.
ويحتل عنصر السن دورا مركزيا في النقاش، إذ تتجه دول عدة -مثل ألمانيا وإسبانيا ودول البلطيق- إلى اعتماد نموذج يسمح للشباب بقيادة السيارة ابتداء من سن 17 عاما شرط وجود مرافق مؤهل.
وينظر إلى هذا التوجه كتجربة أصبحت اليوم مطروحة على أجندة الإصلاح الأوروبي، باعتباره وسيلة لتكوين خبرة مبكرة تحت إشراف مباشر، وهو ما تؤكد الدراسات أنه يخفض نسبة الحوادث عند حصول السائق على رخصة كاملة في سن 18 عاما.
غير أن الجدل لم يختف بعد، فهناك دول تعارض هذا النموذج خشية زيادة الضغط على شبكات الطرق أو تعزيز الثقة الزائدة لدى السائقين اليافعين، بينما يرى مؤيدوه أنه يملأ فجوة عملية بين النضج القانوني والمهارة الفعلية.
ختاما، تقدم التجربة الأوروبية درسا مهما للعالم العربي الذي يحتاج كثير من بلدانه إلى تحديث نظام رخص القيادة وربطه بفحوصات دورية ومعايير موحدة لضمان سلامة الطرق.





